الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بصيرة فى السكون
سَكَن المتحرك، وأَسكنته وسكَّنته. وسَكَنوا الدّارَ، وسكنوا فيها. وهم سَكْن الدّارِ، وساكنتها، وساكِنوها، وسُكَّانها. وتركتهم على سَكِنَاتهم، ومَكُِناتهم، ونَزَِلاتهم: مساكنهم وأَماكنهم ومنازلهم. والسَّكينة الطمأْنينة.
وقد ذكر الله تعالى السَكِينة فى القرآن فى ستَّة مواضع:
الأَوّل: قوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} أَى ما تسكُنون به إِذا أَتاكم، أَو هى شىء كان له رأْسٌ كرأْس الهِرّ من زبرجد وياقوت، وجناحان.
الرّابع: قوله: {هُوَ الذي أَنزَلَ السكينة فِي قُلُوبِ المؤمنين ليزدادوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السماوات والأرض} .
السّادس: قوله: {إِذْ جَعَلَ الذين كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الحمية حَمِيَّةَ الجاهلية فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين} الآية.
وكان بعض المشايخ إِذا اشتدّت عليه الأُمور قرأَ آيات السّكينة. ويُرْوَى عنه فى واقعة عظيمة جرت له فى مرضه يعجز العقول والقرائح عن حملها من محاربة أَرواح شيطانيّة ظهرت له فى حال ضعف القوّة. قال: فلمّا اشتدّ علىَّ الأَمر قلت لأَقاربى ومَن حَوْلِى: اقرءُوا آيات السّكينة. قال: ثمّ انقطع عنى ذلك الحال وجلست وما بى قَلَبَة. وقد جرّبتها الأَكابر عند اضطراب القلب ممّا يَرِد عليه، فرأَوا لها تأْثيرًا عظيماً فى سكونه وطمأْنينته.
وأَصل السَّكِينَة هى: الطُّمأْنينة والوَقار والسّكون الَّذى يُنزله الله فى قلب عبده عند اضطرابه من شدّة المخاوف، فلا ينزعج بعد ذلك لما يَرِد عليه، ويوجب له زيادة الإِيمان، وقوّة اليقين والثبات. ولهذا أَخبر سبحانه
عن إِنزالها على رسوله وعلى المؤمنين فى مواضع القَلَق والاضطراب؛ كيوم الغار، ويوم حُنين ونحوه.
وقال ابن عبّاس: كلّ سكينة فى القرآن فهى طمأنينة إِلَاّ فى سورة البقرة. واختلفوا فى حقيقتها، وهل هى عينٌ قائمة بنفسها أَو معنًى، على قولين:
أَحدهما: أَنَّها عينٌ، ثمّ اختلف أَصحاب هذا القول فى صفتها. فُروِىَ عن علىّ بن أَبى طالب أَنها ريح صفَّاقة لها رأْسان، ووجهها كوجه الإِنسان. وعن مجاهد: أَنَّها على صورة هِرّة لها جناحان وعينان لهما شعاع، وجناحاها من زمرّد وزبرجد، فإِذا سمعوا صوتها أَيقنوا بالنَّصر. وعن ابن عبّاس: هى طَسْت من ذهب من الجنَّة، كان يغسل فيه قلوب الأَنبياءِ. وعن ابن وهب: هى روح الله يتكلَّم، إِذا اختلفوا فى شىءٍ أَخبرهم ببيان ما يريدونه.
والثَّانى: أَنَّها معنى. ويكون معنى قوله: {فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} أَى فى مجيئه إِليكم سكينةٌ وطمأْنينة.
وعلى الأَوّل يكون المعنى أَنَّ / السكينة فى نفس التَّابوت، ويؤيّده عطف قوله:{وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ موسى وَآلُ هَارُونَ} . وقال عطاءُ بن أَبى رَبَاح:
فيه سكينة هى ما يعرفون من الآيات فيسكنوا إِليها. وقال قتادة والكلبى: هى من السّكون، أَى الطمأنينة من ربّكم. ففى أَىّ مكان كان التَّابوت اطمأَنوا إِليه وسكنوا. قال: وفيها ثلاثة أَشياء: للأَنبياء معجزة، ولملوكهم كرامة، وهى آية النُّصرة، تخلع قلوب الأَعداءِ بصوتها رُعْبًا إِذا التقى الصّفَّان للقتال.
وكرامات الأَولياءِ هى من معجزات الأَنبياءِ؛ لأَنهم إِنَّما نالوها على أَيديهم وبسبب اتّباعهم، فهى لهم كرامات، وللأَنبياءِ دلالات معجزات. فكرامات الأَولياءِ لا تعارض معجزات الأَنبياءِ، حتَّى يطلب الفُرقان بينهما، لأَنَّها من أَدلَّتهم وشواهد صدْقهم، ثمّ الفُرقان بين ما للأَنبياءِ وما للأَولياءِ من وجوه كثيرة ليس هذا موضع ذكرها.
واعلم أَنَّ السكينة الَّتى تنطِق على لسان المحدَّثين ليست هى شيئا يُملك، إِنما هى شىء من لطائف صنع الله تُلقِى على لسان المحدّث الحكمة؛ كما يُلقِى الملك الوحىَ على قلوب الأَنبياءِ، ويُنطق المحدّثين بنُكَت الحقائق مع ترويح الأَسرار وكشف الشُّبَه. والسّكينة إِذا نزلت فى القلب اطمأَنَّ بها، وسكنت إِليها الجوارح، وخشعت، واكتستِ الوقار، وأَنطقت اللسان بالصّواب والحكمة، وحالت بينه وبين قول الخَنَى والفُحش واللَّغو والهُجْر وكلّ باطل. وقال ابن عبّاس رضى الله عنهما: كنَّا نتحدّث
أَنَّ السكينة تنطق على لسان عُمَرَ وقلبه. وكثيرا ما ينطق صاحب السكينة بكلام لم يكن عن قدرة منه ولا رويَّة، ويستغربه هو من نفسه، كما يستغربه السّامع له. وربّما لم يعلم بعد انقضائه بما صدر منه. وأَكثر ما يكون هذا عند الحاجة، وصِدْق الرغبة من السائل والمُجالس، وصِدْق الرغبة منه هو إِلى الله. ومن جرّب هذا عرف قدر منفعته وعظمها، وساءَ ظنُّه بما يحسن به الغافلون ظنونهم فى كلام كثير من الناس. وهى موهبة من الله تعالى ليست بسببيّة ولا كَسْبية، كالسّكينة الَّتى كانت فى التَّابوت تُنقل معهم حيث شاءُوا. وقد أَحسن من قال:
وتلك مواهب الرّحمان ليست
…
تُحَصَّل باجتهادٍ أَو بكَسْبِ
ولكن لا غِنَى عن بذل جهدٍ
…
بإِخلاص وجِدٍّ لا بلِعْبِ
وفضلُ الله مبذولٌ ولكن
…
بحكمته وعن ذا النصُّ يُنْبِى
فما من حكمة الرّحمان وضع الـ
…
كواكب بين أَحجارٍ وتُرْبِ
فشكرًا للذى أَعطاك منه
…
ولو قَبل المحلُّ لزاد ربِّى
والمسكين - بكسر الميم وفتحها -: من لا شىء له، وهو أَبلغ من الفقير.
وقوله تعالى: {أَمَّا السفينة فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} فإِنَّه جعلهم مساكين بعد ذهاب سفينتهم، أَو لأَن سفينتهم غير معتدّ بها فى جنب ما كان لهم
من السكينة. وقيل: الفقير أَبلغ. وقد بسطنا القول ووفِّينا الكلام فى شرح قولنا: المسكينة من أَسماءِ المدينة، فى كتابنا "المغانم المطابة فى معالم طابة". فلينظر من أَراد ذلك.