الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بصيرة فى الرجاء
رَجَا البئْرِ والسّماءِ وغيرهما: جانبهما. والجمع / أَرْجاءٌ.
والرجاءُ: الاستبشار بوجود فضل الربِّ تعالى، والارتياحُ لمطالعة كرمه، وقيل: هو الثِّقة بوجود الربّ. وقيل: الرّجاءُ ظن يقتضى حصول ما فيه مسرّة. وهو من أَجلِّ منازل السّالكين وأَعلاها وأَشرفها، وقد مدح الله تعالى أَهله وأَثنى عليهم فقال:{لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ الله واليوم الآخر} . وأَخبر تعالى عن خواصّ عباده الذين كان المشركون يزعمون أَنهم يتقربون بهم إِلى الله أَنهم كانوا راجين له خائفين منه فقال: {قُلِ ادعوا الذين زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضر عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلاً أولائك الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوسيلة أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} ، وفى الحديث الصَّحيح فيما يروى عن ربِّه تعالى:"ابنَ آدمَ إِنك ما دعوتنى ورجوتنى غفرت لك على ما كان منك ولا أُبالى".
فالرّجاءُ عبوديّة وتعلق بالله من حيث اسمه البَرّ المحسن. فذلك التعبد
والتعلق بهذا الاسم والمعرفة بالله هو الَّذِى أَوجب للعبد الرّجاءَ من حيث يدرى ومن حيث لا يدرى. فقوّة الرّجاءِ على حسب قوّة المعرفة بالله وأَسمائه وصفاته وغلبة رحمته على غضبه. ولولا رُوح الرّجاءِ لعطِّلت عبوديّة القلب والجوارح، وهُدّمت صوامِعُ وبيَعٌ وصَلواتٌ ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً. بل لولا روح الرّجاءِ لما تحرّكت الجوارح بالطَّاعة، ولولا رِيحه الطِّيبة لما جرت سُفُن الأَعمال فى بحر الإِرادات، قال بعض مشايخنا:
لولا التعلُّق بالرجاءِ تقطَّعت
…
نفسُ المحبّ تحسُّرًا وتمزُّقا
وكذلك لولا بَرْدهُ لحرارة الْـ
…
ـأكباد ذابت بالحجاب تحرّقا
أَيكون قطُّ حليفُ لا يُرى
…
برجائه لحبيبه متعلِّقا
أَم كلَّما قويت محبَّته له
…
قوى الرّجاءُ فزاد فيه تشوّقا
لولا الرّجا يحدو المطىّ لما سرت
…
بحُمولها لديارهم ترجو اللَّقا
وعلى حسب المحبّة وقوّتها يكون الرّجاءُ. وكلُّ محبٍّ راج وخائف بالضرورة، فهو أَرجى ما يكون بحيبيه أَحبَّ ما كان إِليه. وكذلك خوفه فإِنَّه يخاف سقوطه من عينه وطرد محبوبه له وإِبعاده واحتجابه عنه. فخوفه أَشدّ خوف. فكلّ محبّة مصحوبة بالخوف والرّجاء، وعلى قدر تمكُّنها من قلب المحبِّ يشتدّ خوفه ورجاؤه. ولكن خوف المحب لا يصحبه خشية بخلاف خوف المسىء، ورجاءُ المحبِّ لا يصحبه غاية بخلاف
رجاء الأجير. فأَين رجاءُ المحبِّ من رجاءِ الأَجير؟! بينهما كما بين حاليهما.
وبالجملة فالرّجاءُ ضرورى للسّالك والعارف، ولو فارقه لحْظه لتلف أَو كاد، فإِنَّه دائر بين ذنب يرجو غفرانه، وعيب يرجو إِصلاحه، وعمل صالح يرجو قبوله، واستقامة يرجو حصولها أَو دوامها، وقربٍ من الله ومنزلة عنده يرجو وصوله إِليها. ولا ينفكُّ أَحد من السَّالكين من هذه الأُمور أَو من بعضها.
والفرق بين الرّجاءِ والتَّمنِّى أَن التمنى يكون مع الكسل، ولا يسلك بصاحبه طُرُق / الجدّ والاجتهاد، والرّجاءُ يكون مع بذل الجهد وحسن التَّوكُّل، ولهذا أَجمع العارفون على أَنَّ الرّجاءَ لا يصحُّ إِلَاّ مع العمل.
والرّجاءُ ثلاثة أَنواع: نوعان محمودان، ونوعُ غُرورٍ مذموم. فالأَولان رجاءُ رجل عمل بطاعة الله على نور من الله، فهو راجٍ لثوابه، ورجل أَذنب ذنباً ثم تاب منه، فهو راج لمغفرته. والثالث رجل متماد فى التفريط والخطايا يرجو رحمة الله بلا عمل، فهذا هو الغُرور والتَّمنِّى والرّجاءُ الكاذب.
وللسّالك نظران: نظر إِلى نفسه وعيوبه وآفات عمله يفتح عليه بابَ الخوف، ونظر إِلى سعة فضل ربّه وكرمه وبرِّه يفتح عليه بابَ الرّجاءِ، "وهما كجناحى الطائر إِذا استويا استوى الطَّائر وتمَّ طيرانه".
واختلفوا أَىّ الرّجاءَين أَكمل، رجاء المحسن ثواب إِحسانه، أَو رجاء المذنب التائب عفو ربِّه وعظيم غفرانه؟ فطائفة رَجَّحت رجاءَ المحسن لقوّة أَسباب الرّجاء معه. وطائفة رجَّحت رجاءَ المذنب، لأَنَّ رجاءَه مجرّد عن علَّة رؤية العمل، مقرون برؤية ذِلَّة الذَّنب. قال يحيى بن مُعاذَ:"إِلهى أَحلى العطايا فى قلبى رجاؤُك، وأَعذب الكلام على لسانى ثناؤُك، وأَحبُّ السّاعات إِلىَّ ساعةٌ يكون فيها لقاؤُك". وقال أَيضاً: "يكاد رجائى لك مع الذُّنُوب يغلب على رجائى لك مع الأعمال، لأَنى أَجدنى أَعتمد فى الأَعمال على الإِخلاص، وكيف أُحرزها وأَنا بالآفات معروف. وأَجدنى في الذنب أَعتمد على عفوك. وكيف لا تغفرها وأَنت بالجود موصوف".
فإِن قلت: ما تقول فى قول من جعل الرّجاء من أَضعف [منازل] المريدين؟ قلت: إِنما أَرادوا بالنسبة إِلى ما فوقه من المنازل، كمنزلة المحبَّة والمعرفة والإِخلاص والصِّدق والتَّوكُّل والرِّضا، لا أَن مرادهم ضَعف هذه المنزلة فى نفسها وأَنها منزلة ناقصة. فافهم، فقد أَوضحنا لك أَنَّها من أَجلِّ المنازل وأَعلاها وأَشرفها. والله أَعلم.
وقال بعض المفسِّرين: ورد الرّجاءُ في القرآن على ستَّة أَوجه:
أَوّلها: بمعنى الخوف: {مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} ، أَى ما لكم لا تخافون. قال:
إِذا لسعته النَّحل لم يَرْجُ لسعها
…
وخالفها فى بيت نُوب عوامل
ومنه: {إِنَّهُمْ كَانُواْ لَا يَرْجُونَ حِسَاباً} ، وقوله:{مَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ الله} .
الثانى: بمعنى الطمع: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ} ، {أولاائك يَرْجُونَ رَحْمَتَ الله} .
الثالث: بمعنى توقُّع الثواب: {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ} .
الرَّابع: الرّجا المقصور بمعنى الطَّرَف: {والملك على أَرْجَآئِهَآ} .
الخامس: الرّجاء المهموز: {قالوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} أَى احبسه.
السَّادس: بمعنى التَّرك والتأْخير: {تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ} : تؤَخّره، {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} .