الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بصيرة فى شهد
الشُّهود والشَّهادة: الحضور مع المشاهدة، إِمّا بالبصر أَو البصيرة. وقد يقال للحضور مفردا؛ قال تعالى:{عَالِمُ الغيب والشهادة} . لكنّ الشهود بالحضور المجرّد أَولى، والشهادة مع المشاهدة [أَولى] .
/ ويقال للمَحْضَر مَشْهَد، وللمرأَة التى يَحضرها زَوجها مُشْهِد. وجَمْع مَشْهد: مشاهد، ومنه مشاهِد الحجّ، وهى مواطنه الشَّريفة التى تحضرها الملائكة والأَبرار من النَّاس. وقيل: مشاهد الحج: مواضع المناسك.
وقوله: {مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ} ، أَى ما حضرنا، {والذين لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} ، أَى لا يحضرونه بنفوسهم ولا بهمّهم وإِرادتهم.
والشهادة: قولٌ صادر عن علم حصل بمشاهدة بصر أَو بصيرة.
وقوله: {أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ} يعنى شهادة بمشاهدة البصيرة، ثمّ قال:{سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} تنبيهًا أَنَّ الشهادة تكون عن شُهود. وقوله: {لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} ، أَى تعلمون. وقولُه:
{مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات} ؛ أَى ما جعلتهم ممَّن اطَّلعوا ببصيرتهم. وقوله: {عَالِمُ الغيب والشهادة} ، أَى ما يغيب عن حواسّ الناس وبصائرهم، وما يشهدونه بهما.
وشَهِدْتُ يقال على ضربين: أَحدهما جارٍ مَجرى العِلْم، وبلفظه تقام الشهادة، يقال: أَشهد بكذا. ولا يُرضى من الشَّاهد أَن يقول أَعلم، بل يحتاج أَن يقول: أَشهد. والثانى يجرى مجرى القَسَم، فيقول: أَشهدُ بالله إِنَّ زيدًا منطلق. ومنهم من يقول: إِن قال أَشهدُ ولم يقل بالله يكون قسمًا. ويجرى علمتُ مجراه فى القَسَم فيجاب بجواب القسم كقوله:
ولقد علمت لتأتينّ مَنِيَّتى
ويقال: شاهد، وشهيد، وشهداءُ. ويقال: شهِدت كذا، أَى حضرته، وشهدت على كذا، قال تعالى:{شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ} .
ويعبّر بالشهادة عن الحُكْم؛ نحو: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ} ، وعن الإِقرار، نحو:{وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلَاّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بالله} ، أَى كان ذلكِ شهادة لنفسه.
[وقوله: {شَهِدَ الله} فشهادة الله تعالى بوحدانيته هى إِيجاد ما يدلّ على وحدانيته فى العالَم وفى نفوسنا، كما قال الشاعر:
ففى كل شىءٍ له آيةٌ
…
تدلّ على أَنّه واحد
قال بعض الحكماءِ: [إِن الله تعالى لمّا شهد لنفسه] كان شهادتُه أَن أَنطق كلّ شىءِ بالشهادة له، وشهادةُ الملائكة بذلك هو إِظهارهم أَفعالاً يؤمرون بها، وهى المدلول عليها بقوله:{فالمدبرات أَمْراً} . وشهادة أولى العلم اطّلاعهم على تلك الحال وإِقرارهم بذلك.
والشهادة تختصّ بأُولى العلم، فأَمّا الجهّال فمبعَدون عنها. وعلى هذا نبّه بقوله:{إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء} ، وهؤلاءِ هم المعنيّون بقوله:{والصديقين والشهدآء والصالحين} .
وأَمّا الشهيد فقد يقال للشَّاهد، والمشاهِد للشىء. وقوله تعالى:{مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ} ، أَى مَنْ يشهد له وعليه. وقوله:{أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيدٌ} ، أَى يشهدون ما يسمعونه بقلوبهم، على ضدّ من قيل فيهم:{أولائك يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} . وقولُه: {إِنَّ قُرْآنَ الفجر كَانَ مَشْهُوداً} ، أَى يشهد صاحبَه الشفاءُ والرّحمة والتَّوفيق والسّكينة، والأَرواح المذكورة فى قوله:{وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ} .
وقوله: {وادعوا شُهَدَآءَكُم} قد فُسْر بكلّ ما يقتضيه معنى الشهادة. قال ابن عبّاس: معناه: أَعوانكم. وقال مجاهد: الذين يشهدون لكم. وقال بعضهم: الذين يُعتدّ بحضورهم. ولم يكونوا كمن قيل فيهم:
مَخلَّفون ويَقضِى الناس أَمْرَهُمُ
…
وهم بغَيْبٍ وفى عَمياءَ ما شَعَرُوا
وقد حُمل على هذه الوجوه قوله تعالى: {وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً} ، وقوله:{وكفى بالله شَهِيداً} ، إِشارة إِلى نحو قوله:{لَا يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَيْءٌ} ، وقوله:{يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى} .
والشهيد الذى هو المحْتَضر فتسميته بذلك لحُضور الملائكة إِيّاه. إِشارة إِلى ما قال: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة أَلَاّ تَخَافُواْ وَلَا تَحْزَنُواْ} أَو لأَنَّهم يشهدون فى تلك الحالة ما أُعِدّ لهم من النعيم، أَو لأَنَّهم تشهد أَرواحُهم عند الله، كما قال:{بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} ، وقال:{والشهدآء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} . وقولُه: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} ، قيل: يوم الجمعة، وقيل: يوم عَرَفة، وقيل: يوم القيامة. وشاهد: كلّ من يشهده. وقولُه: {وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} . أَى مشاهَدٌ تنبيهًا أَن لابدّ من وقوعه.
والتشهّد: هو أَن يقول: أَشهد أَن لا إِله إِلَاّ الله وأَشهد أَنَّ محمَّدًا رسول الله. وصار فى التعارف اسمًا للتحيّات المقروءَة فى الصّلاة للذِّكر الذى يُقْرَأُ ذلك فيه.
وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيدٌ} ، جعل الله سبحانه كلامه ذكرى يَنْتفع به مَن جَمَع هذه الأُمور الثَّلاثة: أَحدها أَن يكون له قلبٌ حَىّ واع. فإِذا فُقِد هذا القلبُ لم ينتفع
بكلامه. الثَّانى: أَن يُصغى بسمعه فيُميلَه كلَّه نحو المخاطِب له، فإِن لم يفعل لم ينتفع بكلامه. الثَّالث: أَن يُحضِر قلبَه وذهنه عند المكَّلم له، وهو الشهيد أَى الحاضر غير الغائب. فإِن غاب قلبُه. وسافر فى موضع آخر لم ينتفع بالخطاب. وهذا كما أَنَّ المبْصر لا يدرك حقيقة إِلَاّ إِذا كانت له قوّة باصرة وحَدَّق بها نحو المرئىّ، ولم يكن قلبه مشغولاً بغير ذلك، فإِن فَقَد القوّة المبصِرة، أَو لم يُحدّق نحو المرئىّ، أَو حَدَّق نحوه وقلبُه كلّه فى موضع آخر، فإِنَّه لا يدركه؛ كما أَنَّ كثيرًا ما مَرّ بك إِنسان أَو غيره، وقلبك مشغول بغيره، ولا تشعر بمروره. فهذا الشَّأن يستدعى صحّة القلب، وحضوره، وكمال الإِصغاءِ.
والمشاهَدةُ من منازل السّالكين وأَهل الاستقامة، منزلة عالية فوق منزلة المكاشَفة. على أَنَّه ليس للعبد فى الحقيقة مشاهدة، ولا مكاشفة، لا لِلذَّات ولا للصّفات، أَعنى مشاهدة عِيَان وكشف، وإِنَّما هو مزيد إِيمان. فيجب التَّنبيه والتنبّه ههنا على أَمر، وهو أَنَّ المشاهَد نتائج العقائد، فمن كان معتقَدُهُ ثابتًا فى أَمر من الأُمور فإِنَّه إِذا صَفَت نفسُه، وارتاضت، وفارقت الشهوات والرّذائل، وصارت رُوحانيّة، تجلَّى لها صورة معتقَدها كما اعتقدته. وربّما قوى ذلك التَّجلَّى، حتى يصير لها كالعِيَان وليس به، فيقع الغلط من وجهين: أَحدهما أَنَّ ذلك ثابت فى الخارج وإِنَّما هو فى الذهب، لكن من وجهين: أَحدهما أَنَّ ذلك ثابت فى الخارج وإِنَّما هو فى الذهن، لكن لمّا صفا وارتاض، وانجلَت عنه ظلمات الطبع، وغاب بمشهوده عن
شهوده، واستولت عليه أَحكام القلب بأَحكام الرّوح، ظنّ أَنَّ ما ظهر له فى الخارج. ولا تأخذه فى ذلك لومة لائم، ولو جاءَته كلّ آية فى السماوات والأَرض، وذلك عنده بمنزلة مَن عاين الهلاك ببصره جهرة، فلو قال له أَهل السّماوات والأَرض: لم تَرَه، لم يلتفت إِليهم. والَّذى يتعيّن وينبغى أَلَاّ يُكذَّب فيما أَخبرَ به عن رؤيته، ولكن إِنَّما رأَى صورة معتقده فى ذاته ونفسه لا الحقيقة فى الخارج. هذا أَحد الغلطين، وسببه قوّة ارتباط حاسَّة البصر بالقلب، / فالعين مِرآة القلب شديدة الإِبصار به. وينضمّ إِلى ذلك قوّة الاعتقاد وضعف التمييز، وعليه حكم الحال على العلم. والغلط الثَّانى أنَّ الأَمر كما اعتقده، وأَنَّ ما فى الخارج مطابق لاعتقاده، فتولّد من هذين الغلطين مثل هذا الكشف والشهود.
وهى عندهم على ثلاث درجات: مُشاهَدة، ومشاهدة مُعاينةٍ تلبَس نُعوت القدس، وتُخرس أَلْسِنَةَ الإِشارات، ومشاهدة جَمْعٍ تجذب إِلى عين الجمع. وبَسْط هذا الكلام يأتى فى موضعه إِن شاءَ الله تعالى.