الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَاب فِي آدَاب القَاضِي
يجوز للحنفي الْحَاكِم أَن يَسْتَنِيب شافعيا يحكم بِاجْتِهَادِهِ وَإِن خَالف اجْتِهَاد مستنيبه وَلَو شَرط عَلَيْهِ أَن يحكم بقول مستنيبه لم يجز هَذَا الشَّرْط وَأَيْضًا إِذا رأى المستنيب قَول بعض الْأَئِمَّة أرجح من بعض لم يجز لَهُ أَن يحكم بالمرجوح بل عَلَيْهِ أَن يحكم بالراجح فَكيف لَا يكون لَهُ أَن يَسْتَنِيب من يحكم بالراجح وَإِن خَالف قَول إِمَامه وَلَيْسَ على الْخلق لَا الْقُضَاة وَلَا غَيرهم أَن يطيعوا أحدا فِي كل مَا يَأْمر بِهِ وَينْهى عَنهُ إِلَّا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَمن سَوَاء من الْأَئِمَّة فَإِنَّهُ يُؤْخَذ من قَوْله وَيتْرك فَيجوز لكل من الْحُكَّام أَن يَسْتَنِيب من يُخَالِفهُ فِي مذْهبه ليحكم بِمَا أنزل الله
وَمن بَاشر الْقَضَاء مَعَ عدم الْأَهْلِيَّة المسوغة للولاية وأصر على ذَلِك عَاملا بِالْجَهْلِ وَالظُّلم فَهُوَ فَاسق وَلَا يجوز أَن يولي خطْبَة وَلَا تنفذ أَحْكَامه وَلَا عقوده كَمَا نفذ أَحْكَام الْعَالم الْعَادِل بل من الْعلمَاء من يردهَا كلهَا وَهُوَ قَول أَكثر أَصْحَاب الشَّافِعِي وَأحمد وَمن الْعلمَاء من ينفذ مَا وَافق الْحق لمسيس الْحَاجة وَلما يلْحق النَّاس من الضَّرَر وَالْحق يجب اتِّبَاعه سَوَاء قَامَ بِهِ الْبر أَو الْفَاجِر وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُور من مَذْهَب أبي حنيفَة وَمَالك وَطَائِفَة من أَصْحَاب أَحْمد وَهُوَ الرَّاجِح
وَأجْمع الْمُسلمُونَ على أَن الْحَاكِم لَيْسَ لَهُ أَن يقبل الرِّشْوَة سَوَاء حكم بِحَق أَو بباطل وَلَا يحكم لنَفسِهِ وَلَيْسَ للْحَاكِم أَن يكون لَهُ وَكيل يعرف أَنه وَكيله يتجر لَهُ فِي بِلَاد عمله وَإِذا عرف أَن الْحَاكِم بِهَذِهِ المثابة فَإِنَّهُ ينْهَى عَن ذَلِك فَإِن انْتهى وَإِلَّا استبدل بِهِ من هُوَ أصلح مِنْهُ إِن أمكن وَإِذا فصل الْحُكُومَة بَينه وَبَين غَرِيمه حَاكم نَافِذ الحكم فِي الشَّرْع لعلمه وَدينه لم يكن لغريمه أَن يحاكم عِنْد حَاكم آخر
وَإِذا قَالَ الْحَاكِم ثَبت عِنْدِي فَهَل هُوَ حكم فِيهِ وَجْهَان
وَفِي قبُول شَهَادَة الْفَرْع مَعَ إِمْكَان حُضُور الأَصْل نزاع وَالْقَوْل بِهِ قَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد
وَحَدِيث معَاذ لما بَعثه النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِلَى الْيَمين الَّذِي قَالَ لَهُ فِيهِ فَإِذا لم تَجِد فِي سنة رَسُول الله قَالَ حكمت برأيي طعن فِيهِ جمَاعَة وروى فِي مسانيد وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَاسْتدلَّ بِهِ طوائف من الْفُقَهَاء وَأهل الْأُصُول فِي كتبهمْ وروى من طرق
وَبِكُل حَال يجوز اجْتِهَاد الرَّأْي للْقَاضِي والمفتي إِذا لم يجد فِي الْحَادِثَة نصا من الْكتاب أَو السّنة كَقَوْل جَمَاهِير السّلف وأئمة الْفُقَهَاء كمالك وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري وَأبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأحمد بن حَنْبَل وَأبي عبيد وَغَيرهم وَاسْتَدَلُّوا على ذَلِك بدلائل مثل كتاب عمر إِلَى أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَفِيه اعرف الْأَشْبَاه والنظائر وَقس الْأُمُور بِرَأْيِك وَقد تكون تِلْكَ الْحُكُومَة فِي الْكتاب وَالسّنة على وَجه خَفِي لم يُدْرِكهُ أَو تكون مركبة من مقدمتين من الْكتاب وَالسّنة لكنه لم يتفطن لذَلِك فَيجوز لَهُ أَن يجْتَهد بِرَأْيهِ حِينَئِذٍ لكَونه لم يجد تِلْكَ الْحُكُومَة فِي الْكتاب وَلَا فِي السّنة وَإِن كَانَت فيهمَا ثمَّ قَوْله تَعَالَى {تَجدوا مَاء} فقد يكون المَاء تَحت الأَرْض وَهُوَ لَا يعرف وَكَذَلِكَ قَوْله {فَمن لم يجد فَصِيَام شَهْرَيْن} وَقَوله {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا}
وَالْقِيَاس الَّذِي يسوغ مثل أَن يرد الْقَضِيَّة إِلَى نظيرها الثَّابِت بِالْكتاب وَالسّنة أَو لم يفهم عِلّة الحكم الَّتِي حكم الشَّارِع لأَجلهَا ويجدها فِي الصُّورَة الَّتِي فِي النَّص وَهَذَا من قِيَاس التَّعْلِيل وَالْأول قِيَاس التَّمْثِيل وَلَيْسَ لَهُ أَن يحكم بِمَا شَاءَ وَمن جوز ذَلِك فَهُوَ كَافِر بِاتِّفَاق الْمُسلمين وَلَيْسَ هَذَا مُخْتَصًّا بمعاذ
وَلَيْسَ للْحَاكِم منع النَّاس مِمَّا أَبَاحَهُ الله وَرَسُوله مثل أَن يمْنَع أَن يُزَوّج الْمَرْأَة وَليهَا أَو يمْنَع الشُّهُود أَو غَيرهم من كِتَابَة مهرهَا أَو كِتَابَة عقد بيع أَو إِجَارَة
أَو أقرار أَو غير ذَلِك وَإِن كَانَ الْكَاتِب مرتزقا بذلك وَإِذا منع القَاضِي ذَلِك ليصل إِلَيْهِ مَنَافِع هَذِه الْأُمُور كَانَ هَذَا من المكس نَظِير من يسْتَأْجر حانوتا فِي الْقرْيَة على أَن لَا يَبِيع غَيره وَإِن كَانَ إِنَّمَا يمْنَع الْجَاهِل لِئَلَّا يعْقد عقدا فَاسِدا فالطريق أَن يفعل كَمَا فعل الْخُلَفَاء الراشدون من تَعْزِير من يعْقد نِكَاحا فَاسِدا كَمَا فعله عمر وَعُثْمَان رضي الله عنهما فَلَيْسَ من تزوج بِغَيْر ولي وفيمن تزوج فِي الْعدة
وَهل يجب على الشَّخْص أَن يلْتَزم مذهبا بِعَيْنِه يَأْخُذ بِعَزَائِمِهِ ورخصه فِيهِ نزاع فِي مَذْهَب الشَّافِعِي وَأحمد وَجُمْهُور الْعلمَاء على أَنه لَا يجب على أحد أَن يُقَلّد شخصا بِعَيْنِه وَلَا يلْتَزم مذهبا بِعَيْنِه فِيمَا يُوجِبهُ ويحرمه وَنهى الْعلمَاء عَن اتِّبَاع رخص الْمَذْهَب لِأَن هَذَا يَعْنِي يقْضِي إِلَى الانحلال وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب فَإِنَّهُ يَقْتَضِي تَنْزِيل الشَّخْص الْوَاحِد الْمعِين منزلَة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَذَلِكَ غير جَائِز لَكِن من عجز عَن الِاجْتِهَاد جَازَ لَهُ التَّقْلِيد وَهل يجب عَلَيْهِ فِي أَعْيَان الْمُفْتِينَ فيقلد أعلمهم وأدينهم أم يُقَلّد من شَاءَ على قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَب أَحْمد وَالشَّافِعِيّ وَغَيرهمَا
وَالِاجْتِهَاد يقبل التجزئة والانقسام بل قد يكون الرجل مُجْتَهدا فِي مَسْأَلَة أَو صنف من الْعلم وَيكون غير مُجْتَهد فِي مَسْأَلَة أَو صنف آخر بل أَكثر من عِنْده تَمْيِيز من المتوسطين إِذا نظر فِي مسَائِل النزاع وَتَأمل مَا اسْتدلَّ بِهِ الْفَرِيقَانِ بتأمل حسن وَنظر تَامّ ترجح عِنْده أحد الْقَوْلَيْنِ وَلَكِن قد يشق عَلَيْهِ الِاكْتِفَاء بنظره فَالْوَاجِب على مثل هَذَا أَن يتبع قولا تَرْجِيح عِنْده من غير دَعْوَى مِنْهُ للِاجْتِهَاد بل هُوَ بِمَنْزِلَة الْمُجْتَهد أَن يتبع قولا ترجح عِنْده من غير دَعْوَى مِنْهُ للِاجْتِهَاد بل هُوَ بِمَنْزِلَة الْمُجْتَهد فِي أَعْيَان المفتيين وَالْأَئِمَّة وَإِذا ترجح عِنْده أَن أحدهم أعلم قَلّدهُ وَلَا شكّ أَن معرفَة الحكم بدليله الحكم بدليله أيسر وَأسلم من الْجَهْل والتقلد وَاتِّبَاع الْهوى فَإِذا جَوَّزنَا للرجل أَن يُقَلّد الشَّخْص فِيمَا يَقُوله الِاعْتِقَاد أَنه أعلم فَلِأَن يجوز لَهُ أَن يُقَلّد صَاحب القَوْل الَّذِي تبين لَهُ رُجْحَان قَوْله بالأدلة الشَّرْعِيَّة أولى وَأَحْرَى
وَقد قَالَ بعض أهل الْكَلَام يجب على كل أحد أَن يجْتَهد فِي كل مَسْأَلَة تنزل بِهِ وَلَا يُقَلّد أحدا من الْأَئِمَّة وَهَذَا قَول ضَعِيف بل خطأ وَالْأَئِمَّة على خِلَافه فَإِن أَكثر آحادا الْعَامَّة يعجز عَن معرفَة الِاسْتِدْلَال فِي كل مَسْأَلَة يحْتَاج إِلَى مَعْرفَتهَا بل أَكثر المشتغلين بالتفقه يعجز عَن ذَلِك وَهَؤُلَاء المجتهدون المشهورون كَانَ لَهُم من الِاجْتِهَاد فِي معرفَة الْأَحْكَام وَإِظْهَار الدّين للْأمة مَا فَضلهمْ الله تَعَالَى بِهِ على غَيرهم وَمن ظن أَنه يعرف الْأَحْكَام من الْكتاب وَالسّنة بِدُونِ مَعْرفَتهَا بِمَا قَالَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة وأمثالهم فَهُوَ غالط مخطىء فَإِن كَانَ لَا بُد من معرفَة الِاجْتِمَاع وَالِاخْتِلَاف فَلَا بُد من معرفَة مَا يسْتَدلّ بِهِ الْمُخَالف وَمَا استخرجوه من أَدِلَّة الْكتاب وَالسّنة وَهَذَا وَنَحْوه لَا يعرف إِلَّا بِمَعْرِِفَة أَقْوَال أهل الِاجْتِهَاد وَأَعْلَى هَؤُلَاءِ الصَّحَابَة رضي الله عنهم فَمن ظن أَنه يَأْخُذ من الْكتاب وَالسّنة بِدُونِ أَن يقْتَدى بالصحابة وَيتبع غير سبيلهم فَهُوَ من أهل الْبدع والضلال وَمن خَالف مَا أجمع عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ فَهُوَ ضال وَفِي تكفيره نزاع وتفصيل