الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إِذا عرف ذَلِك فَقَوْل الْقَائِل مَا مَفْهُوم قَول الصّديق رضي الله عنه ظلمت نَفسِي ظلما كَبِيرا وَالدُّعَاء بَين يَدي الله لَا يحْتَمل الْمجَاز وَالصديق رضي الله عنه من أَئِمَّة التَّابِعين وَالرَّسُول صلى الله عليه وسلم أمره بذلك هَل كَانَ لَهُ نازلة شُبْهَة إِن قَالَ كَانَ الصّديق رضي الله عنه أجد قدرا من أَن يكون لَهُ ذنُوب تكون ظلما كثيرا فَإِن ذَلِك يُنَافِي الصديقية
وَهَذَا الشُّبْهَة تَزُول بِوَجْهَيْنِ
أَحدهمَا أَن الصّديق رضي الله عنه بل وَالنَّبِيّ عليه الصلاة والسلام إِنَّمَا كملت مرتبته وانتهت دَرَجَته وَتمّ علو مَنْزِلَته فِي نهايته لَا فِي بدايته وَإِنَّمَا نَالَ ذَلِك بِفعل مَا أَمر الله بِهِ وَمن الْأَعْمَال الصَّالِحَة وأفضلها التَّوْبَة وَمَا وجد قبل التَّوْبَة فَإِنَّهُ لم ينقص صَاحبه وَلَا يتَصَوَّر أَن بشرا يَسْتَغْنِي عَن التَّوْبَة كَمَا فِي الحَدِيث يَا أَيهَا النَّاس تُوبُوا إِلَى الله فَإِنِّي أَتُوب الى الله فِي الْيَوْم أَكثر من سبعين مرّة وَإنَّهُ ليغان عَن قلبِي فَاسْتَغْفر الله فِي الْيَوْم مائَة
وَكَذَلِكَ قَوْله اللَّهُمَّ اغْفِر لي خطأي وجهلي وعمدي وكل ذَلِك عِنْدِي فِيهِ من الِاعْتِرَاف أعظم مَا فِي دُعَاء الصّديق رضي الله عنه وَالصِّدِّيقُونَ رضي الله عنهم تجوز عَلَيْهِم جَمِيع الذُّنُوب بِاتِّفَاق الْأَئِمَّة
فصل
فَمَا يلقى لأهل المكاشفات والمخاطبات من الْمُؤمنِينَ هُوَ من جنس مَا يكون لأهل الْقيَاس والرأي فَلَا بُد من عرضه على الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع فَلَيْسَ أحد من هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخ الصديقين مَعْصُوما فَكل من ادّعى غناءه عَن الرسَالَة مكاشفة أَو مُخَاطبَة أَو عصمَة سَوَاء ادّعى ذَلِك لنَفسِهِ أَو لشيخه فَهُوَ من أضلّ النَّاس
وَمن اسْتدلَّ على ذَلِك بِقصَّة الْخضر فَهُوَ من أَجْهَل النَّاس فَإِن مُوسَى لم يكن مَبْعُوثًا إِلَى الْخضر وَلَا كَانَ يجب على الْخضر اتِّبَاعه بل قَالَ لمُوسَى إِنِّي على علم من علم الله علمنيه الله لَا تعلمه وَأَنت على علم من علم الله علمكه الله لَا أعلمهُ وَلما سلم عَلَيْهِ قَالَ وَأَنِّي بأرضك السَّلَام قَالَ أَنا مُوسَى قَالَ مُوسَى بني إِسْرَائِيل قَالَ نعم فالخضر عليه السلام لم يعرف مُوسَى عليه السلام حَتَّى عرفه مُوسَى نَفسه
وَأما مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم فَهُوَ الرَّسُول إِلَى جَمِيع الْخلق فَمن لم يتبعهُ من جَمِيع من بلغته دَعوته كَانَ كَافِرًا ضَالًّا وَمن قَالَ لَهُ مثل مَا قَالَ الْخضر فَهُوَ كَافِر وَأَيْضًا مَا فعله الْخضر فَلم يكن خَارِجا عَن شَرِيعَة مُوسَى إِذْ لما بَين لَهُ الْأَسْبَاب أقره على ذَلِك فَكَانَ قد علم الْخضر الأسبا الَّتِي أَبَاحَتْ لَهُ ذَلِك الْفِعْل وَلم يكن يعلمهَا مُوسَى كَمَا يدْخل الرجل على غَيره فيأكل طَعَامه وَيَأْخُذ مَاله لعلمه بأذنه مَأْذُون لَهُ
وَأَيْضًا فَإِن الْخضر إِن كَانَ نَبيا فَلَيْسَ لغيره أَن يتشبه بِهِ وَإِن يكن نَبيا وَهُوَ قَول الْجُمْهُور فَأَبُو بكر وَعمر رضي الله عنهما أفضل مِنْهُ فَإِن هَذِه الْأمة خير أمة أخرجت للنَّاس وَأَبُو بكر وَعمر رضي الله عنهما خِيَارهَا وَكَانَ حَالهمَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كَمَا قد علم من الطَّاعَة لأَمره وَنحن مأمورون أَن نقتدي بهما بل من اعْتقد أَنه يجوز لَهُ أَن يخرج عَن طَاعَة النَّبِي صلى الله عليه وسلم وتصديقه فِي شئ من أُمُوره الْبَاطِنَة وَالظَّاهِرَة فَإِنَّهُ يجب استتابته فَإِن تَابَ وَإِلَّا قتل كَائِنا من كَانَ
وَأما مَا ذكره الْحَكِيم التِّرْمِذِيّ فِي أَصْنَاف الرَّحْمَة فَلَا ريب أَن الرَّحْمَة أَصْنَاف متنوعة كَمَا ذكره وَلَيْسَ فِي الحَدِيث رَحْمَة من عنْدك وَإِنَّمَا فِيهِ فَاغْفِر لي مغْفرَة من عنْدك وَلَكِن مَقْصُوده أَن يشبه هَذِه بقوله وهب لنا من لَدُنْك رَحْمَة وَقد جعل هَذِه الْمَغْفِرَة من عِنْده سُبْحَانَهُ مغْفرَة مَخْصُوصَة لَيست مِمَّا يبْذل للعامة كَمَا أَن الرَّحْمَة الخصوصة لَيست مِمَّا يبْذل للعامة
وَهَذَا الككلام فِي بعضه نظر وَهُوَ كَغَيْرِهِ من المصنفين فِي كَلَامه مَرْدُود ومقبول فَلَيْسَ فِي قَوْله صلى الله عليه وسلم مغْفرَة من عنْدك وَلَكِن فِي قَول الراسخين هَب لنا من لَدُنْك رَحْمَة وَنَحْو ذَلِك لَا يَقْتَضِي اخْتِصَاص هَذَا الشَّخْص دون غَيره وَإِلَّا لما سَاغَ لغيره أَن يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاء وَهُوَ خلاف الاجماع أَو تَفْسِير اللَّفْظ بِمَا لَا يدل عَلَيْهِ
وَقد قَالَ زَكَرِيَّا هَب لي من لَدُنْك ذُرِّيَّة طيبَة وَلم تكن الذُّرِّيَّة مُخْتَصَّة بِهِ وَلَا بالأنبياء بل الله يخرج الْأَنْبِيَاء من الْكفَّار إِذا شَاءَ وَلَكِن بمشيئته وَالله أعلم أَنه إِذا قَالَ من عنْدك وَمن لَدُنْك كَانَ مَطْلُوبا بِغَيْر فعل العَبْد
فَإِن مَا يُعْطِيهِ الله العَبْد على وَجْهَيْن مِنْهُ مَا يكون بِسَبَب فعله كالرزق الَّذِي يرزقه الله بِكَسْبِهِ والسيئات الَّتِي يغفرها الله بِالْحَسَنَاتِ الماحية وَالْولد الَّذِي يُعْطِيهِ الله بِالنِّكَاحِ الْمُعْتَاد وَالْعلم الَّذِي يَنَالهُ بالتعلم
وَمِنْه مَا يُعْطِيهِ للْعَبد ولايحوجه إِلَى السَّبَب الَّذِي ينَال بِهِ فِي غَالب الْأُمُور كَمَا أعْطى زَكَرِيَّا الْوَلَد مَعَ أَن امْرَأَته كَانَت عاقرا وَقد بلغ هُوَ من الْكبر عتيا فَهَذَا وهبه لَهُ الله من لَدنه لَيْسَ بالاأسباب الْمُعْتَادَة وَكَذَلِكَ الَّذِي علمه الْخضر من لَدنه لميكن بالتعلم الْمَعْهُود وَكَذَلِكَ الرَّحْمَة الْمَوْهُوبَة وَلِهَذَا قَالَ إِنَّك أَنْت الْوَهَّاب وَقَوله مغْفرَة من عنْدك لم يقل فِيهِ من لَدُنْك بل من عنْدك وَمن النَّاس من يفرق بَين لَدُنْك وعندك كَمَا يفرق بَين التَّقْدِيم
وَالتَّأْخِير فَإِن لم يكن بَينهمَا فرق فقد يكون المُرَاد اغْفِر لي مغْفرَة من عنْدك لَا أطلبها بِأَسْبَاب لِأَنَّهَا من عزائم الْمَغْفِرَة الَّتِي يغْفر لصَاحِبهَا كَالْحَجِّ وَالْجهَاد وَنَحْوه بل اغْفِر لي مغْفرَة توجبها لي وتجود بهَا على بِلَا عمل يَقْتَضِي تِلْكَ الْمَغْفِرَة
وَمن الْمَعْلُوم أَن الله قد يغْفر الذُّنُوب بِالتَّوْبَةِ وَقد يغفرها بِالْحَسَنَاتِ أَو بالمصائب وَقد يغفرها بِمُجَرَّد اسْتِغْفَار العَبْد وسؤاله أَن يغْفر لَهُ فَهَذِهِ مغْفرَة من عِنْده
فَهَذَا الْوَجْه إِذا فسر بِهِ من عنْدك كَانَ أحسن وأشبه مِمَّا ذكر من الِاخْتِصَاص
وَأما قَوْله والأشياء كلهَا من عِنْده فَيُقَال
الْأَشْيَاء وَجْهَان مِنْهَا مَا جعل بِسَبَب من العَبْد يُوفيه عمله وَمِنْهَا مَا يَفْعَله بِدُونِ ذَلِك السَّبَب بِلَا حَاجَة لسؤاله إحسانا إِلَيْهِ وَاسْتِعْمَال لفظ من عنْدك فِي هَذَا الْمَعْنى مُنَاسِب دون تَخْصِيص لبَعض النَّاس دون بعض
فَإِن قَوْله من عنْدك دلَالَته على الأول أبين وَلِهَذَا يَقُول الرجل لمن يطْلب مِنْهُ أَعْطِنِي عَن عنْدك لما يَطْلُبهُ مِنْهُ بِغَيْر سَبَب بِخِلَاف مَا يَطْلُبهُ من الْحُقُوق الَّتِي عَلَيْهِ كَالدّين وَالنَّفقَة الْوَاجِبَة فَلَا يُقَال من عنْدك وَالله تَعَالَى أعلم وَإِن كَانَ الْخلق لَا يوجبون عَلَيْهِ شَيْئا فَهُوَ قد كتب على نَفسه الرَّحْمَة وَحرم الظُّلم على نسه وَأوجب بوعده مَا يجب لمن وعده إِيَّاه فَهَذَا قد يصير وَاجِبا بِحكم إِيجَاب وعده بِخِلَاف مَا لم يكن كَذَلِك
فاستعمال من عنْدك يُرَاد بِهِ أَن تكون مغْفرَة تجود بهَا أَنْت لَا تحوجني فِيهَا إِلَى خلقك وَلَا أحتاج إِلَى أحد يشفع فِي أَو يسْتَغْفر لي
وَاسْتِعْمَال لفظ من عنْدك فِي مثل هَذَا مَعْرُوف كَمَا فِي حَدِيث كَعْب ابْن مَالك رضي الله عنه لما قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أبشر بِخَير يَوْم