الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَمن ظهر مِنْهُ أَفعَال يُحِبهَا الله وَرَسُوله وججب أَن يُعَامل بِمَا يُوجِبهُ ذَلِك من الملاة والمحبة وَالْإِكْرَام وَمن ظهر مِنْهُ خلاف ذَلِك عومل مُقْتَضَاهُ
فصل
فِي قَوْله صلى الله عليه وسلم فِي الحَدِيث الصَّحِيح الَّذِي قَالَ فِي آخِره عَن الله تَعَالَى {قد غفر لعبدي فليعمل مَا شَاءَ}
هَذَا الحَدِيث لم يَجعله النَّبِي صلى الله عليه وسلم عَاما فِي كل دنب من ككل من أذْنب وَتَابَ وَعَاد وَإِنَّمَا ذكره حِكَايَة حَال عَن عبد كَانَ مِنْهُ ذَلِك فَأفَاد أَن العَبْد قد يعْمل من الْحَسَنَات الْعَظِيمَة مَا يُوجب غفران مَا تَأَخّر من ذنُوبه وَإِن غفر لَهُ بِأَسْبَاب أخر
وَهَذَا مثل حَدِيث حَاطِب بن أبي بلتعة رضي الله عنه الَّذِي قَالَ فِيهِ لعمر وَمَا يدْريك أَن الله اطلع على أهل بدر فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُم فقد غفرت لكم وَمَا جَاءَ من أَن غُلَام حَاطِب شكاه فَقَالَ وَالله يَا رَسُول الله ليدخلن حَاطِب النَّار فَقَالَ كذبت إِنَّه قد شهد بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَة
فَفِي هَذِه الْأَحَادِيث بَيَان أَن الْمُؤمن قد يعْمل من الْحَسَنَات مَا يغْفر لَهُ بهَا مَا تَأَخّر من ذَنبه وَإِن غفر بِأَسْبَاب غَيرهَا وَيدل عَليّ أَنه يَمُوت مُؤمنا وَيكون من أهل الْجنَّة وَإِذا وَقع مِنْهُ ذَنْب يَتُوب الله عَلَيْهِ كَمَا تَابَ عَليّ بعض الْبَدْرِيِّينَ كقدامة بن عبد الله رضي الله عنه لما شرب الْخمر متأولا واستتابه عمر وَأَصْحَابه رضي الله عنه وجلدوه وطهر بِالْحَدِّ وَالتَّوْبَة وَإِن كَانَ مِمَّن قيل لَهُ اعْمَلُوا مَا شِئْتُم
ومغفرة الله لعَبْدِهِ لاتنافى أَن تكون الْمَغْفِرَة بأسبابها وَلَا تمنع أَن تصدر مِنْهُ تَوْبَة إِذا مغْفرَة الله لعَبْدِهِ مقتضاها أَن لَا يعذبه بعد الْمَوْت وَهُوَ سُبْحَانَهُ يعلم الْأَشْيَاء على مَا هِيَ عَلَيْهِ فَإِذا علم من العَبْد أَنه يَتُوب أَو يعْمل حَسَنَات ماحية
غفر لَهُ فِي نفس الْأَمر إِذْ لَا فرق بَين من يحكم لَهُ بالمغفرة أَو بِدُخُول الْجنَّة
وَمَعْلُوم أَن بشارته صلى الله عليه وسلم بِالْجنَّةِ إِنَّمَا هِيَ لعلمه بِمَا يَمُوت علسيه المبشر وَلَا يمْنَع أَن يعْمل سَببهَا
وَعلم الله بالأشياء وآثارها لَا ينافى مَا علقها عَلَيْهِ من الْأَسْبَاب كَمَا أخبر أَن مَا مِنْكُم من أحد إِلَّا وَقد كتب مَقْعَده من الْجنَّة أَو النَّار وَمَعَ ذَلِك قَالَ اعْمَلُوا فَكل ميسر لما خلق لَهُ وَلَا من أخبرهُ أَنه ينتصر على عدوه لَا يمْنَع أَن يَأْخُذ أَسبَابه وَلَا من أخبرهُ أَنه يكون لَهُ ولد لَا يمْنَع أَن يتَزَوَّج أَو يتسرى
وَكَذَا من أخبرهُ بالمغفرة أَو الْجنَّة لَا يمْنَع أَن يَأْخُذ بِسَبَب ذَلِك مرِيدا للآخرة وساعيا لَهَا سعيها
وَمن ذَلِك الدُّعَاء الْمَذْكُور فِي آخر سُورَة الْبَقَرَة فقد ثَبت أَن الله تَعَالَى قَالَ قد فعلت وَمَعَ ذَلِك فَمن الْمَشْرُوع لنا أَن نَدْعُوهُ
وَمِنْه قَول صلى الله عليه وسلم سلوا الله لي الْوَسِيلَة فحصول الْمَوْعُود لَا ينافى السَّبَب الْمَشْرُوع
وَمِنْه قَوْله تَعَالَى لنَبيه سنة سِتّ من الْهِجْرَة {ليغفر لَك الله مَا تقدم من ذَنْبك وَمَا تَأَخّر} وَمَعَ هَذَا فَمَا زَالَ صلى الله عليه وسلم يسْتَغْفر ربه بَقِيَّة عمره
وَأنزل عَلَيْهِ فِي آخر عمره سُورَة النَّصْر {فسبح بِحَمْد رَبك وَاسْتَغْفرهُ إِنَّه كَانَ تَوَّابًا} وَكَانَ يتَأَوَّل ذَلِك فِي رُكُوعه وَسُجُوده أى يمتثل مَا أمره ربه
فَإِذا كَانَ سيد الْمُرْسلين صلى الله عليه وسلم يسْتَغْفر ربه كَيفَ لَا يسْتَغْفر غَيره وَيَتُوب وَإِن قيل لَهُ ذَلِك أبي وأخذته الْعِزَّة
وَلِهَذَا مَا زَالَ سُبْحَانَهُ يُخَاطب أهل وبيعة الرضْوَان بِالْأَمر والنهى والوعد والوعيد وَيذكر أَنه عَلَيْهِم كَمَا قَالَ تَعَالَى {لقد تَابَ الله على النَّبِي والمهاجرين وَالْأَنْصَار الَّذين اتَّبعُوهُ فِي سَاعَة الْعسرَة من بعد مَا كَاد يزِيغ قُلُوب فريق مِنْهُم ثمَّ تَابَ عَلَيْهِم إِنَّه بهم رؤوف رَحِيم} وَقد نزلت بعد عَام
الْحُدَيْبِيَة بِثَلَاث سِنِين وَقد كَانَ من شَأْن مسطح الَّذِي كَانَ يصله أَبُو بكر لرحمه مَا كَانَ وَهُوَ من أهل بدر رضي الله عنهم وعده الله فِي قَوْله {لكل امْرِئ مِنْهُم مَا اكْتسب من الْإِثْم} وَقَوله {وَهُوَ عِنْد الله عَظِيم} وَقَوله {إِن الَّذين يرْمونَ الْمُحْصنَات الْغَافِلَات الْمُؤْمِنَات لعنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَلَهُم عَذَاب عَظِيم} وَقد روى أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم جلدهمْ
فقد وَقع هَذَا البدرى رضي الله عنه المغفور لَهُ فِي هَذَا الْإِفْك الْعَظِيم لَكِن تَابَ مِنْهُ بِلَا ريب فَتبين أَن قَوْله {قد غفر لكم} لَا منع أَن يعلمُوا بعد ذَلِك ذنوبا ويتوبون مِنْهَا بل لَا بُد أَن يكون لِئَلَّا يتكلوا عَليّ الْأَخْبَار فَقَط بل لَا بُد من فعل السَّبَب من التَّوْبَة والحسنات الماحيات الْمُتَقَدّمَة أَو غير ذَلِك من الْأَسْبَاب كالمصائب فِي الدِّينَا أَو فِي البرزخ أَو عرصات الْقِيَامَة أويرحمهم
وَهَذِه الْأَسْبَاب يشْتَرك فِيهَا من علم أَنه قد غفر لَهُ وَمن لم يعلم لَكِن قد علم أَن الله يغْفر للتائب ويدخله الْجنَّة
وَأما الْجَاهِل بِحَالهِ فَلَا يدْرِي حَاله عِنْد الله فَعلمه بِأَن الله يغْفر الذَّنب وَيَأْخُذ بِهِ وإيمانه الْعَظِيم الَّذِي فِي قلبه بذلك أَفَادَهُ أَنه صَار عِنْد الله مِمَّن يغْفر لَهُ لَا محَالة فَلَا بُد لَهُ من الْأَسْبَاب فَإِنَّهُ لَا بُد أَن يَدُوم عَليّ الْإِيمَان ودوامه عَليّ الْإِيمَان من أعظم الْحَسَنَات الماحية وَأَن يصلى وَيَتُوب ويستغفر وَنَحْو ذَلِك من مُوجبَات الرَّحْمَة وعزاذم الْمَغْفِرَة
وَمن كرر التَّوْبَة مَرَّات واسترسل فِي الذُّنُوب وَتعلق بِهَذَا الحَدِيث كَانَ مخدوعا مغرورا من وَجْهَيْن
أَحدهمَا ظَنّه أَن الحَدِيث عَام فِي حق كل نَائِب وَإِنَّمَا هُوَ حِكَايَة حَال فَيدل عَليّ أَن من عباد الله من هُوَ كَذَلِك
وَالثَّانِي أَن هَذَا لَا يقتضى أَن يغْفر لَهُ بِدُونِ أَسبَاب الْمَغْفِرَة كَمَا قدمنَا وَمن كرر التَّوْبَة الْمَذْكُورَة وَالْعود للذنب لَا يجْزم لَهُ أَنه قد دخل فِي معنى
هَذَا الحَدِيث وَأَنه قد يعْمل بعد ذَلِك مَا شَاءَ لَا يُرْجَى لَهُ أَنه يكون من أهل الْوَعْد وَلَا يجْزم لمُعين بِهَذَا الحكم كَمَا لَا يجْزم فِي حق معِين بالوعيد كساذر نُصُوص الْوَعْد والوعيد فَإِن هَذَا كَقَوْلِه من فعل كَذَا دخل الْجنَّة وَمن فعل كَذَا دخل النَّار لَا يجْزم لمُعين لَكِن يُرْجَى للمحسن وَيخَاف على المسئ
وَمن هَذَا الْبَاب حَدِيث البطاقة الَّتِي قدر الْكَفّ فِيهَا التَّوْحِيد وضعت فِي الْمِيزَان فرجحت عَليّ تِلْكَ السجلات من السيذات
وَلَيْسَ كل من تكلم بالسهادتين كلن بِهَذِهِ المنرلة لِأَن هَذَا العَبْد صَاحب البطاقة كَانَ فِي قلبه من التَّوْحِيد وَالْيَقِين وَالْإِخْلَاص مَا أوجب أَن عظم قدره حَتَّى صَار راجحا على هَذِه السَّيِّئَات
وَمن أحل ذَلِك صَار الْمَدّ من الصَّحَابَة رضي الله عنهم أفضل من مثل جبل أحد ذَهَبا من غَيرهم
وَمن ذَلِك حَدِيث الْبَغي الَّتِي سقت كَلْبا فغفر لَهَا فَلَا يُقَال فِي كل بغى سقت كَلْبا غفر لَهَا لِأَن هَذِه البغى قد حصل لَهَا من الصدْق وَالْإِخْلَاص وَالرَّحْمَة بِخلق الله مَا عَادل إِثْم البغى وَزَاد عَلَيْهِ مَا أوجب الْمَغْفِرَة وَالْمَغْفِرَة تحصل بِمَا يحصل فِي الْقلب من الْإِيمَان الَّذِي يعلم الله وَحده مِقْدَاره وَصفته وَهَذَا يفتح بَاب الْعَمَل ويجتهد بِهِ العَبْد أَن يَأْتِي بِهَذِهِ الْأَعْمَال وأمثالها من مُوجبَات الرَّحْمَة وعزائم الْمَغْفِرَة وَيكون مَعَ ذَلِك بَين الْخَوْف والرجاء كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَالَّذين يُؤْتونَ مَا آتوا وَقُلُوبهمْ وَجلة أَنهم إِلَى رَبهم رَاجِعُون}
وَلِهَذَا اسْتثْنى ابْن مَسْعُود وَغَيره فِي الْإِيمَان فَكَانَ يَقُول أحدهم أَنا مُؤمن إِن شَاءَ الله فَإِن الْإِيمَان الْمُطلق الْكَامِل يقتضى أَدَاء الْوَاجِب وأحدهم لَا يعلم بِيَقِين أَنه أدّى كل الْوَاجِب كَمَا أَمر وَلَئِن فَهُوَ فضل من الله ورحة فَلهَذَا استثنوا فِيهِ واستثنوا فِي الصَّلَاة وَغَيرهَا لِأَنَّهُ لَا يجْزم بِأَنَّهُ أَتَى بهَا عَليّ وَجههَا فيأتى بِمَا أَتَى بِهِ من الْخَيْر وَقَلبه وَجل