الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مُلْحق قَاعِدَة فِي حضَانَة الْوَلَد
بسم الله الرحمن الرحيم
قَالَ الشَّيْخ الإِمَام الْعَالم الْعَلامَة شيخ الْإِسْلَام أَحْمد بن تَيْمِية الْحَرَّانِي رضي الله عنه
الْحَمد لله نحمده ونستعينه وَنَسْتَغْفِرهُ ونعوذ بِاللَّه من شرور أَنْفُسنَا وَمن سيئات أَعمالنَا من يهده الله فَلَا مضل لَهُ وَمن يضلل فَلَا هادي لَهُ وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آله وَسلم تَسْلِيمًا
فصل
فِي مَذْهَب الإِمَام أَحْمد وَغَيره من الْعلمَاء فِي حضَانَة الصَّغِير الْمُمَيز هَل هُوَ للْأَب أَو للْأُم أَو يُخَيّر بَينهمَا
فَإِن عَامَّة كتب أَصْحَاب أَحْمد إِنَّمَا فِيهِ أَن الْغُلَام إِذا بلغ سبع سِنِين خير بَين أَبَوَيْهِ وَأما الْجَارِيَة فالأب أَحَق بهَا وَأَكْثَرهم لم يذكرُوا فِي ذَلِك نزاعا
وَهَؤُلَاء الَّذين ذكرُوا هَذَا بَلغهُمْ بعض نُصُوص أَحْمد فِي هَذِه الْمَسْأَلَة وَلم يبلغهم سَائِر نصوصه فَإِن كَلَام أَحْمد كثير منتشر جدا وَقل من يضْبط جَمِيع
نصوصه فِي كثير من الْمسَائِل لِكَثْرَة كَلَامه وانتشاره وَكَثْرَة من كَانَ يَأْخُذ عَنهُ الْعلم فَأَبُو بكر الْخلال قد طَاف بالبلاد وَجمع من نصوصه فِي مسَائِل الْفِقْه نَحْو أَرْبَعِينَ مجلدا وَفَاته أُمُور كَثِيرَة لَيست فِي كتبه
وَأما مَا جمعه من نصوصه فِي أصُول الدّين مثل كتاب السّنة نَحْو ثَلَاث مجلدات وَمثل أصُول الْفِقْه والْحَدِيث مثل كتاب الْعلم الَّذِي جمعه وَمن الْكَلَام على علل الْأَحَادِيث مثل كتاب الْعِلَل الَّذِي جمعه وَمن كَلَامه فِي أَعمال الْقُلُوب والأخلاق والآداب وَمن كَلَامه فِي الرِّجَال والتاريخ فَهُوَ مَعَ كثرته لم يستوعب مَا نَقله النَّاس عَنهُ
وَالْمَقْصُود هُنَا أَن النزاع عَنهُ مَوْجُود فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ كلتاهما فِي مَسْأَلَة الْبِنْت وَفِي مَسْأَلَة الابْن وَفِي مذْهبه فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ ثَلَاثَة أَقْوَال
هَل تكون مَعَ الْأُم أَو مَعَ الْأَب أَو تخير لَكِن فِي الابْن ثَلَاث رِوَايَات
وَأما الْبِنْت فالمنقول عَنهُ رِوَايَتَانِ هَل هِيَ للْأُم أَو للْأَب
وَأما التَّخْيِير فَهُوَ جه مخرج فِي مذْهبه فَعَنْهُ فِي الابْن ثَلَاث رِوَايَات مَعْرُوفَة
وَمِمَّنْ ذكرهن أَبُو البركات فِي محرره
وَعنهُ فِي الْجَارِيَة رِوَايَتَانِ وَمِمَّنْ ذكرهمَا أَبُو عبد الله بن تَيْمِية فِي كِتَابه التخليص وترغيب القاصد
وَالرِّوَايَات مَوْجُودَة بألفاظها ونقلتها وأسانيدها فِي عدَّة كتب
وَمِمَّنْ ذكر هَذِه الرِّوَايَات القَاضِي أَبُو يعلى فِي تَعْلِيقه نقل عَن أَحْمد فِي الْغُلَام أمة أَحَق بِهِ حَتَّى يسْتَغْنى عَنْهَا ثمَّ الْأَب أَحَق بِهِ قَالَ فِي رِوَايَة الْفضل ابْن زِيَاد إِذا عقل الْغُلَام وَاسْتغْنى عَن الْأُم فالأب أَحَق بِهِ وَقَالَ فِي رِوَايَة أبي طَالب وَالْأَب أَحَق بالغلام إِذا عقل وَاسْتغْنى عَن الْأُم
وَهَذَا يشبه الَّذِي نَقله القَاضِي أَبُو يعلى والشاشي وَغَيرهمَا عَن أَب حنيفَة
قَالَ إِذا أكل وَحده وَلَيْسَ وَحده وَتَوَضَّأ وَحده فالأب أَحَق بِهِ
وَنقل عَن الْمُنْذر أَنه يخبر حِينَئِذٍ بَين أَبَوَيْهِ عَن أبي حنيفَة وَأبي ثَوْر
وَالْأول هُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة الْمَوْجُود فِي كتب أَصْحَابه وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن مَالك فَإِنَّهُ نقل عَنهُ ابْن وهب الْأُم أَحَق بِهِ حَتَّى يثغر وَلَكِن الْمَشْهُور عَنهُ أَن الْأُم أَحَق بِهِ مَا لم يبلغ
وَهَذِه هِيَ الرِّوَايَة أَحَق بِهِ مَا لم يبلغ
وَهَذِه هِيَ الرِّوَايَة الثَّالِثَة عَن أَحْمد
وَالرِّوَايَة الثَّالِثَة عَن أَحْمد أَن الْأُم أَحَق بالغلام مُطلقًا كمذهب مَالك قَالَ فِي رِوَايَة حَنْبَل فِي الرجل يُطلق امْرَأَته وَله مِنْهَا أَوْلَاد صغَار فالأم أعطف عَلَيْهِم مِقْدَار مَا يعقل الْأَدَب فَيكون الْأَب أَحَق بهم مالم تتَزَوَّج فَإِذا تزوجت فالأب أَحَق بولده غُلَاما كَانَ أَو جَارِيَة
قَالَ الشَّيْخ أَبُو البركات فَهَذِهِ الرِّوَايَة تدل على أَنه إِذا كبر وَصَارَ يعقل الْأَدَب فَإِنَّهُ يكون مقره أَيْضا عِنْد الْأُم لَكِن فِي وَقت الْأَدَب وَهُوَ النَّهَار يكون عِنْد الْأَب
وَهَذَا مَذْهَب مَالك بِعَيْنِه الَّذِي حكيناه
فَصَارَ فِي الْمَسْأَلَة ثَلَاث رِوَايَات
وَمذهب مَالك فِي الْمُدَوَّنَة أَن الْأُم أَحَق بِهِ مالم يبلغ وَللْأَب تعاهده عِنْدهَا وأدبه وَبَعثه إِلَى الْمكتب وَلَا يبيت إِلَّا عِنْد الْأُم
قلت وحنبل وَأحمد بن الْفرج كَانَا يسألان الإِمَام أَحْمد عَن مسَائِل مَالك وَأهل الْمَدِينَة كَمَا كَانَ يسْأَله إِسْحَق بن مَنْصُور وَغَيره عَن مسَائِل سُفْيَان الثَّوْريّ وَغَيره وكما كَانَ يسْأَله الْمَيْمُونِيّ عَن مسَائِل الْأَوْزَاعِيّ وكما كَانَ يسْأَله إِسْمَعِيل بن سعيد الشالنجي عَن مسَائِل أبي حنيفَة وَأَصْحَابه فَإِنَّهُ كَانَ قد تفقه على مَذْهَب أبي حنيفَة ثمَّ اجْتهد فِي مسَائِل كَثِيرَة رجح فِيهَا مَذْهَب أهل الحَدِيث
وَسَأَلَ عَن تِلْكَ الْمسَائِل أَحْمد وَغَيره وَشَرحهَا إِبْرَاهِيم بن يَعْقُوب الجورجاني إِمَام دمشق وَأما الَّذين كَانُوا يسألونه مُطلقًا مثل الْأَثْرَم وعبد الله وَصَالح وَغَيرهم فكثيرون
وَأما حضَانَة الْبِنْت إِذا صَارَت مُمَيزَة فَوَجَدنَا عَنهُ رِوَايَتَيْنِ منصوصتين وَقد نقلهما غير وَاحِد من أَصْحَابه كَأبي عبد الله بن تَيْمِية وَغَيره
إِحْدَاهمَا أَن الْأَب أَحَق بهَا كَمَا هُوَ مَوْجُود فِي الْكتب الْمَعْرُوفَة فِي مذْهبه
وَالثَّانيَِة أَن الْأُم أَحَق بهَا
قَالَ فِي رِوَايَة إِسْحَق بن مَنْصُور يقْضِي بالجارية للْأُم وَالْخَالَة حَتَّى إِذا أحتاجت إِلَى التَّزْوِيج فالأب أَحَق بهَا
وَقَالَ فِي رِوَايَة مهنى بن يحيى الْأُم وَالْجدّة أَحَق بالجارية حَتَّى يتَزَوَّج الْأَب
قَالَ أَبُو عبد الله فِي ترغيب القاصد وَإِن كَانَت جَارِيَة فالأب أَحَق بهَا بِغَيْر تَخْيِير وَعنهُ الْأُم أَحَق بهَا حَتَّى تحيض
وَهَذِه الرِّوَايَة الثَّانِيَة هِيَ نَحْو مَذْهَب مَالك وَأبي حنيفَة فِي ذَلِك
فَفِي الْمُدَوَّنَة مَذْهَب مَالك أَن الْأُم أَحَق بِالْوَلَدِ مالم يبلغ سَوَاء كَانَ ذكرا أَو أُنْثَى فاذا بلغ وَهُوَ أُنْثَى نظرت فَإِن كَانَت الْأُم فِي حرز ومنعة وتحصين فَهِيَ أَحَق بهَا أبدا مالم تنْكح وان بلغت أَرْبَعِينَ سنة وَإِن لم تكن فِي مَوضِع حرز وتحصين أَو كَانَت غير مرضية فِي نَفسهَا فللأب أَخذهَا مِنْهَا وَكَذَلِكَ الْأَوْلِيَاء وَالْوَصِيّ كَالْأَبِ فِي ذَلِك إِذا أَخذ إِلَى أَمَانَة وتحصين
وَمذهب اللَّيْث بن سعد نَحْو ذَلِك قَالَ الْأُم أَحَق بالجارية حَتَّى تبلغ فَإِن كَانَت الْأُم غير مرضية فِي فَسَهَا وأدبها لولدها أخذت مِنْهَا إِذا بلغت إِلَّا أَن تكون صَغِيرَة لَا يخَاف عَلَيْهَا
وَأما أَبُو حنيفَة فَقَالَ الْأُم وَالْجدّة أَحَق بالجارية حَتَّى تحيض وَمن سوى
الْأُم وَالْجدّة أَحَق بهَا حَتَّى تبلغ حدا تشْتَهي هَذَا هُوَ الْمَشْهُور
وَلَفظ الطَّحَاوِيّ حَتَّى تستعنى كَمَا فِي الْغُلَام مُطلقًا وَهَذَا قيل فِيهَا كَمَا قيل فِي الْغُلَام حَتَّى يتأكل وَحدهَا وتلبس وَحدهَا وتتوضأ وَحدهَا ثمَّ تكون مَعَ الْأَب
وَأَبُو حنيفَة أَيْضا يَجْعَل الْأَب أَحَق بهَا بعد التَّمْيِيز كَمَا يَقُول مثل ذَلِك فِي الابْن لَكِن يسْتَثْنى الْأُم وَالْجدّة خَاصَّة
وَأما الْمَشْهُور عَن أَحْمد وَهُوَ تخير الْغُلَام بَين أَبَوَيْهِ فَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي وَإِسْحَق بن رَاهَوَيْه وموافقته للشَّافِعِيّ وَإِسْحَق أَكثر من مُوَافَقَته لغَيْرِهِمَا وأصوله أصولهما أشبه مِنْهَا بأصول غَيرهمَا وَكَانَ يثني عَلَيْهِمَا ويعظمهما ويرجح أصُول مذاهبهما على من لَيست أصُول مذاهبه كأصوال مذاهبهما
وَعِنْدهم أصُول فُقَهَاء الحَدِيث أصح من أصُول غَيرهم وَالشَّافِعِيّ وَإِسْحَق هما عِنْده من أجل فُقَهَاء الحَدِيث وَجمع بَينهمَا بِمَسْجِد الْخيف فتناظرا فِي مَسْأَلَة رباع مَكَّة والقصة مَشْهُورَة وَذكر أَحْمد أَن الشَّافِعِي علا إِسْحَق بِالْحجَّةِ فِي مَوضِع وَأَن إِسْحَاق علاهُ بِالْحجَّةِ فِي مَوضِع فَإِن الشَّافِعِي كَانَ يُبِيح البيع وَالْإِجَارَة وَإِسْحَاق يمْنَع مِنْهُمَا وَكَانَت الْحجَّة مَعَ الشَّافِعِي فِي جَوَاز بيعهَا وَمَعَ إِسْحَاق فِي الْمَنْع من إِجَارَتهَا
وَأما التَّخْيِير فِي الْجَارِيَة فَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَلم أَجِدهُ مَنْقُولًا لَا عَن أَحْمد وَلَا عَن إِسْحَق كَمَا نقل عَنْهُمَا التَّخْيِير فِي الغلاء
وَلَكِن نقل عَن الْحسن بن حَيّ أَنَّهَا تخير إِذا كَانَت كاعبا
والتخيير فِي الْغُلَام هُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي وَأحمد فِي الْمَشْهُور عَنهُ وَإِسْحَق للْحَدِيث الْوَارِد فِي ذَلِك حَيْثُ خير النَّبِي صلى الله عليه وسلم غُلَاما بَين أَبَوَيْهِ وَهِي قَضِيَّة مُعينَة وَلم يرد عَنهُ نَص عَام فِي تَخْيِير الْوَلَد مُطلقًا والْحَدِيث الْوَارِد فِي تَخْيِير الْجَارِيَة ضَعِيف مُخَالف لإجماعهم
وَالْفرق بَين تَخْيِير الْغُلَام وَالْجَارِيَة أَن هَذَا التَّخْيِير تَخْيِير شَهْوَة لَا تَخْيِير رَأْي ومصلحة كتخيير من يتَصَرَّف لغيره كَالْإِمَامِ وَالْوَلِيّ فَإِن الإِمَام إِذا خير فِي الأسرى بَين الْقَتْل والاسترقاق والمن وَالْفِدَاء فَعَلَيهِ أَن يخْتَار الْأَصْلَح للْمُسلمين ثمَّ قد يصب ذَلِك الْأَصْلَح للْمُسلمين فَيكون مصيبا فِي اجْتِهَاده حَاكما بِحكم الله ويكونه لَهُ أَجْرَانِ وَقد لَا يُصِيبهُ فيثاب على استفراغ وَسعه وَلَا يَأْثَم بعجزه عَن معرفَة الْمصلحَة كَالَّذي ينزل أهل حصن على حكمه كَمَا نزل بتو قُرَيْظَة على حكم النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا سَأَلَهُ فيهم بَنو عبد الْأَشْهَل قَالَ أَلا ترْضونَ أَن أجعَل الْأَمر إِلَى سيدكم سعد بن معَاذ فرضوا بذلك وطمع من كَانَ يحب استيفاءهم أَن سَعْدا يحابيهم لما كَانَ بَينه وَبينهمْ فِي الْجَاهِلِيَّة من الْمُوَالَاة فَلَمَّا أَتَى سعد حكم فيهم أَن تقتل مُقَاتلَتهمْ وتسبى ذَرَارِيهمْ وتغنم أَمْوَالهم فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم لقد حكمت فيهم بِحكم الله من فَوق سبع سموات وَهَذَا يَقْتَضِي أَنه لَو حكم بِغَيْر ذَلِك لم يكن ذَلِك حكما لله فِي نفس الْأَمر وَإِن كَانَ لَا بُد من إِنْفَاذه
وَمثل هَذَا مَا ثَبت فِي صَحِيح مُسلم وَغَيره من حَدِيث بُرَيْدَة الْمَشْهُور قَالَ فِيهِ وَإِذا حاصرت أهل حصن فسألوك أَن تنزلهم على حكم الله فَلَا تنزلهم على حكم الله فَإنَّك لَا تَدْرِي مَا حكم الله فيهم وَلَكِن أنزلهم على حكمك وَحكم أَصْحَابك
وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاء إِنَّه إِذا حاصر الإِمَام حصنا فنزلوا على حكم حَاكم جَازَ إِذا كَانَ رجلا مُسلما حرا عدلا من أهل الِاجْتِهَاد فِي أَمر الْجِهَاد وَلَا يحكم إِلَّا بِمَا فِيهِ حفظ للاسلام من قتل أَوْرَق أَو فدَاء
وَتَنَازَعُوا فِيمَا إِذا حكم بالمن فأباه الإِمَام هَل يلْزم حكمه أَولا يلْزم أَو يفرق بَين الْمُقَاتلَة والذرية على ثَلَاثَة أَقْوَال
وَإِنَّمَا تنازعوا فِي ذَلِك لظن المنازع أَن الْمَنّ لاحظ فِيهِ للْمُسلمين
وَالْمَقْصُود أَن تَخْيِير الإِمَام الْحَاكِم الَّذِي نزلُوا على حكمه هُوَ تَخْيِير رَأْي مصلحَة بِطَلَب أَي الْأَمريْنِ كَانَ أرْضى لله وَرَسُوله فعله كَمَا ينظر الْمُجْتَهد فِي أَدِلَّة السَّائِل فَأَي الدَّلِيلَيْنِ كَانَ أرجح اتبعهُ
وَلَكِن معنى قَوْلنَا يخبر أَنه لَا يتَعَيَّن فعل وَاحِد من هَذِه الْأُمُور فِي كل وَقت بل قد يتَعَيَّن فعل هَذَا تَارَة وَفعل هَذَا تَارَة وَقَول الله فِي الْقُرْآن {فإمَّا منا بعد وَإِمَّا فدَاء} يقتي فعل أحد الْأَمريْنِ وَذَلِكَ لَا يمْنَع تعين هَذَا فِي حَال وَهَذَا فِي حَال كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {قل هَل تربصون بِنَا إِلَّا إِحْدَى الحسنيين وَنحن نتربص بكم أَن يُصِيبكُم الله بِعَذَاب من عِنْده أَو بِأَيْدِينَا} فتربص أحد الْأَمريْنِ لَا يمْنَع بِعَيْنِه إِذا كَانَ الْجِهَاد فرض عين علينا بعض الْأَوْقَات فَحِينَئِذٍ يصيبهم الله بِعَذَاب بِأَيْدِينَا كَمَا فِي قَوْله {قاتلوهم يعذبهم الله بِأَيْدِيكُمْ ويخزهم وينصركم عَلَيْهِم} الْعلمَاء قَوْله تَعَالَى فِي الْمُحَاربين {إِنَّمَا جَزَاء الَّذين يُحَاربُونَ الله وَرَسُوله ويسعون فِي الأَرْض فَسَادًا أَن يقتلُوا أَو يصلبوا أَو تقطع أَيْديهم وأرجلهم من خلاف أَو ينفوا من الأَرْض} لَا يَقْتَضِي أَن الإِمَام يُخَيّر تَخْيِير مَشِيئَة فيفعل أَي هَذِه الْأَرْبَعَة شَاءَ بل كلهم متفقون على أَنه يتَعَيَّن هَذَا فِي حَال وَهَذَا فِي حَال
ثمَّ أَكْثَرهم يَقُولُونَ تِلْكَ الْأَحْوَال مضبوطة بِالنَّصِّ فَإِن اقْتُلُوا تعين قَتلهمْ وَإِن أخذُوا المَال وَلم يقتلُوا تعين قطع أَيْديهم وأرجلهم من خلاف كَمَا هُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأحمد روى فِي ذَلِك حَدِيث مَرْفُوع
وَمِنْهُم من يَقُول بل التَّعْيِين بِاجْتِهَاد الإِمَام كَقَوْل مَالك فَإِن رأى أَن الْقَتْل هُوَ الْمصلحَة قتل وَإِن لم يكن قد قتل
وَمن هَذَا الْبَاب تَخْيِير الإِمَام فِي الأَرْض الْمَفْتُوحَة عنْوَة بَين جعلهَا فَيْئا
وَجعلهَا غنيمَة كَمَا هُوَ قَول الْأَكْثَرين كَأبي حنيفَة وَالثَّوْري وَأبي عبيد وَأحمد فِي الْمَشْهُور عَنهُ فَإِنَّهُم قَالُوا إِن رأى الْمصلحَة فِي جعلهَا غنيمَة قسمهَا بَين الْغَانِمين كَمَا قسما لنَبِيّ صلى الله عليه وسلم خَيْبَر وَإِن رأى أَن لَا يقسمها جَازَ كَمَا يقسم النَّبِي صلى الله عليه وسلم مَكَّة مَعَ أَنه فتحهَا عنْوَة كَمَا شهِدت بذلك الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة والسيرة المستفيضة وكما قَالَه جُمْهُور الْعلمَاء وَلِأَن خلفاؤه بعده أَبَا بكر وَعَمْرو وَعُثْمَان فتحُوا مَا فتحوه من أَرض الْمغرب وَالروم وَفَارِس كالعراق وَالشَّام ومصر وخراسان وَلم يقسم أحد من الْخُلَفَاء شَيْئا من الْعقار المغنوم بَين الْغَانِمين لَا السوَاد وَلَا غير اسلواد بل جعلُوا الْعقار فَيْئا للْمُسلمين دَاخِلا فِي قَوْله {مَا أَفَاء الله على رَسُوله من أهل الْقرى فَللَّه وَلِلرَّسُولِ} الْآيَة وَلم يستأذونوا فِي ذَلِك الْغَانِمين بل طلب أكَابِر الْغَانِمين قسْمَة الْعقار فَلم يجيبوهم إِلَى ذَلِك كَمَا طلب بِلَال من عمر أَن يقسم أَرض الشَّام وَطلب مِنْهُ الزبير أَن يقسم أَرض مصر فَلم يجيبوهم إِلَى ذَلِك وَلم يستطب أحد من الْخُلَفَاء أحدا من الْغَانِمين فِي ذَلِك فضلا عَن أَن يَسْتَطِيب أنفس جَمِيع الْغَانِمين
وَهَذَا مِمَّا احْتج بِهِ من جعل الأَرْض فَيْئا بِنَفس الْفَتْح وَمن نصر مذْهبه كاسماعيل بن إِسْحَاق وَغَيره وَقَالُوا الأَرْض لَيست دَاخِلَة فِي الْغَنِيمَة فَإِن الله حرم على بني اسرائيل الْمَغَانِم وملكهم الْعقار فَعلم أَنه لَيْسَ من الْمَغَانِم وَهَذَا القَوْل يذكر رِوَايَة عَن أَحْمد كَمَا ذكر عَنهُ رِوَايَة ثلثة كَقَوْل الشَّافِعِي أيه يجب قسْمَة الْعقار وَالْمَنْقُول لِأَن الْجَمِيع مغنوم
وَقَالَ الشَّافِعِي إِن مَكَّة لم تفتح عنْوَة بل صلحا فَلَا يكون فِيهَا حجَّة وَمن حكى عَنهُ أَنه قَالَ إِنَّهَا فتحت عنْوَة كصاحب الْوَسِيط وفروعه فقد غلط عَلَيْهِ وَقَالَ فِي السوَاد لَا أَدْرِي مَا أَقُول فِيهِ إِلَّا أَنِّي أَظن فِيهِ ظنا مَقْرُونا بِعلم وَظن أَن عمر استطاب أنفس الْغَانِمين لما روى من قصَّة الْمثنى بن حَارِثَة وَبسط هَذَا لَهُ مَوضِع آخر
وَقَول الْجُمْهُور أعدل الأوقاويل وأشبهها بِالْكتاب وَالسّنة وَالْأُصُول وهم الَّذين قَالُوا يُخَيّر الإِمَام بَين الْأَمريْنِ بن يُخَيّر رَأْي ومصلحة لَا تَخْيِير شَهْوَة ومشيئة وَهَكَذَا سَائِر مَا يُخَيّر فِيهِ وُلَاة الْأَمر وَمن تصرف لغيره بِولَايَة كناظر الْوَقْف ووصى الْيَتِيم وَالْوَكِيل الْمُطلق لَا يخيرون تَخْيِير مَشِيئَة وشهوة بل تَخْيِير اجْتِهَاد وَنظر وَطلب ويجزى للأصلح كَالرّجلِ الْمُبْتَلى بعدوين وَهُوَ مُضْطَر إِلَى الِابْتِدَاء بِأَحَدِهِمَا فيبتدىء بِمَا لَهُ نفع وكالإمام فِي تَوْلِيَة من ولاه الْحَرْب وَالْحكم وَالْمَال يخْتَار الْأَصْلَح فالأصلح فَمن ولى رجلا على عِصَابَة وَهُوَ يجد فيهم من هُوَ أرْضى للهمنه فقد خَان الله وخان رَسُوله وخان الْمُؤمنِينَ
وَهَذَا بِخِلَاف من خير بَين شيئسن وَله أَن يفعل أَيهمَا شاد كالمكفر إِذا خير بَين الْإِطْعَام وَالْكِسْوَة وَالْعِتْق فَإِنَّهُ وَإِن كَانَ أحد الْخِصَال أفضل فَيجوز لَهُ فعل الْمَفْضُول وَكَذَلِكَ لابس الْخُف إِذا خير بني الْمسْح وَبَين الْغسْل وَإِن كَانَ أَحدهمَا وَكَذَلِكَ الْمُصَلِّي إِذا خير بَين الصَّلَاة فِي أول الْوَقْت وَآخره وَإِن كَانَ أَحدهمَا أفضل وَكَذَلِكَ تَخْيِير الْآكِل والشارب بَين أَنْوَاع الْأَطْعِمَة والأشربة الْمُبَاحَة وَإِن كَانَ نفس الْأكل والرشب وَاجِبا عِنْد الضَّرُورَة حَتَّى إِذا تعين الْمَأْكُول وَجب أكله وَإِن كَانَ ميتَة فَمن اضْطر إِلَى أكل الْميتَة وَجب عَلَيْهِ أكلهَا فِي الْمَشْهُور عَن الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَغَيرهم من أهل الْعلم وَكَذَلِكَ تَخْيِير الْحَاج بَين التَّمَتُّع والإفراد وَالْقرَان عِنْد الْجُمْهُور الَّذين يخيرون الثَّلَاثَة ويجيز الْمُسَافِر بَين الْفطر وَالصَّوْم عِنْد الْجُمْهُور
وَأما من يَقُول لَا يجوز أَن يحجّ إِلَّا مُتَمَتِّعا وَأَنه يتَعَيَّن الْفطر فِي السّفر كَمَا يَقُوله طاذفة من السّلف وَالْخلف من أهل السّنة والشيعة فَلَا يَجِيء هَذَا على أصلهم
وَكَذَلِكَ الْقصر عِنْد الْجُمْهُور الَّذين يَقُولُونَ لَيْسَ للْمُسَافِر أَن يُصَلِّي إِلَّا رَكْعَتَيْنِ لَيْسَ لَهُ أَن يُصَلِّي أَرْبعا فَإِن النَّبِي صلى الله عليه وسلم لم يصل فِي السّفر قطّ رلا
رَكْعَتَيْنِ وَلَا أحد من أَصْحَابه فِي حَيَاته عَائِشَة الَّتِي تذكر فِيهِ أَنه أَو أَنَّهَا صلت فِي حَيَاته فِي السّفر أَرْبعا كذب عِنْد حذاق أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ كَمَا قد بسط فِي مَوْضِعه
إِذْ الْمَقْصُود هُنَا أَن التَّخْيِير فِي الشَّرْع نَوْعَانِ
فَمن خير فِيمَا لغيره بولايته عَلَيْهِ أَو بوكالة مُطلقَة لم يبح لَهُ فِيهِ فعل مَا شَاءَ فَعَلَيهِ أَن يخْتَار الْأَصْلَح
وَأما من تصرف لنَفسِهِ فَتَارَة يَأْمُرهُ الشَّارِع بِاخْتِيَار مَا هُوَ الْأَصْلَح بِحَسب اجْتِهَاده كَمَا يَأْمر الْمُجْتَهد أقوى الآراء بل وَأصْلح الْأَحْكَام فِي نفس الْأَمر
وَتارَة يُبِيح لَهُ مَا شَاءَ من الْأَنْوَاع الَّتِي خير بَينهمَا كَمَا تقدم هَذَا إِذا كَانَ مُكَلّفا
وَأما الصَّبِي الْمُمَيز فَيُخَير تَخْيِير شَهْوَة حَيْثُ كَانَ كل من الْأَبَوَيْنِ نَظِير الآخر وَلم يَنْضَبِط فِي حَقه حكم عَام للْأَب أَو الْأُم فَلَا يُمكن أَن يُقَال كل زب فَهُوَ أصلح للميز من الْأُم وَلَا كل أم فَهِيَ أصلح لَهُ من الْأَب بل قد يكون بعض الْآبَاء أصلح وَبَعض الْأُمَّهَات أصلح وَقد يكون الْأَب أصلح فِي حَال وَالأُم أصلح فِي حَال فَلم يُمكن أَن يعْتَبر أَحدهمَا فِي هَذَا بِخِلَاف الصَّغِير فَإِن الْأُم أصلح لَهُ من الْأَب لِأَن النِّسَاء أوثق بالصغير وَأخْبر بتغذيته وَحمله وتنوعيمه وتنويله وأصبر على ذَلِك وأرحم بِهِ فَهِيَ أقدر وَأخْبر وأرحم وأصبر فِي هَذَا الْموضع
فتعينت الْأُم فِي حق الطِّفْل غير الْمُمَيز بِالشَّرْعِ
وَلَكِن بقى تَنْقِيح المناط هَل عينهن الشَّارِع لكَون قرَابَة الْأُم مُقَدّمَة عَليّ قرَابَة الْأَب فِي الْحَضَانَة أَو لكَون النِّسَاء أقوم بمقصود الْحَضَانَة من الرِّجَال
وَهَذَا فِيهِ قَولَانِ للْعُلَمَاء يظْهر أَثَرهَا فِي تَقْدِيم نسَاء الْعصبَة على أقَارِب الْأُم مثل أم الْأُم وَأم الْأَب وَالْأُخْت من الْأُم وَالْأُخْت من الْأَب وَمثل الْعمة وَالْخَالَة وَنَحْو ذَلِك هَذَا فِيهِ قَولَانِ هما رِوَايَتَانِ عَن أَحْمد وأرجح
الْقَوْلَيْنِ فِي الْحجَّة تَقْدِيم نسَاء الْعصبَة فَتقدم الْأُخْت من الْأَب عَليّ الْأُخْت من الْأُم وَخَالَة الزب عَليّ خَالَة الْأُم وَهُوَ الَّذِي ذكره الْخرقِيّ فِي مُخْتَصره وزبو الْحسن الْآمِدِيّ وَغَيرهمَا من الْأَصْحَاب
وَعلل ذَلِك من علله كَأبي الْحسن الْآمِدِيّ فِي مثل تَقْدِيم خَالَة الْأَب عَليّ خَالَة الْأُم فَإِن قرابتها فِيهَا رحم وتعصيب بِخِلَاف قرَابَة الْأُم فان فيهارحما بَال تعصب فَأم الْأَب مُقَدّمَة على أم الْأُم وَالْأُخْت من الْأَب مُقَدّمَة على الْأُخْت من الْأُم والعمة مُقَدّمَة على الْخَالَة كَمَا يقدم أقَارِب الْأَب من الرِّجَال عَليّ أقَارِب الْأُم
فالأخ للْأَب أولى من الْأَخ للْأُم وَالْعم أولى من الْخَال بل قد قيل إِنَّه لاحضانة للرِّجَال من أقَارِب الْأُم بِحَال وَأَن الْحَضَانَة لَا تثبت رلا لرجل من الْعصبَة أَو لامْرَأَة وارثة أَو مدلية بعصبة أَو وَارِث فَإِن عدموا فالحاكم
وعَلى الْوَجْه الثَّانِي فَلَا حضَانَة للرِّجَال فِي أقَارِب الْأُم
وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ فِي مَذْهَب الشَّافِعِي وَأحمد
فَلَو كَانَت جِهَة الأمومة راجحة لترجح رجالها ونساؤها فَلَمَّا لم يتَرَجَّح رجالها بالِاتِّفَاقِ فَكَذَلِك نساؤها
وَأَيْضًا فمجموع أصُول الشَّرْع إِنَّمَا تقدم أقَارِب الْأُم فِي الْمِيرَاث وَالْعقل وَالنَّفقَة وَولَايَة الْمَوْت وَالْمَال وَغير ذَلِك لم يقدم الشَّارِع قرَابَة الْأُم فِي حكم من الْأَحْكَام فَمن قدمهن فِي الْحَضَانَة فقد خَالف أصُول الشَّرِيعَة
وَلَكِن قدمُوا الْأُم لكَونهَا امْرَأَة وجنس النِّسَاء مُقَدمَات فِي الْحَضَانَة على الرِّجَال وَهَذَا يقتضى تَقْدِيم الْجدّة أم الْأَب على الْجد كَمَا قدمت الْأُم على الْأَب وَتَقْدِيم أخواته على رخوته وعماته على أَعْمَامه وخالاته على أَخْوَاله
هَذَا هُوَ الْقيَاس وَالِاعْتِبَار الصَّحِيح
وَأما تَقْدِيم جنس نسَاء الْأُم على جنس نسَاء الْأَب فمخالف لِلْأُصُولِ والمعقول وَلِهَذَا كَانَ من قَالَ هَذَا فِي مَوضِع يتناقض وَلَا يطرد أَصله وَلِهَذَا تَجِد لمن لم بضبط
أصل الشَّرْع ومقصوده فِي ذَلِك أَقْوَال متناقضة حَتَّى يُوجد فِي الْحَضَانَة من الْأَقْوَال المتناقضة أَكثر مِمَّا يُوجد فِي غَيرهَا من هَذَا الْجِنْس فَمنهمْ من يقدم أم الْأُم على أم الْأَب كَأحد الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَب أَحْمد وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأبي حنيفَة
ثمَّ من هَؤُلَاءِ من يقدم الْأُخْت من الْأَب من الْأُم ثمَّ يقدم الْخَالَة على الْعمة كَقَوْل الشَّافِعِي فِي الْجَدِيد وَطَائِفَة من أَصْحَاب أَحْمد وبنوا قَوْلهم على أَن الخالات مُقَدمَات على العمات لكونهن من جِهَة الْأُم ثمَّ قَالُوا فِي العمات والخالات وَالْأَخَوَات من كَانَت لِأَبَوَيْنِ أولى ثمَّ من كَانَت لأَب ثمَّ من كَانَت لأم
وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ هَذَا مُوَافق لأصول الشَّرْع لَكِن إِذا ضم هَذَا إِلَى قَوْلهم بِتَقْدِيم قرائب الْأُم ظهر التَّنَاقُض وهم أَيْضا قَالُوا بِتَقْدِيم أُمَّهَات الْأَب وَالْجد على الخالات وَالْأَخَوَات للْأُم وَهَذَا مُوَافق لأصول الشَّرْع لكنه يُنَاقض هَذَا الأَصْل وَلِهَذَا قَالُوا فِي القَوْل الآخر إِن الْخَالَة وَالْأُخْت للْأُم أولى من أم الْأَب كَقَوْل الشَّافِعِي الْقَدِيم وَهَذَا أطْرد لأصلهم لكنه فِي غَايَة المناقضة لأصول الشَّرْع
وَطَائِفَة أُخْرَى أَصْلهَا فَقدمت من الْأَخَوَات من كَانَت لأم على من كَانَت لأَب كَقَوْل أبي حنيفَة والمزني وَابْن سُرَيج
وَبَالغ بعض هَؤُلَاءِ فِي طرد قِيَاسه حَتَّى قدم الْخَالَة على الْأُخْت من الْأَب كَقَوْل زفر وَرِوَايَة عَن أبي حنيفَة وَوَافَقَهُمْ ابْن سُرَيج
وَلَكِن أَبُو يُوسُف استتبع ذَلِك فَقدم الْأُخْت للْأَب وَرَوَاهُ عَن أبي حنيفَة وروى عَن زفر أَنه أمعن فِي طرد قِيَاسه حَتَّى قَالَ إِن الْخَالَة أولى من الْجدّة أم الْأَب وَقد روى عَن أبي حنيفَة أَنه قَالَ لَا تَأْخُذُوا بمقاييس زفر فَإِنَّكُم إِذا أَخَذْتُم بمقاييس زفر حرمتم الحلا وحللتم الْحَرَام وَكَانَ يَقُول فِي الْقيَاس قِيَاس زفر أقبح من الْبَوْل فِي الْمَسْجِد وَزفر كَانَ مَعْرُوفا بالإمعان فِي طرد قِيَاسه
لَكِن الشَّأْن فِي الأَصْل الَّذِي قَاس عَلَيْهِ وَفِي عِلّة الحكم فِي الأَصْل وَهُوَ جَوَاب سُؤال للطالبة فَمن أحكم هَذَا الأَصْل استقام قِيَاسه وَهَذَا كَمَا أَن زفر اعْتقد أَن النِّكَاح إِلَى أجل يبطل التَّوْقِيت وَيصِح النِّكَاح لَازِما وَخرج بَعضهم ذَلِك قولا فِي مَذْهَب أَحْمد فَكَانَ مَضْمُون هَذَا القَوْل أَن نِكَاح الْمُتْعَة يصبح لَازِما غير مُؤَقّت وَهُوَ خلاف الْمَنْصُوص وَخلاف إِجْمَاع السّلف وَالْأمة إِذا اخْتلفت فِي مَسْأَلَة على القَوْل لم يكن لمن بعدهمْ إِحْدَاث قَول يُنَاقض الْقَوْلَيْنِ ويتضمن إِجْمَاع السّلف على الْخَطَأ والعدول عَن الصَّوَاب وَلَيْسَ فِي السّلف من يَقُول فِي الْمُتْعَة إِلَّا أَنه بَاطِل أَو يَصح مُؤَجّلا فَالْقَوْل بلزومه مُطلقًا خلاف الْإِجْمَاع
وَسبب هَذَا القَوْل اعْتِقَادهم أَن كل شَرط فَاسد فِي النِّكَاح فَإِنَّهُ يبطل وَينْعَقد النِّكَاح لَازِما بِدُونِ حُصُول غَرَض الْمُشْتَرك فألزموه مالم يلتزمه وَلَا ألزمهُ بِهِ الشَّرْع وَلِهَذَا صحّح من قَالَ ذَلِك نكا الشّغَار وَنَحْوه مِمَّا شَرط فِي نفي الْمهْر وصححوا نِكَاح التَّحْلِيل لَازِما مَعَ إبِْطَال شَرط التَّحْلِيل وأمثال ذَلِك
وَقد ثَبت فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عقبَة بن عَامر عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ إِن أَحَق الشُّرُوط أَن توفوا بِهِ مَا استحللتم بِهِ الْفروج
فَدلَّ النَّص على أَن الْوَفَاء بِالشُّرُوطِ فِي النِّكَاح أولى مِنْهُ بِالْوَفَاءِ بِالشُّرُوطِ فِي البيع فَإِذا كَانَت الشُّرُوط الْفَاسِدَة فِي البيع لَا يلْزم العقد بِدُونِهَا بل إِمَّا أَن يبطل العقد وَأما إِن يثبت الْخِيَار لمن فَاتَ غَرَضه بالاشتراط إِذا بَطل شَرط فَكيف بِالشُّرُوطِ فِي النِّكَاح
وأصل عمدتهم كَون النِّكَاح يَصح بِدُونِ تَقْدِير الصَدَاق كَمَا ثَبت بِالْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع فقاسوا النِّكَاح الَّذِي شَرط فِيهِ نفي الْمهْر على النِّكَاح الَّذِي ترك تَقْدِير الصَدَاق فِيهِ كَمَا فعل أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأكْثر
متأخري أَصْحَاب أَحْمد ثمَّ طرد أَبُو حنيفَة قِيَاسه فصحح نِكَاح الشّغَار بِنَاء على أَلا مُوجب لفساده إِلَّا إشغاره عَن الْمهْر وَهَذَا لَيْسَ مُفْسِدا
وَأم الشَّافِعِي وَمن وَافقه من أَصْحَاب أَحْمد فتكلفوا الْفرق بَين الشّغَار وَغَيره بِأَن فِيهِ تشريكا فِي الْبضْع أَو تَعْلِيقا للْعقد أَو غير ذَلِك مِمَّا قد بسط فِي غير هَذَا الْموضع وَبَين فِيهِ أَن كل هَذِه فروق غير مُؤثرَة وَأَن الصَّوَاب مَذْهَب أهل الْمَدِينَة مَالك وَغَيره وَهُوَ الْمَنْصُوص عَن أَحْمد فِي عَامَّة أجوبته وَعَلِيهِ أَكثر قدماء أَصْحَابه أَن الْعلَّة فِي إفساده هِيَ شَرط إشغار النِّكَاح عَن الْمهْر وَأَن النِّكَاح لَيْسَ بِلَازِم إِذا شَرط فِيهِ نفي الْمهْر أَو مهر فَاسد فَإِن الله فرض فِيهِ الْمهْر فَلم يحل لغير الرَّسُول النِّكَاح بِلَا مهر فَمن تزوج بِشَرْط أَلا يجب مهر فَلم يعْقد النِّكَاح الَّذِي أذن الله فِيهِ فَإِن الله إِنَّمَا أَبَاحَ العقد لمن يَبْتَغِي بِمَالِه مُحصنا غير مسافح كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَأحل لكم مَا وَرَاء ذَلِكُم أَن تَبْتَغُوا بأموالكم محصنين غير مسافحين} فَمن طلب النِّكَاح بِلَا مهر فَلم يفعل مَا أحل الله وَهَذَا بِخِلَاف من اعْتقد أَن لَا بُد من مهر لَكِن لم يقدره كَمَا قَالَ تَعَالَى {لَا جنَاح عَلَيْكُم إِن طلّقْتُم النِّسَاء مَا لم تمَسُّوهُنَّ أَو تفرضوا لَهُنَّ فَرِيضَة} إِلَى قَوْله {وَإِن طلقتموهن من قبل أَن تمَسُّوهُنَّ وَقد فرضتم لَهُنَّ فَرِيضَة} الآيه فَهَذَا نِكَاح الْمهْر الْمَعْرُوف وَهُوَ مهر الْمثل
قَالُوا فَهَذَا هُوَ الْفرق بَين النِّكَاح وَبَين البيع فَإِن البيع بِثمن الْمثل وَهُوَ السّعر أَو الْإِجَارَة بِثمن الْمثل لَا يَصح بِخِلَاف النِّكَاح
وَقد سلم لَهُم هَذَا الأَصْل الَّذِي قاسوا عَلَيْهِ الشَّافِعِي وَكثير من أَصْحَاب أَحْمد فِي البيع وَأما فِي الْإِجَازَة فأصحاب أبي حنيفَة وَمَالك وَأحمد وَغَيرهم يَقُولُونَ إِنَّه يجب أُجْرَة الْمثل فِيمَا جرت الْعدة فِيهِ فِي مثل ذَلِك كمن دخل حمام حمامي يدخلهَا النَّاس بالكراء أَو سكن فِي خَان أَو حجرَة جرت عَادَتهم بذلك أَو دفع طَعَامه أَو خبزه إِلَى من يطْبخ أَو يخبز بِالْأُجْرَةِ أَو ثِيَابه إِلَى من يغسل بِالْأُجْرَةِ
أَو ركب دَابَّة مكارى يكارى بِالْأُجْرَةِ أَو سفينة ملاح يركب النَّاس بِالْأُجْرَةِ
فَإِن هَذِه إِجَارَة عرفية عِنْد جُمْهُور الْعلمَاء وَتجب فِيهَا أُجْرَة الْمثل وَإِن لم يشْتَرط ذَلِك فَهَذِهِ إِجَارَة الْمثل
وَكَذَلِكَ لَو اتِّبَاع طَعَاما بِمثل مَا يَنْقَطِع بِهِ السّعر أَو بِسعْر مَا يَبِيع النَّاس أَو بِمَا اشْتَرَاهُ من بَلَده أَو برقمه فَهَذَا يجوز فِي أحد الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَب أَحْمد وَغَيره
وَقد نَص أَحْمد على هَذِه الْمسَائِل وَمثلهَا فِي غير مَوضِع وَإِن كَانَ كثير من متأخري أَصْحَابه لَا يُوجد فِي كتبهمْ إِلَّا القَوْل الآخر ففساد هَذِه الْعُقُود كَقَوْل الشَّافِعِي وَغَيره وَبسط هَذِه الْمسَائِل ف مَوَاضِع آخر
وَالْمَقْصُود هُنَا كَانَ مسَائِل الْحَضَانَة وَأَن الَّذين اعتقدوا أَن الْأُم قدمت لتدم قرَابَة الْأُم لما كَانَ أصلهم ضَعِيفا كَانَت الْفُرُوع اللَّازِمَة للْأَصْل الضَّعِيف ضَعِيفَة وَفَسَاد اللَّازِم يسْتَلْزم فَسَاد الْمَلْزُوم بل الصَّوَاب بِلَا ريب أَنَّهَا قدمت لكَونهَا أُنْثَى فَتكون الْمَرْأَة أَحَق بحضانة الصَّغِير من الرجل فَتقدم الْأُم على الْأَب وَالْجدّة على الْجد وَالْأُخْت على الْأَخ وَالْخَالَة على الْخَال والعمة على الْعم وَأما إِذا اجْتمع امْرَأَة بعيدَة وَرجل قريب فَهَذَا لبسطه مَوضِع آخر
إِذْ الْمَقْصُود هُنَا ذكر مَسْأَلَة الصَّغِير الْمُمَيز وَالْفرق بَين الصبية وَالصَّبِيّ فتخيير الصَّبِي الَّذِي وَردت بِهِ السّنة أولى من تعْيين أحد الْأَبَوَيْنِ لَهُ وَلِهَذَا كَانَ تعْيين الْأَب كَمَا قَالَ مَالك وَأحمد فِي رِوَايَته والتخيير تَخْيِير شَهْوَة
وَلِهَذَا قَالُوا إِذا اخْتَار الْأَب مُدَّة ثمَّ اخْتَار الْأُم فَلهُ ذَلِك حَتَّى قَالُوا مَتى اخْتَار أَحدهمَا ثمَّ اخْتَار الآخر نقل إِلَيْهِ وَكَذَلِكَ إِن اخْتَار ابْتِدَاء
وَهَذَا قَول الْقَائِلين بالتخيير الْحسن بن صَالح وَالشَّافِعِيّ وَأحمد بن حَنْبَل
وَقَالُوا إِذا اخْتَار الْأُم كَانَ عِنْدهَا لَيْلًا وَأما بِالنَّهَارِ فَيكون عِنْد الْأَب ليلعمه ويؤدبه هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِي وَأحمد وَكَذَلِكَ قَالَ مَالك وَهُوَ يَقُول يكون عِنْدهَا بِلَا تَخْيِير للْأَب تعاهده عِنْدهَا وأدبه وَبَعثه إِلَى الْمكتب وَلَا يبيت إِلَّا عِنْد الْأُم
قَالَ أَصْحَاب الشَّافِعِي وَأحمد وَإِن اخْتَار الْأَب كَانَ عِنْده لَيْلًا وَنَهَارًا وَلم يمْنَع من زِيَارَة أمه وَلَا تمنع من تمريضه إِذا اعتل
فَأَما الْبِنْت إِذا خيرت فَكَانَت عِنْد الْأُم تَارَة وَعند الْأَب تَارَة أفْضى ذَلِك إِلَى كَثْرَة مرورها وتبرجها وانتقالها من مَكَان إِلَى مَكَان وَلَا يبْقى الْأَب مركلا بحفظها وَلَا الْأُم موكلة بحفظها وَقد عرف بِالْعَادَةِ مَا تناوب النَّاس على حفظه ضَاعَ وَمن الْأَمْثَال السائرة لَا تصلح الْقدر بن طباختين
وَأَيْضًا فاختيار أَحدهمَا بِضعْف رَغْبَة الآخر فِي الْإِحْسَان والصيانة فَلَا يبْقى الْأَب تَامّ الرَّغْبَة فِي حفظهَا وَلَا الْأُم تَامَّة الرَّغْبَة فِي حفظهَا وَلَيْسَ الذّكر كالأنثى كَمَا قَالَت امْرَأَة عمرَان {رب إِنِّي نذرت لَك مَا فِي بَطْني محررا} إِلَى قَوْله {فَلَمَّا وَضَعتهَا قَالَت رب إِنِّي وَضَعتهَا أُنْثَى وَالله أعلم بِمَا وضعت وَلَيْسَ الذّكر كالأنثى وَإِنِّي سميتها مَرْيَم وَإِنِّي أُعِيذهَا بك وذريتها من الشَّيْطَان الرَّجِيم فتقبلها رَبهَا بِقبُول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زَكَرِيَّا} إِلَى قَوْله {وَمَا كنت لديهم إِذْ يلقون أقلامهم أَيهمْ يكفل مَرْيَم} فَهَذِهِ مَرْيَم احْتَاجَت إِلَى من يكفلها ويحضنها حَتَّى اقترعوا على كفالتها فَكيف بِمن سواهَا من النِّسَاء
وَهَذَا أَمر يعرف بالتجربة أَن الْمَرْأَة تحْتَاج من الْحِفْظ والصيانة إِلَى مَالا يحْتَاج إِلَيْهِ الصَّبِي وَكلما كَانَ أستر لَهَا وأصون كَانَ أصلح لَهَا وَلِهَذَا كَانَ أستر لَهَا وأصون كَانَ أصلح لَهَا وَلِهَذَا كَانَ لباسها الْمَشْرُوع لباسا يَسْتُرهَا وَلعن النَّبِي صلى الله عليه وسلم من يلبس مِنْهُنَّ لِبَاس الرِّجَال وَقَالَ لأم سَلمَة فِي عصابتها لية لَا ليتين رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيره وَقَالَ فِي الحَدِيث الصَّحِيح صنفان من أهل النَّار من أمتِي لم أرهما بعد نسَاء كاسيات عاريات مائلات مميلات على رُؤْسهنَّ مثل أسنمة البخت لَا يدخلن الْجنَّة وَلَا يجدن رِيحهَا وَرِجَال مَعَهم سياط مثل أَذْنَاب الْبَقر يضْربُونَ بهَا عباد الله
وَأَيْضًا فَأمرت الْمَرْأَة فِي الصَّلَاة أَن تتجمع وَلَا تجافي بَين أعضائها وَفِي الْإِحْرَام
أَلا ترفع صَوتهَا إِلَّا بِقدر مَا تسمع رفيقتها وَألا ترقى فَوق الصَّفَا والمروة كل ذَلِك لتحقيق سترهَا وصيانتها ونهيت أَن تُسَافِر إِلَّا مَعَ زوج أَو ذِي محرم لحاجتها فِي حفظهَا إِلَى الرِّجَال مَعَ كبرها ومعرفتها فَكيف إِذا كَانَت صَغِيرَة مُمَيزَة وَقد بلغت سنّ ثوران الشَّهْوَة فِيهَا وَهِي قَابِلَة للانخداع
وَفِي الحَدِيث النِّسَاء لحم على وَضم إِلَّا مَا ذب عَنهُ
فَهَذَا مِمَّا يبين أَن مثل هَذِه الصبية المميزة من أحْوج النِّسَاء إِلَى حفظهَا وصونها وترددها بَين الْأَبَوَيْنِ مِمَّا يخل بذلك من جِهَة أَنَّهَا هِيَ لَا يجْتَمع قَلبهَا على مَكَان معِين وَلَا يجْتَمع قلب أحد الْأَبَوَيْنِ على حفظهَا وَمن جِهَة أَن تمكينها من اخْتِيَار هَذَا تَارَة يخل بِكَمَال حفظهَا وَهُوَ ذَرِيعَة إِلَى ظُهُورهَا ومرورها فَكَانَ الْأَصْلَح لَهَا أَن تجْعَل أحد الْأَبَوَيْنِ مُطلقًا وَلَا تمكن من التَّخْيِير كَمَا قَالَ جمهورعلماء الْمُسلمين مَالك وَأَبُو حنيفَة وَأحمد وَغَيرهم وَلَيْسَ فِي تخييرها نَص صَرِيح وَلَا قِيَاس صَحِيح
وَالْفرق ظَاهر بَين تخييرها وتخيير الابْن لَا سِيمَا وَالذكر مَحْبُوب مَرْغُوب فِيهِ فَلَو اخْتَار أَحدهمَا كَانَت محبَّة الآخر لَهُ تَدعُوهُ إِلَى مراعاته وَالْبِنْت مزهود فِيهَا فأحد الْوَالِدين قد يزهد مَعَ رغبتها فِيهِ فَكيف مَعَ زهدها فِيهِ فالأصلح لَهَا لُزُوم أَحدهمَا لَا التَّرَدُّد بَينهمَا
ثمَّ هُنَا يحصل الِاجْتِهَاد فِي تعْيين أَحدهمَا فَمن عين الْأُم كمالك وَأبي حنيفَة وَأحمد فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ لَا بُد أَن يراعوا مَعَ ذَلِك صِيَانة الْأُم لَهَا وَلِهَذَا قَالُوا مَا ذكره مَالك وَاللَّيْث وَغَيرهمَا إِذا لم تكن الْأُم فِي مَوضِع حرز وتحصين أَو كَانَت غير مرضية فللأب أَخذهَا مِنْهَا وَهَذَا هُوَ الَّذِي راعاه أَحْمد فِي الرِّوَايَة الَّتِي اشتهرت عِنْد أَصْحَابه حَتَّى لم يذكر أَكْثَرهم فِي ذَلِك نزاعا وَقد عللوا ذَلِك بحاجتها إِلَى الْحِفْظ والترويج وَالْأَب أقوم لذَلِك من الْأُم فَإِنَّهُ إِذا كَانَ لَا بُد من رِعَايَة حفظهَا وصيانتها وَأَن للْأَب أَن ينترعها من الْأُم إِذا لم تكن حافظة لَهَا
بِلَا ريب فالأب أقدر على حفظهَا وصيانتها من الْأُم وَهِي مُمَيزَة لَا تحْتَاج فِي بدنهَا إِلَى أحد وَالْأَب لَهُ من الهيبة وَالْحُرْمَة مَا لَيْسَ للْأُم وَأحمد وَأَصْحَابه إِنَّمَا يقدمُونَ الْأَب إِذا لم يكن عَلَيْهَا فِي ذَلِك ضَرَر فَلَو قدر أَن الْأَب عَاجز عَن حفظهَا وصيانتها أَو يهمل حفظهَا لانشغاله عَنْهَا أَو لقلَّة دينه وَالأُم قَائِمَة بحفظها وصيانتها فَإِنَّهُ تقدم الْأُم فِي هَذِه الْحَال
فَكل من قدمْنَاهُ من الْأَبَوَيْنِ إِنَّمَا تقدمه إِذا حصل بِهِ مصلحتها واندفعت بِهِ مفسدتها فَأَما مَعَ وجود فَسَاد أمرهَا مَعَ أَحدهمَا فالآخر أولى بِهِ بِلَا ريب حَتَّى الصَّغِير إِذا اخْتَار أحد أَبَوَيْهِ وقدمناه إِنَّمَا نقدمه بِشَرْط حُصُول مصْلحَته وَزَوَال مفسدته فَلَو قَدرنَا أَن الْأَب أقرب لَكِن لَا يصونه وَالأُم تصونه لم يلْتَفت إِلَى اخْتِيَار الصَّبِي فَإِنَّهُ ضَعِيف الْعقل قد يخْتَار أَحدهمَا لكَونه يُوَافق هَوَاهُ الْفَاسِد وَيكون الصَّبِي قَصده الْفُجُور ومعاشرة الْفجار وَترك مَا نيفعه من الْعلم وَالدّين وَالْأَدب والصناعة فيختار من أَبَوَيْهِ من يحصل لَهُ مَعَه مَا يهواه وَالْآخر يذوده ويصلحه وَمَتى كَانَ كَذَلِك فَلَا ريب أَنه لَا يُمكن مِمَّن يفْسد مَعَه حَاله وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَاب الشفعي وَأحمد إِنَّه لاحضانة لفَاسِق وَكَذَلِكَ قَالَ الْحسن ابْن حَيّ وَقَالَ مَالك كل من لَهُ الْحَضَانَة من أَب أَو ذَات رحم أَو عصبَة لَيْسَ لَهُ كِفَايَة وَلَا مَوْضِعه بحرز وَلَا يُؤمن فِي نَفسه فَلَا حضَانَة لَهُ والحضانة لمن فِيهِ ذَلِك وَإِن بعد وَينظر للْوَلَد فِي ذَلِك بِالَّذِي هُوَ أكفأ وأحرز فَرب وَالِد يضيع وَلَده وَكَذَلِكَ قَالُوا وَهَذَا القَاضِي أَبُو يعلى فِي خِلَافه إِنَّمَا يكون التَّخْيِير بَين أبوين مإمونين عَلَيْهِ يعلم أَنه لَا ضَرَر عَلَيْهِ من كَونه عِنْد وَاحِد مِنْهُمَا فَأَما من لَا يقوم بأَمْره ويخليه للعب فَلَا يثبت التَّخْيِير فِي حَقه وَالنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لسبع وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لعشر وَفرقُوا بَينهم فِي الْمضَاجِع فَمَتَى كَانَ أحد الْأَبَوَيْنِ يَأْمُرهُ بذلك وَالْآخر لَا يَأْمُرهُ كَانَ عِنْد الَّذِي يَأْمُرهُ بذلك دون الآخر لِأَن ذَلِك الْآمِر لَهُ هُوَ الْمُطِيع لله وَرَسُوله فِي تَرْبِيَته وَالْآخر عَاص لله
وَرَسُوله فَلَا يقدم منيعصى الله فِيهِ على من يُطِيع الله فِيهِ بل يجب إِذا كَانَ أحد الْأَبَوَيْنِ يفعل مَعَه مَا أَمر الله بِهِ وَرَسُوله وَيتْرك مَا حرم الله وَرَسُوله وَالْآخر لَا يفعل مَعَه الْوَاجِب أَو يفعل مَعَه الْحَرَام قدم منيفعل الْوَاجِب وَلَو اخْتَار الصَّبِي غَيره بل ذَلِك العَاصِي لَا ولَايَة لَهُ عَلَيْهِ بِحَال بل كَانَ من لم يقم بِالْوَاجِبِ فِي ولَايَته فَلَا ولَايَة لَهُ بل إِمَّا يرفع يَده عَن الْولَايَة ويقام من يفعل الْوَاجِب وَإِمَّا أَن يضم إِلَيْهِ من يقوم مَعَه بِالْوَاجِبِ فَإِذا كَانَ مَعَ حُصُوله عِنْد أحد الْأَبَوَيْنِ يحصل طَاعَة الله وَرَسُوله لَا حَقه وَمَعَ حُصُوله عِنْد الآخر لَا يحصل لَهُ قدم الأول قطعا وَلَيْسَ هَذَا الْحق من جنس الْمِيرَاث الَّذِي يحصل بالرحم وَالنِّكَاح وَالْوَلَاء وَإِن كَانَ الْوَارِث حَاضرا وعاجزا بل هُوَ من جنس الْولَايَة ولَايَة النِّكَاح وَالْمَال الَّتِي لابد فِيهَا من الْقُدْرَة على الْوَاجِب وَفعله يحْسب الْإِمْكَان
ورذا قدر أَن الْأَب تزوج بضرة وَهُوَ يَتْرُكهَا عِنْد ضرَّة أمهَا لَا تعْمل مصلحتها بل تؤذيها أَو تقصر فِي مصلحتها فَهُنَا وَلَا يؤذيها فالحضانة هُنَا للْأُم قطعا وَلَو قدر أَن التَّخْيِير مَشْرُوع وَأَنَّهَا اخْتَارَتْ الْأُم فَكيف إِذا لم يكن كَذَلِك
وَمِمَّا يَنْبَغِي أَن يعلم أَن الشَّارِع لَيْسَ لَهُ نَص عَام على تقيم أحد الْأَبَوَيْنِ مُطلقًا وَلَا تَخْيِير أحد الأوبين مُطلقًا وَالْعُلَمَاء متفقون على أَنه لَا يتَعَيَّن أَحدهمَا مُطلقًا بل مَعَ الْعدوان والتفريط وَالْفساد وَالضَّرَر لَا يقدم من يكون كَذَلِك على الْبر الْعَادِل المحسن القاذم بِالْوَاجِبِ
وَقد عللوا أَيْضا تَقْدِيم الْأَب بعلة ثَانِيَة بِأَنَّهَا إِذا صَارَت مُمَيزَة صَارَت مِمَّن تخْطب وَتزَوج واحتاجت إِلَى تجهيزها فَإِذا كَانَت عِنْد الْأَب كَانَ أنظر لَهَا وأحرص على تجهيزها وتزويجها مِمَّا إِذا كَانَت عِنْد الْأُم
وَأَبُو حنيفَة يُوَافق أَحْمد على أَن الْأَب أَحَق بهَا من الْخَالَة وَالْأُخْت والعمة وَسَائِر النِّسَاء بِخِلَاف مَا قَالَه فِي الصَّبِي فَإِنَّهُ جعل الْأَب أَحَق بِهِ مُطلقًا لَكِن قَالَ الْأُم وَالْجدّة أَحَق من الْأَب فكلاهما قدم الْأَب وَغَيره من الْعصبَة على النِّسَاء لَكِن أَحْمد طرد الْقيَاس فقدمه على جَمِيع النِّسَاء وَأَبُو حنيفَة فرق بَين عَمُود النّسَب وَغَيره وَالنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قد قَالَ الْخَالَة أم فَإِذا قدم الْأَب على النِّسَاء اللَّاتِي يقدمن عَلَيْهِ فِي حَال صغرها دلّ ذَلِك على أَن الْأَب أقوم بمصلحة ابْنَته من النِّسَاء وَتبين أَن أصل هَذَا القَوْل لَيْسَ فِي مُفْرَدَات أَحْمد بل هُوَ طرد فِيهِ قِيَاسه
وَبِكُل حَال فَهُوَ قوى مُتَوَجّه لَيْسَ بأضعف من غَيره من الْأَقْوَال المقولة فِي الْحَضَانَة ولي قَول من رجح الْأُم مُطلقًا بأقوى مِنْهُ
وَمِمَّا يقوى هَذَا القَوْل أَن الْوَلَد مُطلقًا رذا تعين أَن يكون فِي مَدِينَة أحد الْأَبَوَيْنِ دون الآخر وَكَانَ الْأَب سَاكِنا فِي مصر وَالأُم سَاكِنة فِي مصر آخر فالأب أَحَق بِهِ مُطلقًا سَوَاء كَانَ ذكرا أَو أُنْثَى عِنْد عَامَّة الْعلمَاء كشريح القَاضِي
وكمالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَغَيرهم حَتَّى قَالُوا إِن الْأَب إِذا أَرَادَ سفر نقلة لغير الضرار إِلَى مَكَان بعيد فَهُوَ أَحَق بِهِ لِأَن كَونه مَعَ الْأَب أصلح لَهُ لحفظ نسبه وَكَمَال تَرْبِيَته وتعليمه وتأديبه وَأَنه مَعَ الْأُم تضيع مصْلحَته وَلَا يُخَيّر الْغُلَام هُنَا عِنْد أَحدهمَا لَا يخرج إِلَى الأحق فالاب أَيْضا أَحَق لِأَن كَونه عِنْد الْأَب أصلح لَهُ وَهَذَا الْمَعْنى مُنْتَفٍ فِي الابْن لِأَنَّهُ يُخَيّر وَلِأَن تردد الابْن بَينهمَا لَا مضرَّة عَلَيْهِ فِيهِ بِخِلَاف الْبِنْت
وَاتَّفَقُوا كلهم على أَن الْأُم لَو أَرَادَت أَن تُسَافِر بِالذكر أَو الْأُنْثَى من الْمصر الَّذِي فِيهِ عقد النِّكَاح فالأب أَحَق بِهِ فَلم يرجح أحد مِنْهُم الْأُم مُطلقًا
فَدلَّ ذَلِك على أَن ترجيحها فِي حضَانَة الْوَلَد مُطلقًا ذكرا كَانَ أَو أُنْثَى مُخَالف لهَذَا الأَصْل الَّذِي اتَّفقُوا عَلَيْهِ وَعلم أَنهم متفقون على تَرْجِيح جَانب الْأَب عِنْد تعذر الْجمع بَينهمَا وَهَذَا ثَابت فِي الْوَلَد وَإِن كَانَ طفْلا يكون فِي بلد أَبِيه بِخِلَاف
مَا إِذا كَانَ الأبوان فِي مصر وَاحِد هُنَا هُوَ مَعَ الصغر للْأُم لِأَن فِي ذَلِك جمعا بَين المصلحتين
وَمِمَّا يقويه أَيْضا أَن الْغُلَام إِذا بلغ معتوها كَانَت حضانته للْأُم كالصغير وَإِن كَانَ عَاقِلا كَانَ أمره إِلَى نَفسه يسكن حَيْثُ شَاءَ إِذا كَانَ مَأْمُونا على نَفسه عِنْد الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَغَيرهم فَإِن كَانَ غير مَأْمُون على نَفسه فَلم يَجْعَل أحد الْولَايَة عَلَيْهِ للْأُم بل قَالُوا للْأَب ضمه إِلَيْهِ وتأديبه وَالْأَب يمنعهُ من السلفة
وَأما الْجَارِيَة إِذا بلغت فَنقل عَن مَالك الْوَالِد أَحَق بضَمهَا إِلَيْهِ حَتَّى تزوج وَيدخل بهَا الزَّوْج ثمَّ هِيَ أَحَق بِنَفسِهَا وتسكن حَيْثُ شَاءَت إِلَّا أَن يخَاف مِنْهَا هوى أَو ضَيْعَة أَو سوء مَوضِع فيمنعها الْأَب بضَمهَا إِلَيْهِ
وَقد تقدم فِي الْمُدَوَّنَة أَن الْأُم أَحَق بهَا مالم تنْكح وَإِن بلغت أَرْبَعِينَ سنة وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو حنيفَة فِي الْبكر قَالَ الْأَب أحب بهَا مأموة كَانَت أَو غير مَأْمُونَة وَالْبِنْت هِيَ أَحَق بِنَفسِهَا إِذا كَانَت مَأْمُونَة وَقَالَ الشَّافِعِي هِيَ أَحَق بِنَفسِهَا إِذا كَانَت مَأْمُونَة بكرا كَانَت أَو ثَيِّبًا وَفِي مَذْهَب أَحْمد ثَلَاثَة أَقْوَال ذكرهَا فِي الْمُحَرر رِوَايَتَيْنِ ووجها
أَحدهَا أَن تكون عِنْد الْأَب حَتَّى تتَزَوَّج وَيدخل بهَا الزَّوْج وَهَذَا هُوَ الَّذِي نَصره القَاضِي وَغَيره فِي كتبهمْ
وَقَالُوا إِن الْجَارِيَة إِذا بلغت وَكَانَت بكرا فعلَيْهَا أَن تكون مَعَ إبيه حَتَّى تتَزَوَّج وَيدخل بهَا الزَّوْج وَلم يذكرُوا فِيهِ نزاعا
وَالرِّوَايَة الثَّانِيَة عَن أَحْمد تكون عِنْد الْأُم وَهَذِه الرِّوَايَة إِنَّمَا أَخذهَا الشَّيْخ أَبُو البركات من الرِّوَايَة الْمُتَقَدّمَة أَن حصانتها تكون للْأُم مالم تتَزَوَّج فَإِنَّهُ على هَذِه الرِّوَايَة نقل عَن أَحْمد فِيهَا رِوَايَتَيْنِ فَإِن أَحْمد فِيهَا رِوَايَتَيْنِ فَإِن أَحْمد قَالَ فِي تِلْكَ الرِّوَايَة الْأُم وَالْجدّة أَحَق بالجارية مالم تتَزَوَّج فَجَعلهَا أَحَق بهَا مالم تتَزَوَّج فِي رِوَايَة مهنا
وَقَالَ فِي رِوَايَة ابْن مَنْصُور يقْضِي بالجارية للْأُم والخلة واتى إِذا احْتَاجَت