الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قنت عَلَيْهِم فَقَالَ اللَّهُمَّ عذب كفرة أهل الْكتاب إِلَى آخِره فَجعله بعض النَّاس سنة راتبة فِي قنوت رَمَضَان وَلَيْسَ كَذَلِك بل إِنَّمَا قلت بِمَا يُنَاسِبهَا وَلَو قلت دَائِما لنقله الْمُسلمُونَ عَن نَبِيّهم صلى الله عليه وسلم فَأَنَّهُ من الْأُمُور الَّتِي تتوفر الدَّوَاعِي على نَقله
فصل
إِذا تحقق مَا فِي الْقلب أثر فِي الظَّاهِر ضَرُورَة لَا يُمكن انفكاك أَحدهمَا عَن الآخر فالإرادة الجازمة مَعَ الْقُدْرَة التَّامَّة توجب وُقُوع الْمَقْدُور فَإِذا كَانَ فِي الْقلب حب الله وَرَسُوله ثَابتا استلزم مُوالَاة أوليائه ومعاداة أعدائه لَا تَجِد قوما يُؤمنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر يوادون من حاد الله وَرَسُوله الْآيَة
فَهَذَا التلازم أَمر ضَرُورِيّ
وَمن جِهَة ظن انْتِفَاء غالط غالطون كَمَا غلط آخَرُونَ فِي جَوَاز وجود إِرَادَة جازمة مَعَ الْقُدْرَة التَّامَّة بِدُونِ الْفِعْل حَتَّى تنازعوا هَل يُعَاقب على الْإِرَادَة بِلَا عمل
وَإِن بَينا أَن الهمة الَّتِي نهمها وَلم يقْتَرن بهَا فعل مَا يقدر عَلَيْهِ الْهَام لَيست إِرَادَة جازمة لِأَن الْإِرَادَة الجازمة لَا بُد أَن يُوجد مَعهَا فعل مَا يقدر عَلَيْهِ العَبْد والغفران وَقع عَمَّن هم بسيئة وَلم يَفْعَلهَا لَا عَمَّن أَرَادَ وَفعل الَّذِي أمكنه وَعجز من تَمام مُرَاده
وَمن عرف الملازمات بَين الظَّاهِر وَالْبَاطِن زَالَت عَنهُ شُبُهَات كَثِيرَة
وَتحقّق الْإِيمَان وَغَيره مِمَّا هُوَ من الْأَعْمَال الْبَاطِنَة أَو الظَّاهِرَة مثل حب الله والانقياد لَهُ والاستكانة ووجل الْقلب وَزِيَادَة الْإِيمَان عِنْد ذكر الله والتوكل عَلَيْهِ وَالْجهَاد وَإِقَامَة الصَّلَاة وإيتاء الزَّكَاة وضد ذَلِك مِمَّا يحدث عَن التَّصْدِيق أَو
عَن التَّكْذِيب والهم بِالْحَسَنَة أَو السَّيئَة أَو غير ذَلِك وَالله أعلم
قَوْله فِي حَدِيث أبي بكر رضي الله عنه اللَّهُمَّ إِنِّي ظلمت نَفسِي ظلما كثيرا وانه لَا يغْفر الذُّنُوب إِلَّا أَنْت فَاغْفِر لي مغْفرَة من عنْدك وارحمني إِنَّك أَنْت الغفور الرَّحِيم
قَالَ الْحَكِيم التِّرْمِذِيّ هَذَا عبد اعْترف بالظلم ثمَّ التجأ إِلَيْهِ مُضْطَرّا لَا يجد لذنبه سائرا غَيره ثمَّ سَأَلَهُ مغْفرَة من عِنْده وَلَكِن أَرَادَ شَيْئا من عِنْده والأشياء كلهَا من عِنْده وَلَكِن أَرَادَ شَيْئا محصوصا لَيْسَ مِمَّا يذكر للعامة فَللَّه رَحْمَة قد عَمت الْخلق برهم وفاجرهم سعيدهم وشقيهم ثمَّ لَهُ رَحْمَة خص بهَا الْمُؤمنِينَ خَاصَّة وَهِي رَحْمَة الْإِيمَان ثمَّ لَهُ رَحْمَة خص بهَا الْمُتَّقِينَ وَهِي رَحْمَة الطَّاعَة لله تَعَالَى وَللَّه رَحْمَة خص بهَا الْأَوْلِيَاء نالوا بهَا الْولَايَة وَله رَحْمَة خص بهَا الْأَنْبِيَاء ونالوا بهَا النُّبُوَّة وَقَالَ الراسخون فِي الْعلم {وهب لنا من لَدُنْك رَحْمَة} فَسَأَلُوهُ رَحْمَة من عِنْده
فَهَذَا صُورَة مَا شَرحه وَلم يذكر صفة الظُّلم وأنواعه كَمَا ذكر صفة الرَّحْمَة وليعلم أَن الدُّعَاء الَّذِي فِيهِ اعْتِرَاف العَبْد بظلمه لنَفسِهِ لَيْسَ من خَصَائِص الصديقين وَمن دونهم بل هُوَ من الْأَدْعِيَة الَّتِي يَدْعُو بهَا الْأَنْبِيَاء وهم أفضل الْخلق قَالَ الله تَعَالَى عَن آدم وحواء {قَالَا رَبنَا ظلمنَا أَنْفُسنَا} وَقَالَ مُوسَى عليه السلام {رب إِنِّي ظلمت نَفسِي} والخليل عليه السلام {رَبنَا اغْفِر لي ولوالدي} {وَالَّذِي أطمع أَن يغْفر لي خطيئتي يَوْم الدّين} وَقَالَ هُوَ وَإِسْمَاعِيل عليه السلام {رَبنَا تقبل منا إِنَّك أَنْت السَّمِيع الْعَلِيم} الى قَوْله {وَتب علينا} وَقَالَ يُونُس عليه السلام {لَا إِلَه إِلَّا أَنْت سُبْحَانَكَ إِنِّي كنت من الظَّالِمين} وَثَبت فِي الصَّحِيح عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه كَانَ يَقُول فِي دُعَائِهِ ظلمت نَفسِي وَاعْتَرَفت بذنبي فَاغْفِر لي
وَثَبت عَنهُ اللَّهُمَّ اغْفِر لي ذَنبي كُله دقه وجله وعلانيته وسره وأوله وَآخره اللَّهُمَّ اغْفِر لي خطيئتي وجهلي واسرافي فِي آمري وَمَا أَنْت أعلم بِهِ مني اللَّهُمَّ اغْفِر لي هزلي وجدي وخطأي وعمدي وكل ذَلِك عِنْدِي اللَّهُمَّ اغْفِر لي مَا قدمت وَمَا أخرت وَمَا أسررت وَمَا أعلنت وَمَا أَنْت أعلم بِهِ مني أَنْت الْمِقْدَام وَأَنت الْمُؤخر لَا إِلَه إِلَّا أَنْت وَفِي الرُّكُوع وَالسُّجُود كَانَ يَقُول سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبنَا وَبِحَمْدِك اللَّهُمَّ اغْفِر لي يتَأَوَّل الْقُرْآن
وَقَالَ لَهُ ربه {فاصبر إِن وعد الله حق واستغفر لذنبك} وَقَالَ تَعَالَى {فَاعْلَم أَنه لَا إِلَه إِلَّا الله واستغفر لذنبك وَلِلْمُؤْمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات} وَسورَة النَّصْر آخر مَا نزل بعد قَوْله {ليغفر لَك الله مَا تقدم من ذَنْبك وَمَا تَأَخّر} فَقَالَ لَهُ النَّاس هَذَا لَك فَمَا لنا قَالَ فَأنْزل الله تَعَالَى {هُوَ الَّذِي أنزل السكينَة فِي قُلُوب الْمُؤمنِينَ} الْآيَة
وَفِي هَذَا رد على الطَّائِفَة الَّذين يَقُولُونَ معنى ليغفر لَك مَا تقدم من ذَنْبك هُوَ ذَنْب آدم وَمَا تَأَخّر هُوَ ذَنْب أمته فَإِن هَذَا القَوْل وَإِن لم يقلهُ أحد من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وأئمة الْمُسلمين فقد قَالَه طَائِفَة من الْمُتَأَخِّرين وبظن بعض الْجُهَّال أَنه قَول شرِيف وَهُوَ كَذَّاب على الله وتخريف
فَإِنَّهُ قد ثَبت أَن النَّاس يَوْم الْقِيَامَة يأْتونَ آدم فيعتذر إِلَيْهِم وَيذكر خطيئته فَلَو كَانَ مَا تقدم هُوَ ذَنْب آدم لم يكن يعْتَذر وَقد قَالَ الصَّحَابَة رضي الله عنهم هَذَا لَك فَمَا لنا فَلَو كَانَ مَا تَأَخّر مغْفرَة ذنوبهم لَكَانَ قَالَ هَذَا لكم
وَأَيْضًا فقد قَالَ الله لَهُ {واستغفر لذنبك وَلِلْمُؤْمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات} فَكيف تُضَاف ذنُوب الْفُسَّاق إِلَيْهِ وَيجْعَل الزِّنَا وَالسَّرِقَة وَشرب الْخمر ذَنبا لَهُ {وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} وَأي فرق بَين ذَنْب آدم ونوح وَإِبْرَاهِيم وَكلهمْ باؤه وَقد قَالَ تَعَالَى فِي غير مَوضِع فَإِن توَلّوا فَإِن مَا عَلَيْهِ مَا حمل وَعَلَيْكُم
مَا حملتم وَإِن تطيعوه تهتدوا وَمَا على الرَّسُول إِلَّا الْبَلَاغ الْمُبين فَكيف يكون ذَنْب أمته لَهُ هَذَا لَا يخفى فَسَاده على من لَهُ أدنى تدبر وَإِن كَانَ قَالَه طَائِفَة من المصنفين فِي الْعِصْمَة حَتَّى ترى فِي كَلَام بعض من لَهُ قدم صدق من أهل السّنة لَكِن الغلو أوجب اتِّبَاع الْجُهَّال الضلال فَإِن أصل ذَلِك من المبتدعين الغالين وأولهم الرافضة فانهم لم ادعوا الْعِصْمَة فِي عَليّ وَغَيره حَتَّى من الْخَطَأ احتاجوا أَن يثبتوا ذَلِك للأنبياء بطرِيق الأولى وَلما نزهوا عليا رضي الله عنه وَمن دونه أَن يكون لَهُ ذَنْب عصمَة أئمتهم الاسماعيلية القرامطة الباطنية الفلاسفة الدهرية وعبدوهم واعتقدوا فيهم الإلهية كَمَا كَانَت الغالية تعقد فِي عَليّ وَغَيره الإلهية أَو النُّبُوَّة وكما ألزموا الدعْوَة للمنتظر وَأَنه مَعْصُوم وَقَالُوا دخل فِي سرداب سامرا سنة سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ وَهُوَ طِفْل غير مُمَيّز وَصَارَ مثل هَذَا يدعى حَتَّى ادّعى ابْن تومرت المغربي صَاحب المرشد أَنه المهدى صَار طَائِفَة من الغلاة فِي مشايخهم يَعْتَقِدُونَ لَهُم الْعِصْمَة بقلوبهم أَو يَقُولُونَ إِنَّه مَحْفُوظ وَالْمعْنَى وَاحِد وَلَو أقرّ بِلِسَانِهِ عاملة بالعصمة بِقَلْبِه
فَهَؤُلَاءِ إِذا اعتقدوا الْعِصْمَة فِي بعض الْعَوام كييف لَا يَعْتَقِدُونَ ذَلِك فِي الْأَنْبِيَاء
فَإِن كَانَ من الْمُسلمين من اعْتقد أَن الْأَنْبِيَاء أفضل من شَيْخه وإمامه وَهُوَ يعْتَقد عصمَة شَيْخه فَهُوَ يعْتَقد عصمتهم بطرِيق الأولى
وَإِن كَانَ من الزَّنَادِقَة الَّذين يَعْتَقِدُونَ أَن الشَّيْخ أفضل من النَّبِي كَمَا يَقُوله المتفلسفة والشيعة وغلاة الصُّوفِيَّة لاتحادية وَغَيرهم فَلَا بُد لهَؤُلَاء أَن يَفروا الغلو فِي الْأَنْبِيَاء حَتَّى يوافقهم النَّاس على الغلو فِي أئمتهم
وَهَذَا كُله من شعب النَّصْرَانِيَّة الَّذين قَالَ الله فيهم {قل يَا أهل الْكتاب لَا تغلوا فِي دينكُمْ} إِلَى قَوْله {إِنَّمَا الْمَسِيح عِيسَى ابْن مَرْيَم رَسُول الله}
إِلَى قَوْله سُبْحَانَهُ {أَن يكون لَهُ ولد} إِلَى قَوْله تَعَالَى {لن يستنكف الْمَسِيح أَن يكون عبدا لله} وَقد قَالَ صلى الله عليه وسلم لَا تطروني كَمَا أطرت النَّصَارَى الْمَسِيح ابْن مَرْيَم بل قُولُوا عبد الله وَإِنَّمَا أضلّ من كَانَ قبلكُمْ الغلو فِي الدّين وَقد قَالَ عليه الصلاة والسلام لتركبن سنَن من كَانَ قبلكُمْ وَمن قبلنَا قصدُوا تَعْظِيم الْأَنْبِيَاء وَالصَّالِحِينَ فوقعوا فِي تكذيبهم فَإِن الْمَسِيح قَالَ {إِنِّي عبد الله آتَانِي الْكتاب} فَكَذبُوهُ وَقَالُوا مَا هُوَ عبد الله بل هُوَ الله وأشركوا بِهِ
وَكَذَلِكَ الغالية فِي على وَغَيره فَإِنَّهُ حرق الغالية فِيهِ وَنقل عَنهُ من نَحْو ثَمَانِينَ وجبها خير هَذِه الْأمة بعد نبيها أَبُو بكر ثمَّ عمر وَيذكر ذَلِك عَن ابْن الْحَنَفِيَّة كَمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ والشيعة تكذبه فهم مَعَه كالنصارى مَعَ الْمَسِيح وَالْيَهُود مَعَ مُوسَى
وَكَذَلِكَ أَتبَاع الْمَشَايِخ يغلون فيهم ويتركون اتباعهم على الطَّرِيقَة الَّتِي يُحِبهَا الله وَرَسُوله
وَهَذَا بَاب دخل مِنْهُ الشَّيْطَان عَليّ خلق كثير فأضلهم حَتَّى جعل أحدهم قَول الْحق تنقيصا لَهُ كَمَا إِذا قيل النَّصَارَى لِلنَّصَارَى {الْمَسِيح ابْن مَرْيَم إِلَّا رَسُول قد خلت من قبله الرُّسُل وَأمه صديقَة} قَالُوا هَذَا تنقص بالمسيح وَسُوء أدب مَعَه وَهَكَذَا المنتسبون إِلَى هَذِه الْأمة تَجِد أحدهم يغلو فِي قدوته حَتَّى يكره أَن يُوصف بِمَا هُوَ فِيهِ وَمَعَ هَذَا فَهُوَ يكذبهُ وَيَقُول عَلَيْهِ العظائم وَهَذَا بَاب يطول الْمَقْصُود النبيه عَلَيْهِ
إِذا عرف ذَلِك فقد اتّفق سلف الْأمة وَجَمِيع الطوائف الَّذين لَهُم قَول مُعْتَبر أَن من سوى الْأَنْبِيَاء لَيْسَ مَعْصُوم لَا من الْخَطَأ وَلَا من الذُّنُوب سَوَاء كَانَ صديقا أَو لم يكن وَلَا فرق بَين أَن يَقُول هُوَ مَعْصُوم أَو مَحْفُوظ أَو مَمْنُوع
وَقد قَالَ الْأَئِمَّة كل أحد يُؤْخَذ من قَوْله وَيتْرك إِلَّا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم
وَلِهَذَا اتّفق الْأَئِمَّة على أَنه صلى الله عليه وسلم مَعْصُوم فِيمَا يبلغهُ عَن ربه وَقد انفقوا على أَنه لَا يقر على الْخَطَأ فِي ذَلِك وَكَذَلِكَ لَا يقر على الذُّنُوب لَا صغائرها وَلَا كبائرها
وَلَكِن تنازعوا هَل يَقع من الْأَنْبِيَاء بعض الصَّغَائِر مَعَ التَّوْبَة مِنْهَا أَولا يَقع بِحَال
فَقَالَ بعض متكلمي الحَدِيث وَكثير من الْمُتَكَلِّمين من الشِّيعَة والمعتزلة لَا تقع مِنْهُم الصَّغِيرَة بِحَال وَزَاد الشِّيعَة حَتَّى قَالُوا لَا يَقع مِنْهُم لَا خطأ وَلَا غير خطأ
وَأما السّلف وَجُمْهُور أهل الْفِقْه والْحَدِيث وَالتَّفْسِير وَجُمْهُور متكلمي أهل الحَدِيث من الأشعرية وَغَيرهم فَلم يمنعوا وُقُوع الصَّغِيرَة إِذا كَانَ مَعَ التَّوْبَة كَمَا دلّت عَلَيْهِ النُّصُوص من الْكتاب وَالسّنة فَإِن الله يحب التوابين
وَإِذا ابتلى بعض الأكابر بِمَا يَتُوب مِنْهُ فَذَاك لكَمَال النِّهَايَة لَا لنَقص الْبِدَايَة كَمَا قَالَ بَعضهم لَو لم تكن التَّوْبَة أحب الْأَشْيَاء إِلَيْهِ لما ابتلى بالذنب أكْرم الْخلق عَلَيْهِ
وَأَيْضًا فالحسنات تتنوع بِحَسب المقامات كَمَا يُقَال حَسَنَات الْأَبْرَار سيئات المقربين
فَمن فهم مَا تمحوه التَّوْبَة وَمَا ترفع صَاحبهَا إِلَيْهِ من الدَّرَجَات وَمَا يتَفَاوَت النَّاس فِيهِ من الْحَسَنَات والسيئات زَالَت عَنهُ الشّبَه فِي هَذَا الْبَاب وَأقر الْكتاب وَالسّنة على مَا فِيهَا من الْهدى وَالصَّوَاب
فَإِن الغلاة يتوهمون أَن الذَّنب إِذا صدر من العَبْد كَانَ نقصا فِي حَقه لَا ينجبر حَتَّى يجْعَلُوا من لم يسْجد لضم أفضل مِنْهُ وَهَذَا جهل فَإِن الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار الَّذين هم أفضل هَذِه الْأمة هم أفضل من أَوْلَادهم وَغير أَوْلَادهم مِمَّن ولد على
الْإِسْلَام وَإِن كَانُوا فِي أول الْأَمر كفَّارًا يعْبدُونَ الْأَصْنَام بل المتنقل من الضلال إِلَى الْهدى يُضَاعف لَهُ الثَّوَاب كَمَا قَالَ تَعَالَى {فَأُولَئِك يُبدل الله سيئاتهم حَسَنَات} فَالله سُبْحَانَهُ أفرج بتوبة عَبده من الَّذِي طلب رَاحِلَته فِي الأَرْض الْمهْلكَة ثمَّ وجدهَا
فَإِذا كَانَت التَّوْبَة بِهَذِهِ المثابة كَيفَ لَا يكون صَاحبهَا مُعظما
وَقد وصف الْإِنْسَان بالظلم وَالْجهل وَجعل الْفرق بَين الْمُؤمن وَالْكَافِر وَالْمُنَافِق أَن الْمُؤمن فيتوب الله علينا إِذا لم يكن لَهُ بُد من الْجَهْل فَقَالَ تَعَالَى {وَيَتُوب الله على الْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات} وَخير الْخَطَّائِينَ التوابون وكل بني آدم خطاءون
وَقد ذكر الله تَعَالَى الَّذين وعدهم بِالْحُسْنَى فَلم ينف عَنْهُم الذُّنُوب فَقَالَ تَعَالَى {وَالَّذِي جَاءَ بِالصّدقِ وَصدق بِهِ أُولَئِكَ هم المتقون} إِلَيّ قَوْله {ليكفر الله عَنْهُم أَسْوَأ الَّذِي عمِلُوا} فَذكر الْمَغْفِرَة والتكفير وَقَالَ تَعَالَى {أُولَئِكَ الَّذين نتقبل عَنْهُم أحسن مَا عمِلُوا ونتجاوز عَن سيئاتهم فِي أَصْحَاب الْجنَّة وعد الصدْق الَّذِي كَانُوا يوعدون} وَقَالَ عليه الصلاة والسلام لن يدْخل أحد مِنْكُم الْجنَّة بِعَمَلِهِ قَالُوا وَلَا أَنْت قَالَ وَلَا أَنا إِلَّا أَن يتغمدني الله برحمة مِنْهُ وَفضل
وَاعْلَم أَن كثيرا من النَّاس يسْبق إِلَى ذهنه من ذكر الذُّنُوب الزِّنَا وَالسَّرِقَة وَنَحْو ذَلِك فيستعظم أَن كَرِيمًا يفعل ذَلِك وَلَا يعلم هَذَا الْمِسْكِين أَن اكثر عقلاء بني آدم لَا يسرقون بِلَا يزنون حَتَّى فِي جاهليتهم وكفرهم فَإِن أَبَا بكر وَغَيره قبل الْإِسْلَام مَا كَانُوا يرضون أَن يَفْعَلُوا مثل هَذِه الْأَعْمَال وَلما بَايع النَّبِي صلى الله عليه وسلم هندا بنت عتبَة بن ربيعَة أم مُعَاوِيَة بيعَة النِّسَاء على أَن لَا يَسْرِقن وَلَا يَزْنِين قَالَت أَو تَزني الْحرَّة فَمَا كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّة يعْرفُونَ الزِّنَا إِلَّا للاماء وَكَذَلِكَ اللواط فَأكْثر الْأُمَم لم تعرفه وَلم يكن يعرف فِي الْعَرَب قطّ
وَلَكِن الذُّنُوب تتنوع وَهِي كَثِيرَة الشّعب كَالَّتِي هِيَ من بَاب الضلال
فِي الايمان والبدع الَّتِي هِيَ من جنس الْعُلُوّ فِي الأَرْض بِالْفَسَادِ وَالْفَخْر وَالْخُيَلَاء والحسد وَالْكبر والرياء هِيَ فِي النَّاس الَّذِي هم متفقون على الْفَوَاحِش
وَكَذَلِكَ الذُّنُوب لتي هِيَ ترك الْوَاجِبَات كالإخلاص والتوكل على الله ورجاء رَحمته وَخَوف عَذَابه وَالصَّبْر على بلائه وَالصَّبْر على حكمه وَالتَّسْلِيم لأَمره وَالْجهَاد وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وَنَحْوه وَتَحْقِيق مَا يجب من المعارف والأعمال يطول
وَإِذا علم ذَلِك فظلم العَبْد نَفسه يكون بترك مَا ينفعها وَهِي محتاجة إِلَيْهِ وبفعل مَا يَضرهَا كَمَا أَن ظلم الْغَيْر كَذَلِك إِمَّا بِمَنْع حَقه أَو التَّعَدِّي
وَالنَّفس إِنَّمَا تحْتَاج من العَبْد إِلَى فعل مَا أَمر الله بِهِ وَإِنَّمَا يَضرهَا فعل نهي الله عَنهُ فظلمه لَا يَنْفَكّ عَن ترك حَسَنَة أَو فعل سَيِّئَة وَمَا يضْطَر العَبْد إِلَيْهِ حَتَّى أكل الْميتَة دَاخل فِي هَذَا فَأكلهَا عِنْد الضَّرُورَة وَاجِب فِي الْمَشْهُور من مَذْهَب الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَكَذَلِكَ مَا يَضرهَا من جنس الْعِبَادَات مثل الصَّوْم الَّذِي يزِيد فِي مَرضهَا والاغتسال بِالْمَاءِ الْبَارِد الَّذِي يَقْتُلهَا وَهُوَ من ظلمها فَإِن الله أَمر الْعباد بِمَا يَنْفَعهُمْ ونهاهم عَمَّا يضرهم وَجَاء الْقُرْآن بِالْأَمر بالصلاح وَالنَّهْي عَن الْفساد وَالصَّلَاح كُله طَاعَة وَالْفساد كُله مَعْصِيّة وَقد لَا يعلم بعض النَّاس ذَلِك على حَقِيقَته فالمؤمن يعلم أَن الله يَأْمر بِكُل مصلحَة وَينْهى عَن كل مفْسدَة
وَمِمَّا يُوجب أَن يعرف أَن العَبْد قد يجب عَلَيْهِ بِأَسْبَاب أُمُور لَا تجب عَلَيْهِ بِدُونِ هَذِه الْأَسْبَاب فَإِن قَامَ بهَا كَانَ محسنا إِلَى نَفسه وَإِلَّا كَانَ ظَالِما لنَفسِهِ وَإِن لم يكن تَركهَا ظلما فِي حق من لم يجْتَمع عِنْده هَذِه الْأَسْبَاب كمن ولى ولَايَة فَفِي الْمسند أحب ألخلق إِلَى الله إِمَام عَادل وأبغضهم إِلَيْهِ إِمَام جَائِر وَكَذَلِكَ من لغيره عَلَيْهِ حُقُوق كَالزَّوْجَةِ وَالْأَوْلَاد وَالْجِيرَان فقد ذكر الله الْحُقُوق الْعشْرَة فِي قَوْله تَعَالَى {واعبدوا الله وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا وبالوالدين}
إحسانا وبذى الْقُرْبَى واليتامى وَالْمَسَاكِين وَالْجَار ذِي الْقُرْبَى وَالْجَار الْجنب والصاحب بالجنب وبن السَّبِيل وَمَا ملكت أَيْمَانكُم فَكلما أزدادت معرفَة الأنسان بالنفوس ولوازمها وتقلب الْقُلُوب وَبِمَا عَلَيْهَا من الْحُقُوق لله ولعباده وَبِمَا حد لَهُم من الْحُدُود علم أَنه لَا يخلوا أحد من ترك بعض الْحُقُوق وتعدي بعض الْحُدُود وَلِهَذَا أَمر الله عباده الْمُؤمنِينَ أَن يسألوه أَن يهْدِيهم السراط الْمُسْتَقيم فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة فِي الْمَكْتُوبَة وَحدهَا سبع عشرَة مرّة وَهُوَ صِرَاط الَّذين أنعم عَلَيْهِم من النبين وَالصديقين وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَمن يطع الله وَرَسُوله فَهُوَ مَعَ هَؤُلَاءِ
فالصراط الْمُسْتَقيم هُوَ طَاعَة الله وَرَسُوله وَهُوَ دين الْإِسْلَام التَّام وَهُوَ اتِّبَاع الْقُرْآن وَهُوَ لُزُوم السّنة وَالْجَمَاعَة وَهُوَ طَرِيق الْعُبُودِيَّة وَهُوَ طَرِيق الْخَوْف والرجاء وَلِهَذَا كَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم يَقُول فِي خطبَته الْحَمد الله نحمده ونستعينه وَنَسْتَغْفِرهُ لعلمه أَنه لَا يفعل خيرا وَلَا يجْتَنب شرا إِلَّا بإعانة الله لَهُ وَأَنه لابد أَن يفعل مَا يُوجب الأستغفار
وَفِي الصَّحِيح سيد الأستغفار أَن يَقُول العَبْد اللَّهُمَّ أَنْت رَبِّي لَا إِلَه إِلَّا أَنْت خلقتني وَأَنا عَبدك وأنما على عَهْدك وَوَعدك مَا اسْتَطَعْت اعوذ بك من شَرّ مَا صنعت أَبُوء لَك بنعمتك عَليّ وأبوء بذنبي فَاغْفِر لي إِنَّه لَا يغْفر الذُّنُوب إِلَّا أَنْت
فَقَوله أَبُوء بنعمتك عَليّ يتَنَاوَل نعْمَته عَلَيْهِ فِي إعانته على الطَّاعَات وَقَوله أَبُوء بذنبي يبين إِقْرَاره بِالذنُوبِ الَّتِي يحْتَاج إِلَى الإستغفار مِنْهَا وَالله غَفُور رَحِيم شكور يغْفر الْكَبِير ويشكر الْيَسِير
وَجَاء عَن غير وَاحِد إِنِّي أصبح بَين نعْمَة وذنب أُرِيد أَن أحدث للنعمة شكرا وللذنب إستغفارا وَكَانَ الْمَشَايِخ يقرنون بَين هَذِه الثَّلَاثَة الشُّكْر مَا مضى
من إِحْسَان ربه وَالِاسْتِغْفَار لما تقدم من إساءة العَبْد إِلَى نَفسه والاستعانة لما يستقبله العَبْد من أُمُوره فَلَا بُد لكل عبد من الثَّلَاثَة
فَقَوله الْحَمد لله نحمده ونستعينه وَنَسْتَغْفِرهُ يتَنَاوَل ذَلِك فَمن قصر فِي وَاحِدَة مِنْهَا فقد طلم نَفسه بِحَسب تَقْصِيره وَالْعَبْد إِذا عمل بِمَا علم أورثه الله علم مَا لم يعلم كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلَو أَنهم فعلوا مَا يوعظون بِهِ لَكَانَ خيرا لَهُم} الْآيَة وَقَالَ {وَالَّذين اهتدوا زادهم هدى}
وَإِذا ترك العَبْد الْعَمَل بِعِلْمِهِ عَافِيَة الله بِأَن يضله عَن الْهدى وَأَن لَا يعرفهُ الصِّرَاط الْمُسْتَقيم كَمَا قَالَ تَعَالَى {فَلَمَّا زاغوا أزاغ الله قُلُوبهم} وَقَالَ {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كَمَا لم يُؤمنُوا بِهِ أول مرّة} وَدلّ {فِي قُلُوبهم مرض فَزَادَهُم الله مَرضا}
وَفِي الحَدِيث إِن العَبْد إِذا أذْنب ذَنبا نكت فِي قلبه نُكْتَة سَوْدَاء فَإِذا تَابَ وَنزع واستغفر صقل قلبه وَإِن زَاد زيد فِيهَا حَتَّى تعلو كل قلبه فَذَلِك الران الَّذِي قَالَ تَعَالَى {كلا بل ران على قُلُوبهم} رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَصَححهُ
فَهَذِهِ الْأُمُور يبين الله بهَا أَجنَاس ظلم العَبْد نَفسه لَكِن لكل إِنْسَان بِحَسبِهِ وبحسب دَرَجَته فَمَا من صباح يصبح إِلَّا وَللَّه على عبَادَة حُقُوق ولنفسه ولخلقه عَلَيْهِ حُقُوق فلنفسه عَلَيْهِ أَن يعفها وحدود عَلَيْهِ أَن يحفظها ومحارم عَلَيْهِ أَن يتجنبها
فَإِن أَجنَاس الْأَعْمَال ثَلَاثَة مَأْمُور بِهِ قَالُوا هُوَ الْفَرَائِض ومنهى عَنهُ وَهُوَ الْمحرم ومباح لَهُ حد فتعديه حُدُود الله بل قد تكون الزِّيَادَة بعض الْوَاجِبَات والمستحبات لحدود الله وَذَلِكَ هُوَ الاسراف كَمَا قَالَ {رَبنَا اغْفِر لنا ذنوبنا وإسرافنا فِي أمرنَا}