الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التمركز حول الذات: أن الطفل لا يتحرَّى معرفة من يتحدث إليه، أو إذا كان هناك من يستمع له، يتكلم لنفسه وقد يلذ له أن يربط شخصًا تصادف وجوده بالنشاط الذي يقوم به حينئذ، وهو لا يحاول أن يضع نفسه بحيث يراه السامع، وفي هذه المرحلة يصعب على الطفل أن يضع نفسه موضع الآخر، ويكشف كلامه بصفة عامة عن قلة اهتمامه بفهم الآخرين له.
وقد يبدو على الأطفال في بداية هذه المرحلة أن أحدهم يتحدث إلى الآخر، أي: أن بينهما نوع من الاتصال، إلّا أن حديثهما في واقع الأمر لا يقوم على التفاعل. إننا إذا تأملنا ما يحدث نجدُ أن كلًّا منهما يتحدث عن شيء مختلف، ومن المعروف أن الاتصال الفعَّال يقوم على ما هو أكثر من معرفة قواعد النحو، وما هو أكثر من معرفة معاني الكلمات، وإنما هو القدرة على إدراك الكلام المناسب في الوقت والمكان المناسبين للمستمعين المناسبين، والذي يرتبط بموضوعاتٍ مناسبة، أي: إنه نوعٌ مما يسميه تشومسكي القواعد العملية للغة Pragmatics، صحيح أن بعض صور التبادل اللغوي تظهر عند طفل الثانية من العمر؛ حيث يمكن للطفل أن يتحدث مباشرةً إلى طفلٍ آخر، أو إلى بعض الكبار، في إشارته إلى الأشياء المألوفة في بيئته المباشرة.
النموّ العقلي المعرفي:
يصف بياجيه طور النمو من سن سنتين وحتى سن 7سنوات، بأنه طور ما قبل العمليات -Pre Operational، والذي ينقسم إلى فترتين رئيسيتين هما:
أ- فترة ما قبل المفاهيم: من سنتين حتى 4سنوات، ويعوز الطفل في بداية هذه المرحلة استخدام المفاهيم، وبخاصة مفهوم الفئة، ومفهوم علاقة الانتماء إلى فئة معينة، ولذلك يتميز التفكير في هذه المرحلة بأنه في منزلة متوسطة بين مفهوم الشيء "هذه المنضدة مثلًا" ومفهوم الفئة "المناضد ذات الأربعة أرجل"، وهذا ما يسميه بياجيه "ما قبل المفهوم Per-concept، ويتميز بأنه نوعٌ من التفكير التحولي transdudctive من الخاصِّ إلى الخاصِّ، وهو نوع من التفكير يختلف عن التفكير الاستنباطي deductive من العام إلى الخاص، والتفكير الاستقرائي inductive من الخاص إلى العام، وهو نوع من التفكير باستخدام قياس التماثل analogy "أو التشابه الجزئي" من نوع "أ" يشبه "ب" في إحدى النواحي، إذن "أ" يجب أن يشبه "ب" في النواحي الأخرى، وبالطبع قد يؤدي الاستدلال التحولي إلى نتائج صحيحة في بعض الأحيان، إلّا أنه في معظم الأحوال يؤدي إلى الوقوع في الخطأ، ويبدو أن هذه المرحلة هي مرحلة تجميع وحدات المعلومات عند الطفل.
ومن أمثلة الاستدلال التحولي عند الطفل أن يتعامل مع كلبٍ أليف في المنزل "أ"، فإذا رأى كلبًا غير أليف في الشارع "ب"، فإنه قد يتعامل معه بنفس الطريقة التي يتعامل بها مع كلب الأسرة، ويكون استدلاله في هذه الحالة على النحو التالي:
أ- كلب.
أ- كلب أليف.
ب- كلب.
ب- كلب أليف.
وقد يقتنع الطفل في هذا الطور بهذه الطريقة في التفكير، ويخدعه مظهرها المنطقي، وتبدو مقنعة تمامًا كما تبدو طريقة التفكير الاستقرائي والتفكير الاستنباطي عند الكبار، على الرغم من أن النتيجة التي توصَّلَ إليها غير صحيحة بالضرورة.
وهناك خاصية أخرى لمرحلة ما قبل المفاهيم، هي خاصية التمركز حول الذات، وهي خاصية تختلف عَمَّا كان سائدًا في الطور السابق، إن التمركز حول الذات في طور الرضاعة يتمثل في الخلط بين الذات والبيئة، أما في هذا الطور فيظهر في صورة عدم قدرة الطفل على تمييز منظوره الشخصيّ عن منظور الآخرين، ويسلك الطفل في هذا الطور كما لو أن الآخرين يدركون عالمه بنفس الطريقة التي يدرك بها هو هذا العالم، ولعل من الأشياء الطريفة التي يلاحظها الوالدان على أطفالهم حينئذ، أن يغمض الطفل عينيه ثم يقول لهما "إنكما لا ترياني"، وهو ما يمكن أن نسميه "سلوك النعامة"، فهو طالما لا يراهما، فإنه يفترض أنهما بالضرورة لا يريانه، فمنظوره الشخصي هو منظورهما أيضًا كآخرين، ويوجد مثال آخر يذكره الطفل كثيرًا، وهو أن الشمس أو القمر يتبعاه حيثما يكون، وهناك مثال ثالث من حياتنا الشخصية حينما رأى نجلنا خالد "وهو في الطور من النمو" من نافذة السيارة وهي واقفة في الطريق الزراعي، ومن بعد جمالًا تحمل أحمالًا من النباتات الخضراء فصاح قائلًا "شجر بيمشي"، وهكذا يتسم تفكير الطفل في هذا الطور بعدم القدرة على إدراك الموضوع، وقد استنتج البعض من ذلك: أن قدرات الطفل على التقمص الوجداني للآخرين أو التعاطف معهم تكون محدودة للغاية، إلّا أن البحوث الحديثة أكدت أن الطفل الصغير الذي لا يتجاوز عمره سنتين لديه القدرة على إظهار بعض علامات التعاطف نحو طفلٍ مصابٍ أو مضطرب، بل إن البحوث أكدت أيضًا أن صغار الأطفال يعرفون أن للآخرين إدراكاتهم الخاصة "Flavel Flavel 1977"، وقد تكون الصعوبة الجوهرية لديه عدم إدراك ذاته كأحد موضوعات البيئة.
وتغلب خاصية التمركز حول الذات على لغة الطفل في هذا الطور، فهو لا يستطيع مواءمتها مع وجود الآخرين، ولا تختلف لغته حين يكون وحده عن لغته مع وجود غيره من الأطفال أو الكبار، ولا يبذل جهدًا في نقل أفكاره لغيره، وتتناقص بالطبع نسبة الكلام المتمركز حول الذات مع زيادة التفاعل الاجتماعي للطفل، ومع بلوغ الطفل سن السابعة "نهاية هذا الطور" يكون واعيًا بالمستمع، ويعدل في لغته؛ بحيث تصبح مفهومة منه، ويفسر بياجيه هذا التحول من اللغة الذاتية إلى اللغة الاجتماعية على أنه دليل على النمو العقلي للطفل نحو وضع عدة وجهات نظرٍ موضع الاعتبار في وقت واحد.
وبالطبع، فإن تفكير الطفل في فترة ما قبل المفاهيم يعتمد على الأشياء والأحداث، ومعظم التمثيلات "الصور" الذهنية عنده تشير دائمًا إلى هذه الأشياء والأحداث كوقائع فيزيائية مادية، سواء استخدم في عمليات التمثيل الذهني الرموز أو الإشارات؛ فالعصا عند الطفل ترمز إلى البندقية، وحينما يتقدم به العمر قد يستخدم الكلمة لتدل على عملية عدوانية كاملة، ويكون السلوك المعرفي حينئذ أقرب إلى التجريد "أي: دون الإشارة إلى شيء فيزيائي".
ب- فترة التفكير الحدسي: من 4 سنوات حتى 7سنوات، وفيها يتحرر الطفل من كثير من نقائص المرحلة السابقة، ومع ذلك يظلُّ محكومًا بحدودٍ كثيرة، والسبب الرئيسي في ذلك: أن تفكير الطفل لم يتحرر تمامًا من الإدراك المباشر، ومن أهم خصائص التفكير في هذه المرحلة أنه -حسب تفسير بياجيه- من النوع الحدسي lntuitiv.
وحتى يمكن فهم معنى الحدس عنده نذكر ما لاحظه على الأطفال من سن 4 حتى 5سنوات، الذين يذهبون وحدهم إلى المدرسة ويعودون منها، ومع ذلك لا يستطيعون رسم خريطة للطريق باستخدام المكعبات، كما أن الطفل في هذا السن يستطيع أن يفهم أن لديه أخًا هو "س"، ولكنه ينكر أن "س" لديه أخ؛ فالعلاقة عنده من جانب واحد، وهذه إحدى الصفات الهامة للتفكير في هذا الطور، ويسميها بياجيه اللامقلوبية irreversibility، وتعد إحدى الاكتشافات الهامة في تاريخ علم النفس.
ومن خصائص التفكير في هذا الطور أيضًا أن الميل للاستجابة لأحد جوانب الموقف لا يزال سائدًا، أي: الاستجابة تكون مقيدة بخصائص المثير، وهذه إحدى الخصائص الهامة للتفكير في هذه الفترة -أي: فترة التفكير الحدسي- ويسميها بياجيه خاصية التمركز Centering على أحد الجوانب الإدراكية الخاصة. ولهذا
نلاحظ على الطفل في هذا الطور أنه غير قادر على التناول الدقيق للمعلومات التي توفرها المواقف والأحداث والأشياء، ومن أشهر تجارب بياجيه التي أكدت وجود هذه الخاصية: تجربة أواني الماء، وفيها عرض على الطفل كوبين متطابقين ممتلئين بمقدارٍ متساوٍ من الماء "أي: إلى نفس المستوى"، وتم تصنيف الكوبين إلى أن أحدهما يخص الطفل، والآخر يخص المجرب، وبعد أن عرف الطفل أن الكوبين يحتويان على نفس المقدار من الماء يقوم المجرب بصب السائل الموجود في كوب الطفل في كوب آخر أطول وأضيق، ثم يسأل الطفل أي الكوبين فيه كمية أكبر من السائل؟ أو هل تتساوى كمية السائل في الكوبين؟ أو أيّ الكوبين تختار لتشرب ما فيه من سائل؟ وكانت الإجابة المعتادة للطفل أن يختار الكوب الذي به ما أطول، على أساس أن فيه مقدارًا أكبر من الماء، وقد لا يختاره على أساس أنه به ماء أقل بسبب ضيقه.
إن هذا الطفل في المثال السابق يركز انتباهه على طول السائل في الكوب، أو على عرض الكوب، فيختار الإناء الأصلي، وتكون إجابته في هذه الحالة: أن الإناء الأوسع أو الأطول يكون فيه ماء أكثر، وفي كلتا الحالتين يعتمد الطفل في الحكم على بعدٍ واحدٍ وليس على البعدين معًا "الطول والاتساع"، ولا يستطيع الطفل التعامل مع هذه المشكلة بكفاءةٍ إلّا إذا تحرر من هذه الخاصية، وتحول إلى سلوك التحرر من التمركز decentering، وعندئذ يمكنه أن يحوّل انتباهه من أحد جوانب المشكلة "أو خصائص المثير"، وهو في المثال السابق طول السائل، إلى جانبٍ آخرٍ وهو اتساع الكوب، وفي هذه الحالة وحدها يمكنه أن يصل إلى الاستنتاج الصحيح، وهو أن الكوبين يحتويان على مقدارين متساويين من الماء، أي: لا بُدَّ من التركيز على كلتا الخاصيتين ليصل إلى الاستنتاج الصحيح، وهو ما يفعله المراهق والراشد كما سيتضح فيما بعد.
ويطلق بياجيه على هذه الخاصية: عدم قدرة الطفل على إدراك بقاء الكم أو المقدار Conservation أو ثباتهما invariance، وهي خاصية أخرى هامّة تميز التفكير في هذا الطور، وتُعَدُّ هي وخاصية اللامقلوبية من أعظم ما قدمه بياجيه لعلم النفس في القرن العشرين.
وبسبب خبرات الطفل المحدودة بالأشخاص والأشياء، وقصور محصوله اللغوي، فإننا نجد أن مفاهيم الطفل تتسم بأنها غير دقيقة، بل وخاطئة، بالإضافة إلى خاصية مقاومة التغيير التي أشرنا إليها، ويشيع في هذه المرحلة كثير من المفاهيم التي تؤكدها الثقافة التي يعيش فيها الطفل، وبعضها يكون خاصًّا بالطفل، نتيجة الظروف التي يعيش فيها هو، وتتصف جميع المفاهيم في هذه المرحلة بخصائص