الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رابعًا: النمو الإنساني في عصر التنوير في أوربا
…
رابعًا: النمو الإنساني في عصر التنوير في أوروبا
يوصف القرنان السابع عشر والثامن عشر في أوروبا بأنهما عصر التنوير، ويتسم هذا العصر بسيادة روح الحرية والاعتراف بقدرات الإنسان، وظهرت كتابات دينية تهتم بطرق معاملة الأطفال والشباب في الأعمار المختلفة، وعلى الرغم من أن هذه الكتابات لم تقدِّم وصفًا جيدًا كاملًا لمستويات النمو، إلّا أن توماس "Thomas. 1979"، يقترح وجود أربع مراحل، معتمدًا على تحليل المهام المتوقعة من كل مرحلة كما ظهرت في هذه الكتابات، وهي:
1-
الرضاعة: "من الولادة حتى سن عام ونصف أو عامين" وتتسم هذه المرحلة بالاعتماد الكامل على الكبار في إشباع الحاجات الجسمية.
2-
الطفولة المبكرة: "من عامين وحتى سن 5 إلى 7"، وتتسم بظهور نشاط الحركة والكلام ويسيطر عليها نشاط اللعب.
3-
الطفولة المتأخرة: "من سن 5 إلى 7 سنوات وحتى سن 11 إلى 14 سنة"، وتتسم بالاندماج في الأعمال المفيدة بالمنزل، ودخول المدرسة إذا كان ذلك ممكنًا، والمهارة الأساسية هي القراءة، وبعدها تأتي مهارة الحساب والكتابة، ويمكن للبنات في هذه المرحلة تعلم الأعمال المنزلية، أما الذكور فيمكنهم تحت إشراف الآباء أو الأخوة الكبار، القيام بأعمال الرجال في الحقل أو المتجر أو المنزل.
4-
الشباب: "من سن 11 إلى 14 سنة وحتى 18 إلى 21"، وتتسم بالاستقلال الاقتصادي.
وهكذا تغيرت الاتجاهات نحو الأطفال والمراهقين في أوروبا تغيرًا جذريًّا خلال هذه الفترة، ويمكن أن نرجع ذلك إلى كتابات كبار الفلاسفة الاجتماعيين في ذلك الوقت، والتي أدت إلى تكوين نظرية جديدة نحو الطفل ورعايته، وتركزت خلافات هؤلاء الفلاسفة حول ثلاث مسائل رئيسية هي:
1-
هل الطفل خيِّر أم شرير بالفطرة؟
2-
هل تحرك الطفل دوافعه وغرائزه الفطرية، أم إنه نتاج البيئة؟
3-
هل الطفل مخلوق سلبي تشكله الأسر والمدرسة وغيرهما من المؤسسات الاجتماعية، أم أنه يشارك إيجابيًّا في عملية تشكيل شخصيته؟
ولعل أشهر مظاهر الاختلاف حول هذه القضايا الثلاثة تمثل في هذا العصر في كتابات توماس هوبز، الذي تحيز لاتجاه الفطرة الشريرة، نتيجةً للمفهوم الديني
"الخطيئة الأصلية" وركز على تأثير البيئة، وكتابات جان جاك روسو التي وقفت في الاتجاه المضاد، ونتيجة فلسفة روسو في الطبيعة البشرية زاد الاتجاه نحو ما يسميه الطبيعة؛ فالأطفال عنده أخيار بطبيعتهم ما لم تفسده شرور المجتمع والبيئة، وتعد روايته "إميل" التي نشرت عام 1762 أوضح تعبير عن موقفه الفلسفي والسيكولوجي، ولم يكن "إميل" مصدره الوحيد، فقد اعتمد أيضًا على ذكريات طفولته هو، والتي وصفها بصراحة في اعترافاته، وخبرته في الإشراف على أطفال الأسر الأرستقراطية في عصره، وقراءاته في الفلسفة وحول الشعوب البدائية التي أوحت إليه بفكرة الهمجيّ النبيل، وملاحظاته العارضة لأطفال الفلاحين الأوربيين، وتمتد فترة الطفولة عنده من الميلاد حتى سن 25 سنة.
وتنقسم إلى أربع مراحل فرعية هي:
1-
الرضاعة: "من الميلاد وحتى سنتين من العمر"، وفيها يعتمد الطفل على الرضاعة الطبيعية من الأم، وتمثل مرحلة حرجة لنمو الصحة الجسمية والحواس، وتسيطر على هذه المرحلة المشاعر الحيوانية باللذة والألم.
2-
الطفولة: "من 2-12سنة"، وتتطلب تعلم القراءة والكتابة، وهي مرحلة حرجة لتنمية القوة الجسمية والنشاط الحركي وتخزين المعلومات، وتسيطر على السنوات الأولى من هذه المرحلة المشاعر الحيوانية باللذة والألم المسيطرة على المرحلة السابقة إلّا أنه بعد ذلك يتحول إلى ما يسميه روسو:"الوحشي النبيل" Noble Savage.
3-
البلوغ: "من 12-15 سنة"، وتمثل المرحلة الحرجة للسلوك الاجتماعي وتنمية الحس الأخلاقي الحقيقي، ونمو الوظائف لجنسية.
أما مرحلة الرشد، والتي تمثل النضج الروحي عنده، فلم يحددها تحديدًا دقيقًا، ولعل مما يستحق الإشارة هنا لتنبيه روسو إلى ما يسميه المراحل الحرجة في النمو، ومعناه أن الطفل لكي يفيد من البيئة وآثارها، يجب أن يحرز درجة ملائمة من النضج الداخلي، ويتم التعلم عنده عن طريق استكشاف الطفل للمبادئ التي تحكم العالم المادي والاجتماعي، وعنده أن التدريس غير المباشر أفضل وأكثر فعالية من التدريس المباشر، وفي جميع الحالات علينا أن ندرك أن الطفل خير بطبيعته
ويمكنه أن ينمو ويصل إلى نموذج الحكمة والمعرفة والفضيلة إذا سمح له باتباع طريقته الطبيعية، وليس بالتطفل على مجتمع فاسد، وقد أسيء فهم رأي روسو حول هذه المسألة حين رأى البعض أن ذلك يعني ترك الأطفال يفعلون ما يشاءون.
إلّا أن هذا لم يقصده روسو، فمسئولية الراشد الناضج أن يحلل الطريقة الطبيعية في التعلم، كما فعل "إميل"، وعلى أساس هذا التحليل يعامل خبرات الطفل حتى تتواءم مع مسار المراحل الحرجة التي صورها على أنها تتضمن جوانب النمو المطلوب في كل منها، ومعنى ذلك أن النمو الطبيعي للطفل يحتاج إلى نوع من التنظيم من جانب الراشد.
ومع اقتراب القرن الثامن عشر من نهايته، ظهر عدد من الفلاسفة والمربين والعلماء وجهوا انتباههم إلى وصف مسار النمو الإنساني نذكر منهم:
1-
جوهان نيكولاس تيتنس: Tetens 1736-1807، وكان أستاذًا للفلسفة في عدد من الجامعات التي أنشئت في عصر النهضة، وقدَّم نظرية مبدئية حول النمو الإنساني تهتم بالفروق الفردية في النواحي الجسمية والنفسية طوال مدى الحياة.
2-
ديتريش تيدمان Tiedman "1748-1803"، وقد نشر كتابًا تناول فيه بالتفصيل سيرة طفله؛ حيث وصف مهاراته الحركية ولغته وإمكاناته العقلية وسلوكه الاجتماعي والانفعالي، فكان أول كتاب في علم نفس النمو بالمعنى المباشر.
3-
جون هنري بستالوتزي pestalozzi "1827-1746"، والذي يعتبر أعظم مصدر للأفكار حول تربية الأطفال، وكان له أثر كبير فيمن جاء بعده من فلاسفة في هذا المضمار، وقد لخصت "أميمة أمين، آمال صادق، 1985" أفكاره، وقد اعتمد في معظم ما كتب على ما جمعه من معلومات عن تعلم طفله البالغ من العمر 4 سنوات.
4-
فردريك أوجست كاروس carus 1808-1770، وهو عالم ألماني، سجل بعض انطباعاته حول مراحل النمو مدى الحياة، مستقلة عن العمر الزمني، واهتم على وجه الخصوص بالفروق بين الجنسين، والاختلافات بين الثقافات في النمو الإنساني.
ولعلنا نلاحظ أن معظم الكتابات التي ظهرت في عصر التنوير تعتمد على الخبرة الشخصية لمفكري هذا العصر، إلّا أن ما يلفت النظر هو توجه بعضهم إلى جمع معلومات عن نمو أطفال حقيقيين قاموا بملاحظتهم، وهم في العادة أبناء الباحثين أنفسهم، وهذا الاتجاه خاصة بشَّرَ بالاتجاه العلمي الحديث في دراسته النمو، والذي نعرض أصوله وبداياته في الأقسام التالية من هذا الفصل.