الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وربما لهذه الأسباب لا تفضِّلُ بعض المجتمعات الحديثة -وخاصة في الدول المتقدمة- أن تطلق على المواطن بعد تجاوزه الستين "صفة الشيخوخة"، والتسمية الشائعة لديهم هي "المواطن الكبير" senior citizen، وهذه التسمية في اللغة الإنجليزية لا تحمل معنى التقدُّم في السن فحسب، وإنما تتضمن أيضًا معاني الاحترام والمكانة الرفيعة والقدر العالي، وفي رأينا أن صفة "الشيخ" في اللغة العربية تحمل هذه المعاني جميعًا؛ فالكبير لغةً -كما بينا- هو الطاعن في السن1، بينما الشيخ لغةً هو الأستاذ والعالِمُ الكبير وكبير القوم ورئيس الصناعة، وهو الكبير في أعين القوم علمًا أو فضيلةً أو مقامًا ونحو ذلك، وحين يُنَادَى المرء في العربية بأنه شيخ، فإن ذلك يحمل كل معاني التبجيل والاحترام والتقدير.
1 لعل هذا التحليل اللغوي يدفع المتخصصين في التربية إلى تعديل مسمياتهم لمجال "تعليم الكبار"، وإحلال مصطلح تربية الراشدين محله كما ذكرنا من قبل.
حدود الشيخوخة
المحك العمري
…
حدود الشيخوخة:
متى تبدأ الشيخوخة؟ على الرغم من أن الشيخوخة حالةٌ نفسيةٌ وعقليةٌ لدى الكثيرين، إلّا أنه توجد مجموعة أحداث ثقافية ترتبط بالجسم والعقل تعد معالم لبدء هذه المرحلة، ولعلَّ من المفيد أن نعرض هذه الأحداث التي يمكن الاستفادة بها كمحكاتٍ لتعيين بداية هذه المرحلة الهامة من حياة الإنسان.
المحك العمري:
لعل أهل المحكات العملية في وقتنا الحاضر هو المحك العمري، والذي يحدد بداية زمنية معينة كبدء للعمر الثالث للإنسان؛ فعادةً ما يُعْتَبَرُ السن ما بين الستين والخامسة والستن هو المحك الرئيسي الذي يحدد بداية الشيخوخة، والواقع أن هذا المحك في جوهره هو من نوع المحكات الاعتباطية، ولعل ما يجعل للفترة من 60 -65 علاقة بحدود الشيخوخة أنها تمثِّلُ سن التقاعد واعتزال أدوار العمل الرئيسية، وبداية الاستفادة من نظام المعاشات والتأمين الصحي، والإعفاء من الضرائب، وفي بعض المجتمعات يحصل المسنون على امتيازاتٍ أخرى إضافية؛ مثل: تذاكر المواصلات المخفضة، والأسعار الخاصة لبعض المشتريات.
وإذا كان الفترة من 60-65 هي بداية هذا العمر الثالث للإنسان، فماذا عن حدوده الزمنية؟ يثير هذا السؤال موضوع طول الحياة أو ديمومتها average life span، والذين يمكن النظر إليه من زوايتين: إحداهما متوسط الأعمار، ويدل على العمر الذي يقضيه الإنسان حيًّا في المتوسط، ويسمى متوسط
مدى الحياة longevity، وثانيهما الحد الأعلى للعمر الذي يعيشه الإنسان، ويُسَمَّى المدى الأقصى للحياة maximum life span، ويعكس المؤشر الأول الظروف البيئية من تغذيةٍ ورعايةٍ طبيةٍ وغيرهما، أما المؤشر الثاني فيدل على الخصائص البيولوجية المميزة للإنسان، وكلاهما -من قبل ومن بعد- تتحكم فيه إرادة الله ومشيئته سبحانه وتعالى.
1-
المدى الأقصى للحياة:
يبدو أن المدى الأقصى للحياة ظلَّ ثابتًا خلال بضع فترات تاريخية متعاقبةٍ وعبر الثقافات المختلفة، وخاصةً الإنسان في العصر الحديث حين توافرت للباحثين البيانات التي يمكن أن تخضع للتحليل المنظم، وفي ضوءِ ما هو متاحٌ حتى وقتنا الحاضر يمكن القول أن المدى الأقصى لحياة الإنسان في العصر الحديث هو ما بين 110، 120 سنة، وأن أقصى ما أمكن التوصل إليه بالفعل هو حوالي 115 سنة1.
والسؤال هنا: كيف تتفق هذه النتائج مع ما نقرأ ونسمع من مزاعم حول أفراد معاصرين عاشوا بيننا أعمارًا تفوق كثيرًا هذا الحد الظاهر؟ يرى الباحثون أن معظم هؤلاء "المعمرين" عاشوا في وقتٍ كان من الصعب - إن لم يكن من المستحيل- التحقق من عمر الشخص بطريقةٍ دقيقة Perlmutter "Hall، 1985:61" فحين قام بعض الباحثين ببحثٍ عَمَّا ذُكِرَ عن حوالي 600 شخص من هؤلاء، من أنهم عاشوا 120 سنة على الأقل، لم يجد هؤلاء الباحثون واحدًا منهم عاش لأكثر من 114 سنة "Fries&Crapo، 1981" وقد تأكَّد ذلك من بحوث أخرى، لعل أهمها بحث "Walford، 1983"، وأحيانًا ما نقرأ أو نسمع عن أشخاصٍ يعيشون في بعض الثقافات والمجتمعات النائية، ويشار إليهم بأن متوسط مدى الحياة لديهم يتجاوز 150 عامًا، ومن أشهر هذه المجتمعات ثلاثة: بعض قرى الإكوادور، وبعض مقاطعات الدولة الروسية، وبعض المناطق في باكستان، وقد أُجْرِيَتْ دراسات علمية على هذه الحالات الثلاث على وجه الخصوص، وأكدت خطأ هذه التقديرات العمرية؛ ففي حالة معمري الإكوادور، وُجِدَ أن هناك خطأً واضحًا بين أسماء الآباء والأبناء، وبسبب شيوع الزواج الداخلي فقد تكررت بالفعل الأسماء داخل السلسلة الواحدة، كما لوحظ
1 يجب على القارئ أن يتنبه إلى أننا نشير هنا إلى البيانات التي خضعت للتحليل بالنسبة للإنسان خلال القرنين الماضيين، ويخرج من هذا السياق كليةً، ما ورد في الأثر حول أعمار الأنبياء كنوحٍ عليه السلام، فهذا من الغيب الذي يجب الإيمان به، وكذلك ما ورد حول بعض الحضارات القديمة، فهذه ليست موضوع بحثنا.
أن من عاداتهم أنه حين يموت الطفل يُعْطي الآباء نفس الاسم لطفلٍ جديد، وقد لوحظ أيضًا أن سكان هذه القرى الذين تمتد أعمارهم بين 60، 70 سنة، كانوا يعطون بصفة عامة أعمارهم الصحيحة، أما أولئك الذين تجاوزوا هذا السن فكانوا أقل دقة، ويزداد عدم الدقة مع مزيد من التقدُّمِ في السن، وحين صحح الباحثون هذه البيانات باختيار الوثائق وجدوا أن أحدًا منهم لم يتجاوز عمره مائة عام "Perlmutter Hall، 1985".
وقد أجريت دراسات مماثلة على المعمِّرين الروس؛ حيث لم يجد الباحثون وثائق ميلاد رسمية لهؤلاء، كما لاحظوا أن بعض هؤلاء الذين بالغوا في تقدير عمرهم فعلوا ذلك كحيلةٍ للهرب من الخدمة العسكرية، وربما لهذا السبب لم يُجَنَّدْ بعضهم أثناء الحرب العالمية الأولى حين استخدموا وثائق الوالد "المماثل له في الاسم" بدلًا من وثائقهم هم، وحين صُحِّحَتْ أعمارهم وُجِدَ أنها لم تتجاوز الثمانين عامًا، وقس على ذلك حالة معمري باكستان.
ولعل ما يلفت النظر حقًّا أن المناطق الثلاثة المشار إليها تتسم بالبعد والعزلة عن أعباء الحياة المعاصرة، فهم سكانٌ يعيشون حياةً ريفيةً تقليديةً تمامًا، وبالطبع فإن مثل هذه الثقافات يكون للمسن فيها سلطته وتقديره واحترامه، وربما لهذا السبب كانت المبالغة في تقدير العمر، ومع ذلك فإننا لا نستبعد مطلقًا أن يعيش هؤلاء السكان لما يقترب من مائة عام، بل قد يتجاوزون ذلك بعض الشيء، والسبب في ذلك أنهم يظلون على درجةٍ كافيةٍ من النشاط والحيوية والمشاركة في حياة مجتمعهم وبيئتهم حتى عُمٍرٍ متأخِّرٍ، بالإضافة إلى أن نظامهم الغذائي جيد ومتوازن إلى حدٍّ كبيرٍ، وعدم وقوعهم في أسر بعض العادات السيئة التي يعاني منها الإنسان المعاصر، وخاصةً التدخين وإدمان المخدرات وتعاطي المسكرات، إنهم بذلك يعيشون حياةً أقرب إلى تلك التي يوصي بها الباحثون المعاصرون المتخصصون في علم الإعمار Gerontology، وهو أحدث العلوم الإنسانية نشأةً وأكثرها تطورًا في وقتنا الحاضر:
2-
متوسط مدى الحياة:
أما عن متوسط مدى الحياة، وهو المؤشر الثاني الذي يُسْتَخْدَمُ في دراسة العمر فإنه يختلف من ثقافة لأخرى، كما يتغير من عصرٍ لآخر.
إلّا أن الملاحظ أنه خلال القرنين الماضيين طرأت زيادة على متوسط العمر الذي يعيشه الإنسان "وخاصة الإنسان في الغرب"، ويرجع حدوث ذلك خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر إلى سبب جوهري هو زيادة موارد الغذاء
وتحسين مستواه بالنسبة للغربيين، أما سبب ذلك عندهم في النصف الثاني من القرن الماضي فكان التقدم في الرعاية الطبية، وقد شهد القرن العشرين خاصة تطورات هامة في مجال الطب، وخاصةً مع الإجراءات الوقائية كالتحصين ضد الأمراض المعدية، والطرق العلاجية؛ كالتطورِ في مجال الجراحة والعقاقير "وخاصةً اكتشاف المضادات الحيوية" على نحوٍ أدى إلى خفض معدَّلِ الوفيات "وخاصةً وفيات الأطفال"، فإذا أضنفا إلى ذلك زيادة الوعي لدى الإنسان -مع نهاية القرن الحالي، واستشراف أفاق القرن الحادي والعشرين القادم- من أن فهمنا لأسلوب حياتنا وطريقة عيشنا له أثر كبير في الصحة والمرض، وبالتالي في قصر العمر وطوله "بعد مشيئة الله تعالى" فإننا نتوقع أن يزداد متوسط مدى حياة الإنسان في المستقبل.
إلّا أن هذا القول ليس متماثلًا لدى الجميع، فمن حقائق الإحصاءات الحيوية في كثير من البلدان أن المرأة تعيش بصفة عامة أطول من الرجل، كما أن نسبة وفيات الإناث عند الميلاد أقل منها للذكور، وفي مختلف الأعمار توجد لدى النساء قدرة أكبر من الرجال على مقاومة المرض، كما أنهن أقلّ تعرضًا لمرض العصر القاتل وهو مرض القلب، إلّا أن هذه الميزة للنساء ليست كذلك في جميع المجتمعات؛ ففي بعضها نجد أن عدد المعمرين من النساء يكاد يتساوى مع عددهم من الرجال، وفي البعض الآخر قد يزيد عدد المعمرين من الرجال على النساء، إلّا أن من العوامل التي أدت إلى الصورة الراهنة، والتي وصفناها فيما سبق، أن الرجال أكثر تمسكًا بعادة التدخين، كما أن إدمان المخدرات والمسكرات أكثر شيوعًا بينهم، وكذلك فهم أكثر عرضة للحوادث القاتلة. وعلى الرغم من هذه العوامل الخارجية، فإن بعض الباحثين يرون أن النساء لديهن استعداد بيولوجي للعيش أطول من الرجال، وهم يستندون في ذلك إلى الحقيقة البيولوجية التي تؤكد أن إناث معظم الحيوانات أطول عمرًا من ذكورها، إلّا أن حياة الإنسان ليست محض حقائق بيولوجية، ولكنها ذات إطار اجتماعي وثقافي وتاريخي، ولعله الأهم والأخطر.
ويتضح ذلك مما تأكَّدَ من أن التغذية والرعاية الطبية لها أثر كبير في صحة الإنسان، وبالتالي في احتمال زيادة عمره، ولهذا فمن المعقول فهم ما يُوجَدُ من فروقٍ في هذا الصدد في المستويات الاقتصادية والاجتماعية، وبين الثقافات الفرعية داخل المجتمع الواحد، وبين الدول المتقدمة والدول النامية.
وبالطبع فإن ارتفاع متوسط مدى الحياة يؤدي بدوره إلى زيادة عدد المسنين
وهذا ما تكشف عنه التعدادات السكانية الأخيرة، وقد أدى ذلك إلى توسيع نطاق مرحلة العمر الثالث للإنسان، ورفع حدّها الأقصى الذي أصبح ينتهي بالإنسان إلى الموت في سن مائة سنة أو أكثر، كما بينا عند الحديث عن المدى الأقصى للحياة، ويذكر "Binger، 1983" أن هذه التطورات أدت إلى أن الإنسان المعاصر يمكنه أن يعيش -إن شاء الله- في هذه المرحلة في الوقت الحاضر ما بين 20، 40 سنة.
هل العمر الزماني معك كافٍ؟ لعل أشد الأخطاء خطرًا أن يتصور المرء أن العمر الزمني في ذاته متغير تفسيري "أي: له علاقة سببية بما يحدث من تغيراتٍ في أيِّ طور من أطوار العمر"؛ فالعمر في ذاته لا يمكنه حتى أن يصف، ناهيك أن يفسِّر هذه التغيرات، وعلى هذا فبلوغ المرء سن الستين أو تجاوزه لا يفسر مباشرة ما يحدث من تغيراتٍ من النوع الذي يشيع في العصر الثالث للإنسان. وكل ما يمكن أن يكون عليه أنه مؤشر تتفاعل فيه مجموعة من العوامل التفسيرية من ناحيةٍ "كالآثار الاجتماعية والبيئية التي يعيش فيها الإنسان الراشد المسن، أو التغيرات البيولوجية التي تطرأ عليه"، ومجموعة أخرى من الخصائص المترتبة عليها من ناحية أخرى "مثل اتجاهات الراشدين المسنين أو العمليات السيكولوجية التي تصدر عنهم"، ويشبه Kermis" "1984 العمر الزمني -باعتبار محض مرور الزمن- بأيّ أداة قياس أخرى "السنتيمترات في المتر مثلًا"؛ فالسنتيمترات وسيلة لقياس الطول، ولكنها لا تحدثه أو تؤثر فيه بالزيادة أو النقص، وبالمثل فإن الساعات والأيام والشهور والسنوات التي تؤلّف مقياس الزمن "وبالتالي مقياس العمر الزمني" تقيس هذا الحدث الفيزيائي، ولا تدل على أكثر من طول الزمن الذي قضاه المرء حيًّا، وكل ما نستطيع قوله: إن هناك تغيرات معينة تحدث في العمر الزمني أو تصاحبه، ولكنها لا تنتج عنه، وهذه التغيُّرات البيولوجية والسيكولوجية والاجتماعية هي -كما سبق أن وصفناها في مطلع هذا الكتاب- هي محتوى الزمن.