الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لا توجد سلطة بشرية تفوق الدليل الموضوعي، وعلينا دائمًا أن نقبل الأفكار أو نرفضها في ضوء هذه الأدلة والشواهد وحدها، وليس على أساس المكانة السياسية أو الاجتماعية لصاحب الفكرة، وعلى الباحث العلمي أن يكون مستعدًّا هو نفسه للتخلي عن فكرته إذا لم يتوافر لديه دليل يؤكد صحتها.
تنوع طرق البحث العلمي في دراسة النمو الإنساني:
تتوافر للباحثين في الوقت الحاضر طرق عديدة يمكن استخدامها في اختبار فروضهم حول النمو الإنساني، وهذا التنوع في مناهج البحث أحد مظاهر قوة العلم؛ لأن معنى ذلك أن النتائج التي نتوصل إليها بأحد هذه المناهج يمكن التحقق منها باستخدام مناهج أخرى، ويوفر هذا للباحثين ما يسمى: الدليل التقاربي Converg ing evidence، وهذا الدليل إذا حصلنا عليه يؤكد أن نتائج البحث اكتشافات حقيقية وليست محض اصطناع يرجع إلى طبيعة المنهج المستخدم، وعلى القارئ لهذا الكتاب أن يفكر دائمًا بهذه الطريقة، وعليه حين يقرأ بعض نتائج البحوث أن يبحث دائمًا عن طرق أخرى يمكن أن تستخدم في دراسة نفس الموضوع؛ بحيث تتوافر لدينا أدلة تقاربية تحقق لنا أهداف العلم: الوصف والتفسير والتحكم، التي تناولناها بالتفصيل في الفصل الأول، ولعلنا بهذا نفتح للباحثين وطلاب الدراسات العليا في علم نفس النمو آفاقًا جديدة للبحث في هذا الميدان.
الملاحظة الطبيعية:
من طرق البحث التي يفضلها علماء النفس ما يسمى الملاحظة الطبيعية Nautralistic Observation أي: ملاحظة الإنسان في محيطه الطبيعي اليومي المعتاد، ويعني هذا بالنسبة للأطفال مثلًا ملاحظاتهم في المنزل أو المدرسة أو الحديقة العامة أو فناء الملعب، ثم تسجيل ما يحدث، ويصنف رايت wright 1960 طرق الملاحظة الطبيعية إلى نوعين: أحدهما يسميه الملاحظة المفتوحة، وهي التي يجريها الباحث دون أن يكون لديه فرض معين يسعى لاختباره، وكل ما يهدف إليه هو الحصول على فهمٍ أفضل لمجموعة من الظواهر النفسية التي تستحق مزيدًا من البحث اللاحق، أما النوع الثاني فيسميه رايت الملاحظة المقيدة، وهي تلك التي يسعى فيها الباحث إلى اختبار فرض معين، وبالتالي يقرر مقدمًا ماذا يلاحظ ومتى؟ ونعرض فيما يلي طرق الملاحظة التي تصنف إلى كلٍّ من الفئتين:
أولًا- طرق الملاحظة المفتوحة:
تشمل طرق الملاحظة المفتوحة Open Observation طريقتين أساسيتين؛ هما دراسة الحالة وتسجيل اليوميات من ناحية، ووصف العينة من ناحية أخرى.
أ- دراسة الفرد: وتشمل مجموعة من الطرق؛ منها المقابلة الشخصية، ودراسة الحالة، وتسجيل اليوميات، والطريقة الكلينيكية، وفي هذه الطرق يسجل الباحث المعلومات عن كل فرد من الأفراد موضوع الدراسة، بهدف إعداد وصف مفصل له دون أن تكون لديه خطة ثابتة تبين أيّ هذه المعلومات له أهمية أكثر من غيره. وقد يلجأ الفاحص إلى تسجيل هذه المعلومات في يومياته في صورة "سجلات قصصية"، وقد يطلب من المفحوص أن يروي عن فترة معينة من حياته في موقف تفاعل مباشر بينه وبين الفاحص "المقابلة الشخصية". وقد تمتد هذه الطريقة لتصبح سجلًّا للفرد أو الحالة، يستخدم فيه الباحث مصادر عديدة للمعلومات، مثل: ظروف المفحوص الأسرية، والوضع الاقتصادي والاجتماعي، ودرجة التعليم، ونوع المهنة، وسجله الصحيّ، وبعض التقارير الذاتية عن الأحداث الهامة في حياة الفرد، وأدائه في الاختبارات النفسية، وكثير من المعلومات التي تتطلبها دراسة الحالة؛ تتطلب إجراء مقابلات شخصية مع الفرد، وعادةً ما تتسم هذه المقابلات بأنها "غير مقننة"، أي: تختلف الأسئلة التي تطرح فيها من فرد لآخر.
وتعد من قبيل دراسة الحالة وتسجيل اليوميات سِيَرُ الأطفال التي كتبها الآباء من الفلاسفة والأدباء والعلماء عن أبنائهم، والتراجم التي كُتِبَتْ عن بعض العباقرة والمبدعين، والسير الذاتية التي كتبوها عن أنفسهم، وكذلك أدب الاعترافات، كما يعد من قبيل الطريقة الكلينيكية أسلوب الاستجواب Questioning الذي استخدمه جان بياجيه وتلاميذه في بحوثهم الشهيرة في النمو، وعلى الرغم من أن هذه الطريقة، باعتبارها من نوع الملاحظة المفتوحة، فيها ثراء المعرفة وخصوبة المعلومات وحيوية الوصف، إلا أن فيها مجموعة من النقائص نذكر منها:
1-
تعتبر هذه الطريقة من جانب الفاحص مصدرًا ذاتيًّا وغير منظم للمعلومات، أما من جانب المفحوص فإنه إلى جانب الطابع الذاتي لتقاريره، قد تعوز المعلومات التي يسجلها الدقة اللازمة، وخاصة حين يكون عليه استدعاء أحداث هامة وقعت له منذ سنوات طويلة.
2-
المعلومات -أو البروتوكولات كما تسمى أحيانًا- التي نحصل عليها بهذه الطريقة من فردين أو أكثر، قد لا تكون قابلة للمقارنة مباشرة،
وخاصة إذا كانت الأسئلة التي توجه إلى كلٍّ منهما مختلفة. صحيح أنه في بعض الطرق الكلينيكية قد تكون الأسئلة مقننة في المراحل الأولى من المقابلة، إلا أن إجابات المفحوصين على كل سؤال قد تحدد نوع الأسئلة التي تطرح على المفحوص فيما بعد، يصدق هذا على طريقة الاستجواب عند بياجيه، وعلى بعض المقابلات المقننة.
ولهذا نجد في النهاية أن البروتوكولات التي نحصل عليها تختلف من فرد إلى آخر، وتهيئ لنا صورةً للمفحوص ككائن فريد متميز.
3-
النتائج التي نستخلصها من خبرات أفراد بذواتهم تمَّت دراستهم بهذه الطريقة قد تستعصي على التعميم، أي: قد لا تصدق على معظم الناس.
4-
التحيزات النظرية القبلية للباحث قد تؤثر في الأسئلة التي يطرحها والتفسيرات التي يستخلصها، ولعل هذا هو أشهر الانتقادات التي وجهت إلى فرويد.
وباختصار، فإن طريقة دراسة الحالة قد تفيد كمصدر خصب للأفكار حول النمو الإنساني، وهي بهذا قد توحي للباحثين بفروضٍ هامَّة تستحق الدراسة، والتي يجب التحقق منها باستخدام أساليب أخرى للبحث ومن الصعب -إن لم يكن من المستحيل- استخدام هذه الطريقة في اختبار الفروض.
ب- الوصف على سبيل المثال: في هذه الطريقة التي تسمى الوصف على سبيل المثال Specimen Description، يحاول الملاحظ أن يسجِّل بإسهابٍ وتفصيل كل ما يحدث في وقت معين، على نحوٍ يجعله أقرب إلى آلة التسجيل، ولعل هذا ما دفع الباحثين الذين يستخدمون هذه الطريقة إلى الاستعانة بالتكنولوجيا المتقدمة في هذا الصدد؛ فباستخدام آلات التصوير وكاميرات الفيديو، وأجهزة التسجيل السمعي، يمكن للباحث أن يصل إلى التسجيل الدقيق الكامل لما يحدث، وهذه الطريقة في الملاحظة المفتوحة أكثر دقة وموضوعية ونظامًا من الطريقة السابقة، إلّا أن المشكلة الجوهرية هنا، هي أننا بطريقة وصف العينة نحصل على معلومات كثيرة للغاية إذا استمر التسجيل لفترة طويلة، ويوضح لنا هذه الصعوبة مثال البحث الذي قام به باركب ورايت "Barker & Wright، 1951"، لقد تطلَّب تسجيل كل ما يفعله ويقوله طفل عمره 8 سنوات في يومٍ واحدٍ أن يصدر في كتاب ضخم مؤلَّف في 435 صحفة.
ثانيًا- طرق الملاحظة المقيدة:
تعتمد طرق الملاحظة المقيدة Closed Ovservation على استراتيجية
اختيار بعض جوانب السلوك فقط لتسجيلها، وبالطبع فإن هذا التقييد يفقد الملاحظة خصوبة التفاصيل التي تتوافر بالطرق السابقة، إلّا أن ما تفقده في جانب الخصوبة تكسبه في جانب الدقة والضبط، ولعل أعظم جوانب الكسب أن الباحث يستطيع أن يختبر بسهولةٍ بعض فروضه العلمية باستخدام البيانات التي يحصل عليها بهذه الطرقة، وهو ما يعجز عنه تمامًا إذا استخدم الأوصاف القصصية التي يحصل عليها بالطرق الحرة السابقة، وتوجد ثلاث طرق من نوع الملاحظة المقيدة هي:
أ- عينة السلوك: وفي هذه الطريقة يكون على الباحث أن يسجل أنماطًا معينة من السلوك في كل مرة يصدر فيها عن المفحوص؛ كأن يسجل مرات الصراخ التي تصدر عن مجموعة أطفال سن ما قبل المدرسة، أو مرات العدوان بين أطفال المرحلة الابتدائية، وقد يسجل الباحث معلومات وصفية إضافية أيضًا؛ ففي تسجيل السلوك العدواني قد يلاحظ الباحث أيضًا عدد الأطفال المشاركين في العدوان وجنس الطفل، ومن يبدأ العدوان، ومن يستمر فيه إلى النهاية، وما إذا كانت نهاية العدوانية تلقائية أم تطلبت تدخل الكبار، وهكذا. ويحتاج هذا إلى وقت طويل بالطبع، وتزداد مشكلة الوقت حدة إذا كان على الباحث أن يلاحظ عدة مفحوصين في وقت واحد؛ فمثلًا إذا كان الباحث مهتمًّا بالسلوك العدواني الذي يصدر عن ستة أطفال خلال فترة لعب طولها 60 دقيقة، فإن عليه أن يلاحظ كل طفل منهم بكل دقة لخمس فترات طول كل منها دقيقتان طوال الزمن المخصص للملاحظة، ويسجل كل ما يصدر عن الطفل مما يكن أن ينتمي إلى السلوك العدواني، وبالطبع ييسر عليه الأمر استخدام وسائل التسجيل الكنولوجية الحديثة التي أشرنا إليها فيما سبق.
وقد يسهل عليه الأمر -إذا لجأ لى التسجيل الشخصي المباشر- أن يستخدم نوعًا من الحكم والتقدير للسلوك الذي يلاحظه، وتفيده في هذا الصدد مقاييس التقدير التي تتضمن نوعًا من الحكم على مقدار حدوث السلوك موضع البحث، ومن ذلك أن يحكم على السلوك العدواني للطفل بأنه:
يحدث دائمًا - يحدث كثيرًا - يحدث قليلًا - نادرًا ما يحدث - لا يحدث على الإطلاق.
وعليه أن يحدد بدقة معنى "دائمًا - كثيرًا - قليلًا - نادرًا - لا يحدث" حتى لا ينشأ غموض في فهم معانيها، وخاصةً إذا كان من الضروري وجود ملاحظ آخر لنفس السلوك يسجل تقديراته مستقلًّا تحقيقًا لموضوعية الملاحظة "وهو شرط واجب الحدوث كما سنبين فيما بعد".
ب- عينة الوقت: في هذه الطريق يتركز اهتمام الباحث بمدى حدوث أنماط معينة من السلوك في فترات معينة يخصصها للملاحظة، ويتم تحديد أوقاتها مقدمًا، والمنطق الرئيسي وراء هذه الطريقة أن الإنسان يستمر في إصدار نفس السلوك لفترات طويلة نسبيًّا من الزمن، وعلى هذا يمكننا الحصول على وصف صحيح لهذا السلوك، وحكم صحيح عليه إذا لاحظناه بشكل متقطع في بعد الزمن.
وتختلف الفترات الزمنية التي يختارها الباحثون لهذا الغرض ابتداءً من ثوانٍ قليلةٍ لملاحظة بعض أنواع السلوك، إلى دقائق أو ساعات عديدة لبعض الأنواع الأخرى، وفي جميع الأحوال يجب أن يكون المدى الزمني للملاحظة واحدًا تبعًا لخطة معدة مقدمًا. وخلال هذه الفترات يسجل الباحث عدد مرات السلوك موضع الاهتمام، ومن أمثلة ذلك: أن يختار الباحث حصة في أول النهار، وحصة في آخره، مرتين في الأسبوع على مدار العام الدراسي لبحث بعض جوانب سلوك تلميذ المدرسة الابتدائية. وإذا عدنا لمثال السلوك العدواني قد يقرر الباحث ملاحظة سلوك العدوان عند الأطفال خلال الدقائق العشر الأولى من كل ساعة، من أربع ساعات متصلة خلال مرحلة.
ومن مزايا هذه الطريقة أنها تسمح بالمقارنة المباشرة بين المفحوصين ما دام الوقت الذي تجري فيه الملاحظة والزمن الذي تستغرقه واحدًا.
ج- وحدات السلوك: في هذه الطريقة يلاحظ الباحث خلال فترة زمنية معينة وحدات معينة من السلوك behaviour units، وليس عينة سلوك أو عينة وقت، ومعنى ذلك: أن تتم ملاحظة إحدى جزئيات السلوك بدلًا من ملاحظته ككتلة مركبة غير متجانسة، وتبدأ وحدة السلوك في الحدوث في أيّ وقت يطرأ فيه أي تغير على استجابات المفحوص وما قد يصاحبه من تغير في بيئته؛ فمثلًا إذا لاحظنا أن الطفل وهو يلعب برمال الشاطيء تحول فجأة إلى وضع كمية من الرمل في شعر طفل آخر، فإننا نسجل في هذه الحالة حدوث ذلك، باعتباره وحدة سلوك تختلف عما كان يحدث من قبل حين كان الطفلان يتبادلان الابتسام مثلًا، فأصبحا يتبادلان الهجوم، ويسجل الباحث ما طرأ على بيئة الطفلين من تغير في هاتين الحالتين حين كان الطفل الأول يمسك في المرة الأولى كرة يلعب بها وحده، فجاء أبوه وأخذها منه ليعطيها للطفل الثاني الذي كان يلح في طلبها، وهكذا يكون على الباحث في كل مرة أن يسجل حدوث وحدة السلوك على أنها تَغَيُّر في استجابات الطفل وفي بيئته، وحين تنتهي فترة الملاحظة يقوم الباحث بفحص وحدات السلوك التي تَمَّ تجميعها ثم تحليلها، ويتطلب ذلك بالطبع تصنيفها في فئات.
تعليق عام على طريق الملاحظة الطبيعية:
إن الباحث الذي يستخدم طريقة الملاحظة الطبيعية عليه أن يكون متنبهًا إلى سلوكه هو أثناء الملاحظة حتى لا يقع في أخطاء التحيز، والذي يتمثل في ميله إلى تدعيم فكرته المسبقة عن السلوك الإنساني، وقد يؤدي به هذا إلى المبالغة في جمع بعض الملاحظات عن طريق الاهتمام الزائد، أو التهوين من بعضها عن طريق الإهمال، وهو بهذا يتجاوز مهمته كمسجل للأحداث كما تقع بالفعل، وكما تسجلها الكاميرا العادية إلى آلة تضخم بعض الأحداث عن طريق التكبير، أو تقلل من شأنها عن طريق التصغير.
ومن مشكلات طرق الملاحظة الطبيعية أن الملاحظ قد يتجاوز حدد مهمته أيضًا إذا تدخل في عملية التسجيل التي يقوم عليها الوصف الدقيق للظواهر وحوَّلها إلى مستوى التفسير، ولذلك فإن كثيرًا من تقارير الملاحظة لا يعتد بها إذا تضمنت الكثير من آراء الباحث وطرقه في فهم الأحداث بدلًا من أن يتضمن وصفًا دقيقًا للأحداث ذاتها، وإحدى طرق زيادة الدقة في هذا الصدد تحديد أنواع الأنشطة التي تعد أمثلة للسلوك موضوع الملاحظة، وتكون هذه الأنشطة تعريفًا إجرائيًّا لهذا السلوك.
وتتضمن المشكلة السابقة قضية الموضوعية في الملاحظة، فإذا لم تكن ملاحظتنا إلّا محض تفسيراتنا وتأويلاتنا وفهمنا للأحداث؛ فبالطبع لن يحدث بيننا "الاتفاق المستقلّ" في الوصف؛ لأنها سمحت بأن تلعب جوانبنا الذاتية دورًا في ملاحظاتنا، ومن الشروط التي يجب أن نتحقق منها في طريق الملاحظة شرط الثبات، وهو هنا ثبات الملاحظين، ويتطلب ذلك أن يقوم بملاحظة نفس الأفراد في نفس السلوك موضع البحث أكثر من ملاحظ واحد، على أن يكونوا مستقلين تمامًا بعضهم عن بعض، ثم تتم المقارنة بين الملاحظين، فإذا كان بينهم قدر من "الاتفاق المستقل" فيما يسجلون، أمكننا الحكم على الملاحظة بالدقة والثبات، وإلّا كانت نتائج الملاحظة موضع شك. وبالطبع فإن هذا الثبات يزداد في طرق الملاحظة المقيدة عنه في طرق الملاحظة المفتوحة.
وتحتاج طرق الملاحظة الطبيعية إلى التدريب على رؤية أو سماع ما يجب رؤيته أو سماعه وتسجيله، وتدلنا خبرة رجال القضاء أن شهادة شهود العيان في كثير من الحالات تكون غير دقيقة؛ لأنهم بالطبع غير مدربين على الملاحظة، وما لم يتدرب الملاحظ تدريبًا جيدًا على الملاحظة، فإن تقاريره لن تتجاوز حدود الوصف الذاتي المحض، وهي بهذا تكون عديمة الجدوى في أغراض البحث
العلمي، وفي كثير من مشروعات البحوث يتمّ تدريب الملاحظين قبل البدء في الدراسة الميدانية حتى يصلوا في دقة الملاحظة إلى درجة الاتفاق شبه الكامل بينهم "بنسة اتفاق لا تقل عن 90%".
ومن المشكلات الأخرى في طرق الملاحظة الطبيعية، أن محض وجود ملاحظ غير مألوف بين المفحوصين يؤثر في سلوكهم، ويؤدي إلى انتفاء التلقائية والطبيعة في اللعب أو العمل أو غير ذلك من المواقف موضع الملاحظة، وقد بُذِلَت جهود كثيرة للتغلب على هذه المشكلة، ومن ذلك تزويد معامل علم النفس بالغرف التي تسمح حيطانها الزجاجية بالرؤية من جانب واحد "هو في العادة الجانب الذي يوجد فيه الفاحص"، وفي هذه الحالة يمكن لفاحص أن يكون خارج الموقف ويلاحظ سلوك الشخص وهو يتم بتلقائية، ومنها أيضًا استخدام آلات التصوير بالفيديو أو السينما، وآلات التسجيل السمعي، بشرط أن توضع في أماكن خفية لا ينتبه إليها المفحوصون، أو توضح في أماكن مرئية لهم على أن تظل في مكانها لفترة طويلة نسبيًّا من الزمن قبل استخدامها حتى يتعود على وجودها المفحوصون، وقد يلجأ بعض الباحثين للتغلب على هذه المشكلة إلى الاندماج مع المفحوصين في محيطهم الطبيعي قبل الإجراء الفعلي؛ بحيث يصبح وجودهم جزءًا من البيئة الاجتماعية للبحث، وهذه الطريقة تسمى الملاحظة بالمشاركة.
وبالطبع كلما أجريت الملاحظة في ظروف مقننة ومضبوطة زودتنا بمعلومات أكثر قابلية للتعميم، فمثلًا عند داسة نمو القدرة على القبض على الأشياء ومعالجتها، قد يتطلب الأمر ملاحظات دقيقة وتفصيلية للأطفال من مختلف الأعمار، كل منهم يقوم بمعالجة نفس الشيء في موقف مقنن أو موحد، وحتى نوضح ذلك فقد نختبر اختبارًا "فرديًّا" 40طفلًا، كل عشرة منهم في مجموعة عمرية معينة، ولتكن 20 أسبوعًا، 30 أسبوعًا، 40 أسبوعًا، 50 أسبوعًا، بينما هم جالسون جلسة معتدلة في مقعد مرتفع، ثم نضع مكعبًا على لوح خشبي أمام كل طفل، وفي هذه الحالة يمكننا أن نلاحظ ونسجل بالتفصيل جهود الطفل للقبض على المكعب الخشبي ومعالجته.
وبالطبع فإن التصوير السنيمائي لاستجابات الأطفال يعطي تسجيلًا موضوعيًّا وكاملًا، ويمكننا أن نحلله بدقة، ونعود إليه إذا اختلفنا في ملاحظة أساليب الطفل في القبض على الأشياء "مثلًا استخدام الذراع أو الرسغ أو اليد أو الأصابع"، وتعطينا المقارنة بين سجلات الأطفال من مختلف الأعمار أساسًا لوصف اتجاهات النمو في القدرة على معالجة الأشياء.
والملاحِظ لا يستطيع أن يلاحظ كل شيء في سلوك الطفل، وإنما يحدد
ملاحظاته بنمطٍ معين من أنماط السلوك؛ فمثلًا عند دراسة النمو الاجتماعي قد يقتصر اهتمام الباحث على العدوان بين أطفال دار الحضانة، وفي هذه الحالة يسجل بدقة جميع الأفعال التي تصدر عنهم في هذا الصدد؛ مثل الخبط والضرب والعراك والسباب وتحطيم لعب الطفل الآخر، وحيث إنه أيضًا لا يستطيع أن يلاحظ الطفل -أو الأطفال- طول الوقت، فلا مناص من لجوئه إلى منهج عينة الوقت، كما يجب على الباحث أن يصوغ بياناتٍ عن العدوان في صورة كَمٍّ أو مقدار أو درجة قدر الإمكان.
وبالطبع فإن سلوكًا مثل معالجة الأشياء أو العدوان، يمكن ملاحظته مباشرةً، إلّا أن كثيرًا من التغيرات التي يهتم بها المتخصص في سيكولوجية النمو ليست كذلك؛ فالذكاء وسمات الشخصية والدوافع الأساسية جميعًا لا يمكن ملاحظتها مباشرة، ويجب الاستدلال عليها واستنتاجها من الأداء للظاهر؛ فالبنسبة للذكاء مثلًا، نجد أن المتخصص في علم النفس يلاحظ أداء الطفل لمهامٍّ معينة، وحلوله لمشكلات من نوع خاصٍّ يشتمل عليها اختبار جيد الصنع، يسمى اختبار الذكاء، ومن ملاحظاته هذه يستنتج مستوى القدرة العقلية العامة للطفل، ومثل هذه الاستنتاجات لا يمكن أن تكون صادقة ولها معنًى إلّا إذا كانت ملاحظات السلوك تتم في ظروف مقننة أو مضبوطة، وإلّا إذا كانت الإجراءات امستخدمة موحدة ومتطابقة بالنسبة لجميع المفحوصين، وإذا كان علينا أن نقارن بين أداء المفحوصين المختلفين، فإن الظروف التي نلاحظهم فيها يجب أن تكون موحدة للجميع قدر الإمكان، وبذلك يمكننا أن نتأكد من أن الاختلافات في أداء المفحوصين ترجع إلى الفروق في مستويات الذكاء وليس إلى غير ذلك من المتغيرات الدخيلة.
لنفرض مثلًا أن طفلًا في حجرة مليئة بالضوضاء، أو ضعيفة الإضاءة، أو أن الفاحص الذي يقوم بتطبيق الاختبار كان شخصًا غير خبير، وأن طفلًا آخر يتم اختباره بفاحص خبير، وفي مكان هادئ جيد الإضاءة، إن اداء السيء الذي يظهره الطفل الأول قد يرجع إلى هذه الظروف المحيطة به، أو إلى إجراءات الاختبار نفسها وليس إلى انخفاض مستوى الذكاء، أما إذا كانت ظروف الاختبار متطابقة للطفلين قدر الإمكان، يمكننا أن نستنتج استنتاجًا معقولًا أن الطفل الذي يؤدي في الاختبار أداء أسوأ من الآخر يكون أقل ذكاء منه.
وبالمثل يمكننا أن نستنتج مدى القوة النسبية لانفعال العدوان لدى الأطفال من ملاحظاتنا لسلوك العراك والسباب اللفظي والتحطيم، ومرة أخرى، فإن هذه الملاحظات إذا لم تتم في ظروف مضبوطة ومقننة فإن استنتاجاتنا قد لا تكون