الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التغير في النشاط الحركي:
يدرك المسنين أنهم أبطأ حركة، وأقل تآزرًا، وأضعف ثقةً في حركاتهم، مما كانوا عليه في مراحل السابقة، والسبب في ذلك هو نقص القوة والطاقة الذي يصاحب التغيرات الجسمية التي وصفناها آنفًا.
وقد يكون وراء هذا التدهور بعض العوامل النفسية؛ فالمُسِنُّ يعلم أنه قد دخل مرحلة "الأفول"، كما يعلم أن هناك قيمًا اجتماعية تركز على المهارة والقوة والسرعة، وهي جميعًا خصائص "الشباب" الذي ولَّى، بالإضافة إلى أن هناك ما يُذَكِّرُهُ دائمًا بنقصه إزاء من هم أصغر سنًّا، والأثر الانفعالي الناشئ عن هذه العوامل النفسية قد يسرع بالفعل بالتدهور في القدرات الحركية للفرد، أو يهبط بدوافع الفرد لأداء ما يستطيع أداءه، ومع ذلك فإن من حقائق النمو الإنساني في هذه المرحلة أن القدرات الحركية لا يمكن أن تكون على النحو الذي كانت عليه من قبل.
فالواقع أن جميع القدرات الحركية تتعرض للتدهور مع التقدم في السن، إلّا أن بعض هذه القدرات يكون التدهور فيه أسرع من سواه، ولعل أخطر هذه التغيرات ما يطرأ على القوة والسرعة والمهارة.
فبالنسبة للقوة وُجِدَ أن معدل التدهور في قوة قبضة اليد يصل في سن الستين إلى 17% من معدلها الأقصى الذي كانت عليه في طور الشباب، وعندما يبلغ المرء سن الخامسة والسبعين تكون القوة القصوى لقبضة اليد معادلة تقريبًا لها عند المراهقين المبكرين في سن بين 15-16سنة، وبالطبع فإن التدهور في القوة الجسمية يختلف تبعًا لمجموعة العضلات، وأكثر صور الضعف شيوعًا ما يطرأ على عضلات الساعدين، والعضلات التي ترفع الجسم ككل، وأوضح علامات نقص القوة ما يلاحظ على المسنين من سرعة تعرضهم للتعب الجسمي؛ فمع أقل جهد، وفي أقصر وقت، تبدأ الشكوى عند المسنين من هذا التعب.
وفي حالة السرعة نجد أن اختبارات زمن الرجع تبين لنا أن المسنين أكثر بطأً في الاستجابة ممن هم أصغر سنًّا، ويزداد هذا البطء مع زيادة صعوبة العمل الذي يُؤَدَّى، ومن العوامل التي تؤثر في ذلك التعب والضغط والتوتر.
بل إن المهارات التي سبق للمُسِنِّ أن تعلمها في مراحل عمره السابقة تصير أكثر بطيأً أيضًا مع التقدم في السن، ومن ذلك مهارة الكتابة مثلًا، والسبب في ذلك بالطبع هو صعوبات التآزر الحركي المشهودة في هذه المرحلة، ويسير اتجاه تدهور المهارة في عكس اتجاه اكتسابها وتكوينها؛ فالمهارات التي تكونت أولًا تبقى لفترة أطول، بينما المهارات الأحدث تزول بسرعة، إلّا أنه مع التقدُّمِ في السن تتدهور حتى المهارات جيدة التكوين، ويصير المرء في حالةٍ من العجز أشبه ما يكون بعجز الطفولة القديم، ومع ذلك فإن الاستمرار في ممارسة المهارة أو السرعة في بعض التعلُّم الحركي يرجئ حدوث هذا التدهور إلى حين.
والواقع أن تعلُّم مهارات حركية جديدة في مرحلة الشيخوخة يُعَدُّ من الخبرات غير العادية، ليس لأن التعلم في ذاته أصبح أكثر صعوبة فحسب، وإنما بسبب نقص الدافعية لدى الأفراد أيضًا، ولهذا يجب أن يشعر المسن في تعلُّمِه لأي مهارة حركية بأن هذا التعلُّم مفيد له شخصيُّا، وقد يؤدي به ذلك إلى بذل الجهد الممكن، وهذا في ذاته مؤشر جيد حتى ولو سار هذا التعلُّم بمعدل أبطأ، وكان عائده أقل من المراحل العمرية السابقة، ومما يفيد التعلُّم الحركي في هذه المرحلة أن تكون اليد والذراع على درجة كافية من الثبات.
والسؤال هو: لماذا يحدث البطء في السلوك الحركي في هذه المرحلة؟ الواقع أن هذا البطء لا يقتصر على النشاط الحركي، وإنما يشمل السلوك الإدراكي والمعرفي والفسيولوجي أيضًا؛ لأنها جميعًا أنماط استجابة للمثيرات الخارجية، وقد اقتَرَح بعض الباحثين المبكِّرين أن السبب في ذلك هو العمليات الطرفية في الجهاز العصبي المركزي، ومن ذلك نقص كفاءة أجهزة الاستقبال، وبطء سرعة التوصيل العصبي، إلّا أن بعض الباحثين المحدثين، ومنهم "Botwinick، 1973" رفضوا هذا التفسير واقترحوا فرضًا بديلًا يرجع بطء الاستجابة إلى التغيرات في العمليات المركزية مع التقدم في العمر، وقد وجدوا بالفعل أن هذا البطء السلوكي يرجع من ناحية إلى التدهور الحسي والإدراكي على ما وصفناه في القسم السابق، والذي يؤدي بدوره إلى صعوبة التمييز بين المثيرات، كما يرجع من ناحية أخرى إلى هبوط سرعة التوصيل العصبي، وتأكد أن المسنين أبطأ ممن هم أصغر سنًّا في جميع سرعة التوصيل العصبي، وتأكَّدَ أن المسنين أبطأ ممن هم أصغر سنًّا في جميع مستويات صعوبة المهام التي يؤدونها، وأن زمن رجع المسنين يزداد "أي: تقل السرعة" مع زيادة صعوبة تمييز المثير، وأن الفروق بين الأعمار تزداد مع زيادة هذه الصعوبة، ومعنى ذلك أن العوامل الإدراكية "الطرفية" ليست وحدها هي المسئولة عن بطء الاستجابة مادام هذا البطء يظهر فيها حتى مع ضبط متغير القدرة على التمييز؛ فحينما تَمَّ التكافؤ بين المجموعات العمرية المختلفة في شدة المثير لم يؤدِّ ذلك إلى زوال الفروق بين المسنين ومن هم أصغر سنًّا في بطء الاستجابة، وعلى ذلك فإن أعضاء الحسِّ ليست وحدها المسئولة عن البطء في زمن الرجع الذي يظهر في مرحلة الشيخوخة.
ومع ذلك فحين حاول الباحثون اختبار فرض دور سرعة التوصيل العصبّي كعامل رئيسي في البطء، ثبت أنه غير صحيح؛ فحين تمت المقارنة بين المسنين في المهام التي تتطلَّبُ مسارًا عصبيًّا أطول من غيرها لم تظهر فروق بينها، ومعنى ذلك أن بطء الاستجابة حالة عامة، سواء كانت المهمة تَتَطَلَّبُ مسارًا عصبيًّا
طويلًا "وبالتالي يكون التوصيل العصبي بطيئًا" أو العكس.
ومن ناحيةٍ ثالثة حاول الباحثون تحديد دور ميكانيزمات الجهاز العصبي في بطء الاستجابة، وفي هذه الدراسات حلَّلَ الباحثون زمن الرجع إلى مكونين رئيسيين هما: زمن الحركة motor time، ويُقْصَدُ به الوقت الذي ينقضي بين تشغيل العضلة وإتمام الاستجابة، والزمن السابق على الحركة premotor، ويُقْصَدُ به الوقت الذي ينقضي بين حدوث المثير وتشغيل العضلة، ويتضمن الزمن السابق على الحركة ثلاث عمليات منفصلة: النقل الحسي للمثير، والتفسير المركزي للمثير، واتخاذ قرار الاستجابة، وقد وَجَدَ الباحثون أن هذا المكوّن يستغرق حوالي 84% من الزمن الكلي للرجع، وعلى ذلك فإن العوامل الحركية تكاد تكون مستبعدة في أثرها، وهذا يؤدي إلى استناج أن بطء زمن الرجع يرجع في جوهره إلى عوامل معرفية تفسيرية متضمنة في عمليات اتخاذ القرار، وقد دعمت تجارب بوتوينك هذا الفرض.
ويُؤَكِّدُ هذا الفرض مصدر آخر للمعلومات، جاء من البحوث التي استخدمت الرسام الكهربائي للمخ "EEG"، فقد وجد الباحثون من أصحاب هذا الاتجاه أن هناك معامل ارتباط بين البطء الذي تظهره الرسوم الكهربائية للمخ، وبطء الاستجابة كما يتمثل في زمن الرجع، وقد اقترحت في هذا الصدد علاقة سببية بينهما؛ حيث المخ هو المسبب للبطء العام للاستجابة "وليس العكس بالطبع"، وهذه العلاقة، كما ترى "Kermis، 1984"، من الفروض السببية القليلة التي ثبتت صحتها في ميدان سيكولوجية المسنين.
ويرى بعض الباحثين أن التمييز بين النشاط النفسيحركي psychomotor، وغيره من أنواع النشاط النفسي ليس كبيرًا، وإذا كان النشاط النفسيحركي يدل على المهارات البسيطة -كما بينا آنفًا- بحيث يتطَلَّب قليلًا من نشاط العمليات المركزية "كالتفكير وحل المشكلة" في علاقتها بالنشاط الحركي ذاته، فإننا نجد أن هذا التمييز ليس سهلًا؛ لأن جميع الأنشطة النفسية تطلب بعض الميكانيزمات المعرفية المركزية، وكما بينَّا فإن السهولة أو الصعوبة وكذلك البساطة أو التعقد الباديتين على المهمة، لا علاقة لهما بدرجة صعوبة وتعقد العمليات الطرفية أو المركزية المعرفية المتضمنة، ومع ذلك، فإن بعض النتائج الطريفة أمكن التوصل إليها عن علاقة النشاط الحركي بالعمر.
فمن الملاحظات الشائعة أن الأفراد يميلون إلى البطء الحركي بالتدريج مع العمر، إلّا أن سبب ذلك ليس واضحًا، وبالإضافة إلى هذا، فإن المسنين لا يؤدون
الأعمال الحركية أبطأ من الراشدين الصغار فحسب، ولكن أيضًا إذا كانت تعليمات المهمة توجه المفحوصين إلى العمل ببطء، فإنهم يعملون ببطءٍ أشد من الذين هم أصغر سنًّا.
ومن الدراسات الكلاسيكية حول علاقة الأداء الحركي بالعمر، تلك التي قام بها "Miles، 1931"، فقد حصل على الأداء الحركي لعينةٍ تتألف من 231 من الذكور تمتد أعمارهم بين 6-95 عامًا، في ستة أعمال حركية مختلفة، تقيس السرعة اليدوية وزمن الرجع، وتؤكِّد نتائج هذا البحث ظهور التدهور في السرعة مع التقدم في السن؛ ففي السرعة اليدوية كان أولئك الذين بلغوا الثمانينات أبطأ من الشباب في العشرينات بمعدل يمتد بين 50%-60%، بينما كانت نتائج زمن الرجع أفضل، فلم تظهر بعض مقاييسه تدهورًا مع العمر إلّا عند سن السبعين.
ومن الملاحظ بصفةٍ عامَّةٍ أن آثار التقدم في السن في النشاط الحسي والكفاءة الحركية عند الراشدين الأصحاء أقل مما نلاحظه من هذه الآثار بالنسبة إلى كفاءة العمليات العصبية المركزية "ومنها العمليات المعرفية التي سوف نتناولها فيما بعد"، وهي العلميات التي تنظم المعلومات التي تستقبلها الحواس، وأنماط النشاط التي يتم التعبير عنها بالحركة أو الكلام، وبالتالي ربط الفرد بالبيئة.
العلاقة بين العمر والمهارة:
من أفضل الدراسات حول العلاقة بين المهارة والتقدُّمِ في السن ما قام به فريق من علماء النفس الإنجليز بقيادة ولفورد "Welford، 1958""والتي نشرت عام 1958 كتقرير نهائي لوحدة بحوث نفيلد حول مشكلات المسنين"، ويبدأ هذا التقرير بالقول بأن أعضاء الجسم وعملياته تزود الإنسان "بالميكانيزمات البيولوجية" التي تجعل الأداء الماهر ممكنًا، فالذراع يمتد، والأصابع تمسك بمقبض الفنجان، ثم تحمله إلى الشفتين، والعينان تمسحان الطريق أثناء قيادة السيارة، وتسجلان ظهور سيارة أخرى، ويحاول علماء النفس الربط بين مفاهيمهم ومناهجهم وتلك التي تتوافر عند علماء الفسيولوجيا والتشريح، وقد توجد هذه الرابطة صريحةً في بعض الأحيان "كما هو الحال في زمن الرجع والتعلّم"، أو مضمرة "كما هو الحال في بعض صور الذاكرة والتفكير".
والواقع أن سلوك الفرد هو نتاج جزئي لسلسلة معقدة طويلة من التفاعلات بين الميكانيزمات الفسيولوجية والبيئة المحيطة، وتبدأ هذه كما أشرنا كثيرًا منذ لحظة تكوين الجنين، ولا تنتهي إلّا بالموت.
ولدراسة مشكلة آثار التقدُّم في السن قام ولفورد وزملاؤه بفرض أنواع
مختلفة من الضغوط والقيود على أداء الفرد، ثم ملاحظة كيف يتغير نمط السلوك، وفي هذا يختبر المفحوصون حتى يصلوا إلى الحدود الفسيولوجية لأدائهم لعملٍ معينٍ، أو إلى ما يقرب من هذه الحدود، ويمكن الكشف عن أيّ ضعفٍ في أدائهم من عدد من المؤشرات هي:
1-
التغيرات في أنواع الأخطاء وعددها.
2-
التغيرات في تنظيم السلوك.
3-
التغيرات في مقدار الزمن المطلوب لأداء العمل وتوزيع هذا الزمن.
ولكيّ نوضِّح طريقة ولفورد وزملائه في البحث نعطي مثالًا من إحدى تجاربه النموذجية، وفيها يرى المفحوصون مثيرات تتألف من مجموعة متحركة من الخطوط المتوازية التي تتعرج بطريقة غير متوقعة على نحوٍ شبيهٍ بمنحنيات طريق غير مألوف، ويقدّم للمفحوص عجلة قيادة وبدال سرعة يستخدمها لتحريك مؤشر بين الخطوط المتوازية، وفي مثل هذا العمل يمكن اختزال آثار التتبع بإحدى طرق ثلاث:
1-
إبطاء معدل حركة العرض البصري.
أو2- زيادة المسافة الأمامية بما يسمح للمفحوص بالرؤية الواضحة.
أو 3- تغيير حساسية جهاز التحكم في حركة المؤشر.
ويمكن للباحث تغيير هذه الشروط وغيرها؛ بحيث يختبر المفحوص عند حدود قدرته، وقد وجد الباحثون أن الخلل الذي يطرأ على ميكانيزمات البصر والسمع والتآزر العضلي "مما أشرنا إليه فيما سبق" يمثل بالطبع قيودًا على المستوى الأقصى لأداء الفرد، أما نقصان القدرة فإنه لا يظهر بوضوحٍ إلّا إذا حدث تدهور فسيولوجي سريع يؤدي إلى عجز قدرات الفرد عن مقابلة مطالب المهام المعتادة، أو كانت المطالب المتشددة تفرض من خلال مهام صعبة؛ بحيث أن الحدود يمكن أن تظهر بوضوح "في صورة خطأ أو حذف أو إرجاء للأداء". وباختصارٍ، فإن أداء الأعمال في الظروف المعتادة لا يظهر بالضرورة تدهورًا في قدرات الشخص المتقدم في السن، ولكن حين يختبر هذا الشخص عند حدود قدرته، فإن تدهور القدرة يكون أكثر وضوحًا.
ومعدل الأداء الذي يجده الفرد طبيعيًّا وملائمًا وكفؤًا يُسَمَّى السرعة المثلى optimum pace، وهي السرعة التي يؤدي بها الفرد العمل بكفاءة دون أن يشعر
بأنه تحت ضغطٍ أو إلحاحٍ، أما معدل الأداء الذي يستطيع الفرد أن يصل إليه ولا يتعداه فيُسَمَّى السرعة القصوى maximum pace، وهو الحد الأعلى للمعدل الذي يعمل به الفرد، والعمل عند هذه الحدود العليا أو بالقرب منها، يفرض قيودًا وضغوطًا تؤدي إلى الخلط والتعب والتوتر والخطأ والحذف والتذبذب في الأداء، وبالطبع فإن آثار التدهور الجسمي والعقلي المرتبطة بالعمر يمكن دراستها بوضوحٍ في علاقتها بالأداء الأقصى؛ لأن معظم أعمال الحياة اليومية تفرض مطالب أدنى من المستوى الأقصى، وبالطبع نحن ندفع أنفسنا أحيانًا إلى هذا الحد "كما هو الحال في الألعاب الرياضية"، ولكننا في أغلب الأحوال نشعر أن الأداء "الأمثل" هو الأفضل، وندخر أداءنا الأقصى لتلك المواقف التي تحتاج لبذل جهد خاصٍّ، أو حين نريد "اختبار حدودنا" في الأداء.
ومع التقدُّم في السن تتناقص الفروق بين المستويين الأمثل والأقصى، فإذا سألنا مجموعتين متكافئتين؛ إحداهما من الراشدين الشباب، والأخرى من المسنين، أن يكتبوا الحروف الأبجدية بسرعتهم العادية والطبيعية، فإننا نرى أن المعدل العادي للمسنين أقل قليلًا من الشباب، فإذا طلبنا من المجموعتين كتابة هذه الحروف بأسرع ما يمكن، سنجد أن الشباب يظهرون زيادة كبيرة في الأداء، بينما المسنين لا يتحسن إنتاجهم إلّا قليلًا. وهكذا نستطيع القول أن الفروق في الأعمار تزيد في الأداء الأمثل، ويفسر لنا هذا ما لوحظ أن المسنين يظهرون كفاءةً في بعض المواقف دون البعض الآخر، كما أن التذبذب في القدرة "أي: أن يظهر الشخص كفاءة في بعض المواقف دون البعض الآخر" يزيد أيضًا مع التقدم في السن.
والتغيرات في الأداء الماهر التي ترتبط بالعمر تغيرات تدريجية تراكمية، وقد لا يعي الشخص المسن أحيانًا ما طرأ على سلوكه؛ لأن من النادر أن يواجه المواقف التي تختبر قدرته، وقد يشعر بالدهشة أو الإحباط حين يكتشف أنه يحتاج إلى نظارة أو سماعة أذن، أو أنه لا يستطيع المنافسة المتكافئة في الألعاب الرياضية مع أشخاص أصغر منه سنًّا.
ويميز ولفورد عدة آثار للتغيرات المرتبطة بالعمر في النواحي البيولوجية وهي:
1-
فشل التوافق كلية: فالشخص المتقدم في السن قد لا يستطيع تعلم تشغيل آلة جديدة أو القيام بعمل جديد.
2-
قد لا يفشل تمامًا إلّا أن الكفاية قد تقلُّ فتظهر أخطاء أكثر.
3-
قد تستمر كفاية التوافق بالرغم من نقصان الاستعدادات البيولوجية، فقد يغيّر الشخص المسن من سلوكه أو محيطه ويعوّض نقائصه.
4-
قد لا يظهر الشخص المسن أيّ نقصان في الأداء؛ لأن العمل لا يزال في متناول استعداداته السيكولوجية والبيولوجية.
5-
قد يلجأ الشخص إلى المبالغة في تعويض نقصان الكفاءة، ويحقق بذلك تحسنًا فعليًّا في الأداء، وذلك باستخدام التمرينات البدنية وتغيير نظام التغذية، والإقلاع عن التدخين على سبيل المثال، وبهذا يتحسّن أداؤه عَمَّا كان عليه من قبل.
وبالطبع يمكن للمسنين أن يحسنوا أداءهم الحركي، وذلك بإعادة التدريب على المهارات التي أهملت في الماضي، إلّا أننا يعوزننا الدليل الإيجابي على هذه المسألة، فقد أوضحنا أن الموارد الجسمية والعقلية عند الراشدين تتدهور مع العمر، ومع ذلك يمكن القول: إن بعض المسنين ربما يكونون قد تدربوا في صغرهم على استخدام مواردهم بطرق أكثر فعالية، وقد أشرنا إلى أن الفرق بين الأداء "الأمثل" والأداء "الأقصى" يكون كبيرًا عند صغار الراشدين، وبهذا يمكن القول: إن من السهل تحقيق تحسينات جزئية في الأداء عن طريق بذل جهد أكبر، أو استخدام طريقة أفضل.
ومن المعلوم أن الشخص الذي يكون انتباهه واهتمامه مركَّزَيْنِ على عملٍ ما، لا يستطيع الانتباه لأشياء أخرى حين تكون مطالب المهمة عند حدود القدرة أو تتعداها، وفي هذه الحالة لا يستطيع حتى أن يفكر في التفاصيل للمهمة ذاتها، والشخص المسن الذي يؤدي أداء يقترب من حده الأقصى، لا تتوافر لديه موارد جديدة يوزعها على أنشطة أخرى غير ذلك تلك التي ينشغل بها.
المهارات المعقدة:
من المهارات التي اهتم بها ولفورد عام 1958 في تحليله الشهير للتعلُّم الحركي وعلاقته بالعمر، ما يسميه عملية الترجمة Translation، وفيها تستخدم قواعد ذهنية معينة متعلمة لأداء المهمة قبل صدور الاستجابات الملائمة، وفي بعض الأحيان قد تكون قواعد العمل محددة وموصفة؛ كما هو الحال في تعليمات الاختبارات، أو في العروض البصرية التي يدركها المفحوص، ومعنى الترجمة هنا أن الشخص يحوّل النص اللغوي إلى أداء عملي عند القيام بالمهمة، إلّا أنه في شئون الحياة اليومية تكون هذه القواعد مضمرة؛ فقائد السيارة لا يقودها وأمامه كتاب "كيف تقود السيارة"، إلّا أنه في كثير من
المجالات الصناعية والمهنية حيث تكون الأخطاء خطيرة ومكلفة يعتمد مشغلو الآلات اعتمادًا كبيرًا على تعليمات شكلية مكتوبة.
وتؤكد التجارب التي أجراها ولفورد أن المسنين لا يستفيدون كثيرًا من التعليمات المكتوبة لأنها تضيف تعقيدات إلى الأعمال الصعبة، وهذه التعليمات أكثر جدوى حين يكون الفرد على درجة ملائمة من الكفاءة، فتفيد في زيادة سرعة أدائه وإنقاص المخاطرة بالخطأ، إلّا أنها ليست بديلًا عن المهارة العملية ذاتها، وهكذا فإن سبب عدم استفادة المتقدمين في السنِّ من التعليمات الصريحة ليس في أن هذه التعليمات غير مفيدة، ولكن لأنها سابقة للأوان؛ فالمسنون يفضلون تعلُّم المهارة على طريقتهم وبسرعتهم الخاصة، حتى أنه في المراحل المبكرة للتعلُّم نجد أن الأساليب الروتينية "التي يمكن أن يحصِّلُوها مع الوقت" لا تكون ملائمة دائمًا لهم، وحيث إن معينات الذاكرة عادةً ما تكون مفيدة في الأداء الماهر، فلا بُدَّ من تدريب الأفراد المسنين على استخدامها، وخاصةً حين يكون هناك الكثير مما يجب تذكره، وحين يكون ترتيب سلسلة الأفعال هامًّا، وحين يكون الوقوع في الخطأ خطيرًا.
ويصف ولفورد تجربة يطلب فيها من المفحوصين أن يقذفوا بحلقات قصيرة من سلسلة وتصويبها إلى صندوق يقع على مسافة بعيدة نسبيًّا، وفيها وجد أنه لا تُوجَد فروق عمرية في الأداء، بشرط أن تكون العلاقة بين العرض الإدراكي والاستجابة مباشرة، إلّا أنه حين تكون هذه العلاقة غير مباشرة، وذلك عن طريق إخفاء الهدف بشاشة، وإجبار المفحوص على رؤيته في مرآة، لُوحِظ أن الأشخاص الأكبر سنًّا يكونون أقل دقة وأكثر بطأً في التصويب.
وإذاكان على المفحوص "ترجمة" الموقف، فإن أيّ تعقيدٍ يطرأ عليه يؤدي إلى مزيدٍ من البطء، ويزيد أيضًا من احتمال الخطأ، ويصدق هذا على الراشدين الصغار أيضًا، إلّا أنه أكثر وضوحًا عند المسنين، فإذا تعارضت عملية الترجمة مع قواعد العمل المحددة تحديدًا مسبقًا، فإن صعوبات جديدة سوف تنشأ، ويُسَمَّى هذا أحيانًا بالانتقال السالب لأثر التدريب، فليس من المستغرب أن نلاحظ بعض التصلُّب والجمود في النشاط الحركي للراشدين الأكبر سنًّا الذين يعملون في مثل هذه الظروف، ولهذا يكون من الصعب عليهم التخلي عن طريقة خاطئة والتحول إلى طريقة صحيحة للعمل، ومن الشائع أيضًا أن نجد أن الراشدين الكبار لا يرغبون في أغلب الأحوال في استبعاد طرق قليلة الكفاية يمارسونها ممارسةً متكررةً، وإحلال طرق جديدة أكثر فعالية محلها.
وفي مواقف الاختبار -وكذلك في مواقف التدريب- يكون الراشدون الصغار أكثر استرخاءً وتحررًا من التوتر، بينما نجد المسنين أكثر اندماجًا في العمل، ويظهرون اهتمامًا أكبر به، وقد يفسِّرُ هذا نقصان القدرة عند الفئة الأخيرة، وقد يحدث هذا نتيجة رغبة الشخص المسِنِّ في أن يقلل من المخاطرة بالخطأ، وقد يكون دفاعًا انفعاليًّا ضد الفشل.
وفي مهام التعلُّم التي يظهر فيها المسنون أداءً أقل جودةٍ من الراشدين الصغار، يبدو أن هذه الفروق تكون في الدرجة وليس في النوع؛ فالوقت المستغرَق في تتبع مسار معينٍ، أو في الاستجابة معكوسة "كما يرى الشكل في المرآة" مثلًا يتحسن بالممارسة، وبالطبع فإن أداء الراشدين الصغار يكون أفضل من أداء الكبار، إلّا أن الاتجاه نحو التحسُّن خلال التعلُّم هو نفسه عند كلٍّ منهما. وقد قام بروملي "Bromley، 1958" بتجربة يتعلم فيها الفرد سلسلة من الاستجابات الاعتباطية نسبيًّا، وبشرط أن يكون ترتيب ظهور كل استجابة هامًّا، فوجد أن تعلُّمَ الاستجابات المبكرة والمتأخرة في السلسلة أسهل من الاستجابات المتوسطة، ويُسَمَّى هذا في ميدان علم النفس التجريبي "أثر الموضع التسلسلي" serial position effect، وهو أكثر ظهورًا حين تكون السلسلة طويلة، أو يكون الأداء سيئًا، وقد وجد بروملي أن التعلم الصم عند الراشدين الكبار أقل كفاءة منه عند الراشدين الصغار، إلّا أن أثر الموضع التسلسلي لم يتغير في الحالتين، ومعنى هذا أنه يصعب علينا التمييز بين أداء الفريقين في التعلُّم الصم إذا كانت درجاتهما قابلة للمقارنة، إلا أن هذا لا يعني أن أنواع الأداء الأخرى تتشابه عند المجموعتين في عدم التمييز؛ فالتقدم في السن ينتج تغيرات في "بنية" الأداء أو "كيفه".
ويؤكد ولفورد أن العمليات الحسية والحركية في المهارة أقل أهميةً نسبيًّا بالمقارنة بعمليات الترجمة المضمرة التي تتوسط بينهما، والروابط غير المباشرة بين عرض المثيرات وقواعد فهمهما، أو الاستجابة لها لا تقتصر على الأعمال المعملية؛ فبعض الأعمال الواقعية يتضمن درجة من "المسافة النفسية" بين الإنسان والعالم الحقيقي، والإنسان يتعامل مع العالم بواسطة عملية الترجمة التي أشرنا إليها، وهذه العملية تمتد في مدى واسع ابتداءً من علاقة الترابط والتداعي بين المثير والاستجابة، وهي علاقة بسيطة نسبيًّا، إلى المفاهيم والطرق الرمزية، وفي هذا يجب التمييز بين مرحلتين: مرحلة الاكتساب والإنتاج، ومرحلة الاستخدام والاحتفاظ والاسترجاع؛ فالمرحلة الأولى تتطلَّب قدرًا من الاستعداد.
العام للتعلم حتى يمكن للفرد أن يكتسب قواعد الترجمة، بينما لا تتطلب المرحلة الثانية ذلك، ولهذا فإن أداء مهام المهارة المعقدة "كالتعامل مع الأشكال كما تبدو في المرآة" قد يكشف في نفس الوقت العجز العقلي عند المسنين، بينما لا تفيد في ذلك المهام التي لا تتطلّب أكثر من الحفظ والاسترجاع.
ويوجد نوعٌ آخر من "الترجمة" يتمثّل في الانتقال من أحد وسائط الحس إلى وسيط آخر؛ ففي بعض الألعاب الرياضية يكون للإحساس بالتوازن وإحساساتنا من العضلات والمفاصل أهميةً في تحديد الاستجابة، إلّا أن المهارة قد تتطلَّب استخدام معلومات حواس البصر أو السمع، أو ما يُسَمَّى التغذية الراجعة الحسية، التي هي في جوهرها من نوع تعزيز التعلم، ومن الطريف أن نذكر أن هذا النوع من التعزيز ليس له أثرٌ يذكر في أداء المسنين، والسبب في هذا لا يرجع في جوهره إلى الفشل في استخدام هاتين الحاستين، وإنما إلى الفشل في الترجمة الملائمة من المثير البصريّ أو السمعيّ إلى الإحساس بالحركة والشعور بالتوازن، وكثير من مواقف العمل تتطلب هذا التعقد في الأداء من بدء العمل حتى اكتماله، وبالطبع فإن المهارات رفيعة المستوى تتطلب ترجماتٍ كثيرةٍ بين وسائط حسية عديدة، ولذلك فإن هذه المهارات المعقَّدَةِ يصعب على المسنين إتقانها أو الاحتفاظ بها.
ويوجد نوع ثالث من الترجمة يتصل بنظام عرض المثيرات وطرق الاستجابة؛ فمثلًا قد تتطلَّب المهمة أن يكون عرض المثيرات رأسيًّا وأن تصدر الاستجابات أفقيًّا، كما هو الحال عند التعامل مع صور شاشة أفقية للرادار. ويصف ولفورد تجربةً استخدم فيها جهاز يتألف من سطرٍ من اللمبات الأفقية أرقامها "منتظمة" بالترتيب من 1-12، يتم تشغيلها بسطرٍ من المفاتيح الأفقية أيضًا مرقمة "عشوائيًّا"، وهيأ ولفورد ثلاثة شروط مرتبة حسب درجة الصعوبة "من الأصعب إلى الأسهل" كما يلي:
1-
توضع بطاقة بأرقام المفاتيح فوق لوحة المفاتيح مباشرة.
2-
توضع هذه البطاقة في منتصف المسافة بين اللمبات والمفاتيح.
3-
توضع هذه البطاقة تحت اللمبات.
وقد وجد الباحث أن في هذا الموقف التجريبي تصدر عن المسنين أنواع مختلفة من الأخطاء، ومن ذلك أن المفحوصين قد يربطون بين البطاقة المرجعية واللمبات بدلًا من المفاتيح، أو يستغنون عن استخدام البطاقة، أو يستخدمونها
مرتين، وقد ينشأ بعض هذه الأخطاء من المحاولات الطبيعية عند المفحوصين لتبسيط العمل "حتى يجعلوه في نطاق كفاءتهم" مما ينجم عنه سلوك مضطرب أو غير ملائم، وقد لاحظ ولفورد أن كلًّا من الوقت المطلوب للأداء والأخطاء التي تصدر عن المفحوص، يزيدان زيادةً حادةً عند المسنين حين يعملون في الظروف الصعبة. وكان الظرف الأول هو أصعب الظروف بالطبع، ومنشأ الصعوبة فيه أنه يتطلب عمليتين مختلفتين، أولاهما: ترجمة رمزية من مصدر الضوء إلى الرقم المسجَّل في البطاقة المرجعية، وثانيتهما: الترجمة المكانية من الموضع في بطاقة مرجعية بعيدة إلى نفس الموضع أيضًا في صف المفاتيح، وفي رأي ولفورد أن كلًّا من هاتين الترجمتين على حدةٍ تؤدي إلى نقصٍِ كبيرٍ في الأداء مع التقدم في السن، إلّا أن استخدامهما معًا يؤدي إلى نقص أقل مع زيادة العمر، وقد لوحظ أن إضافة صعوبة جديدة للعمل يؤدي إلى مزيدٍ من التدهور في أداء المسنين، ويُعَدُّ ذلك أحد العوامل التي يجب مراعاتها في تدريب المسنين على المهارات الحركية، ولا شكَّ في أن الزيادة في الوقت المستغرق في الأداء، وفي عدد الأخطاء التي تصدر عن المفحوصين المسنين عند أداء الأعمال التي تتطلب عمليات معقدة من الترجمة والتنظيم، قد ترتبط بالفقدان التدريجي والتراكمي لخلايا المخ.
وحين توضع بطاقة أرقام المفاتيح مباشرة تحت الأضواء "الظرف الثالث وهو أسهل الشروط الثلاثة" لم يجد ولفورد فروقًا دالَّةً بين الراشدين الصغار والمسنين في زمن الرجع وفي درجة الخطأ، أما حين تتحرّك الأضواء بعيدًا إلى الخلْف يزيد زمن رجع المسنين، بينما تقل أخطاؤهم، وحين أدير صف الأضواء ليصبح أفقيًّا، مع بقاء صف المفاتيح أفقيًّا، ووجود بعض المسافة بينه وبين الأضواء، فإن زمن رجع المسنين يزداد زيادة كبيرة، إلّا أن أخطاءهم ظلت متساوية تقريبًا مع أخطاء الراشدين الصغار.
وفي عدة تجارب أخرى مماثلة وجد ولفورد أن الفروق في العمر -سواء بالنسبة للزمن أو عدد الأخطاء- عند اكتساب المهارة لا تكون دالة حين يكون كلٌّ من العرض البصريّ والحركات في المستوى الأفقي، إلّا أن هذه الفروق تزداد زيادة كبيرة حين يصبح العرض رأسيًّا والحركات في المستوى الأفقي، وهي نتائج تؤكد أن العجز الملاحظ في الأداء الماهر مع التقدُّم في السن يرجع في جوهره إلى تدهور عمليات الترجمة المركزية، وليس إلى القصور الحسي أو الحركي في ذاتهما. وعلى كلٍّ فهذه النتائج لا تزال في حاجة إلى مزيد من البحوث لتدعيمها، كما أنها في حاجةٍ إلى اختبارٍ في بيئتنا وثقافتنا.