الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مزيد من التعلُّمِ قد يكون ضربةً عنيفةً إلى مفهومه عن ذاته كمتخصصٍ مُدَرَّبٍ خبيرٍ.
ويثير هذا الفرض مسألة هامة تتصل في جوهرها بالممارسة التعليمية مع الراشدين، ويعني هذا ضرورة تغيير الطرق التعليمية واستراتيجيات التدريس لهؤلاء؛ بحيث يصبح الموقف التعليمي فرصةً يناقشون فيها مشكلاتهم المشتركة، بدلًا من أن يكون مجالًا يتضمن أن المتعلم الراشد يعوزه شيء ما "وهو بالفعل كذلك"، وأن يُعَادَ تخطيط البرامج بحيث تعين الراشد على المحافظة -ولو جزئيًّا- على صورة الذات لديه، وأن تقدر الخبرات السابقة للمتعلم الراشد تقديرًا ملائمًا، بل ويستعان بها في بناء الخبرات الجديدة من خلال ما يسمى التعلم الخبري experiential learning، وتهيئة جوّ المودة، وعلاقة الاحترام المتبادل بين المعلِّم والمتعلِّم، وتيسير ظروف المساعدة الفردية وخدمات الإرشاد النفسي للراشدين.
2-
أوهام العمر:
إذا كان قلق الراشدين المتعلمين يمكن التغلب عليه، فإن المعلِّم الممارس في هذا الميدان قد يجد نفسه بإزاء قوى مدمرة داخل عقول هؤلاء المتعلمين، تتمثل في اعتقادهم بأن قدراتهم العقلية تتضاءل تضاءلًا خطيرًا مع التقدم في السن.
ومعظم هذه المفاهيم القبلية تدعمها مصادر عديدة، فصورة الراشد في منتصف العمر عند الأدباء والفنانين، وكما تظهر على خشبة المسرح وشاشات العرض السينمائي والتليفزيون، تكاد تجمع على حدوث هذا التدهور العقلي1.
وكثيرٌ من الشركات والهيئات والمؤسسات تعلِنُ صراحةً في سياستها للقوى العاملة أنها لا تعيِّن من يزيد عمره عن 35 عامًا مثلًا أو أقل من ذلك بكثير، هذا على الرغم من أن بعض شركات الطيران تعيد تدريب طياريها وهم في سن الخمسين على قيادة الطائرات الجديدة، ومن الأمثال الشائعة في الغرب "إنك لا تستطيع أن تعلم كلبًا عجوزًا حيلًا جديدة"، وهو مَثَلٌ مدمرٌ، بينما يقول المثل العامي المصري:"الدهن في العتاقي"، وهو يتعدَّى في معناه معنى السمنة المادية إلى المهارة والمعرفة.
وربما كان أخطر المصادر أثرًا في تدعيم هذه الصورة الشائعة عن التدهور العقلي مع التقدم في العمر ما ذكره بعض الخبراء، ربما من باب الفكاهة، ومن
1 من أشهر هذه الصور ما قاله دوجيري أحد أبطال مسرح شكسبير: "حين يتقدم بنا السن تضيع منا الفطنة".
هؤلاء السيد وليام أوسلر W. Osler الذي كان طبيبًا شهيرًا وأستاذًا للطب في جامعة جون هوبكنز، ثم تقاعد من هذا المنصب الجامعي في سن 55 عامًا، ورحل إلى إنجلترا ليشغل منصبًا آخر في جامعة أوكسفورد، قال في عام 1905 بطريقةٍ نصف جادةٍ، نصف ساخرةٍ، مداعبًا أولئك الذين تعدوا الستين، وناصحًا بشكلٍ أكثر جديةٍ بإعطاء الشباب فرص إدارة شئون الحياة:
"إن العمل الفعَّال والإيجابي والحيوي، إنما يتم بين سن الخامسة والعشرين وسن الأربعين، هذه السنوات الخمس عشرة الذهبية هي التي تؤلف الفترة المثمرة والبناءة، والتي يكون فيها التوازن جيدًا بين المصرف والائتمان العقليين.
وقد دعَّمَ هذه الصورة بعد60 عامًا عالم الأنثروبولوجيا البريطاني المعاصر أدوموند ليتش ELeach في سلسلةٍ من المحاضرات ألقاها في الإذاعة البريطانية عام 1967، وربطَ معالم التدهور العقلي مع التقدُّمِ في السن بالتغيرات التكنولوجية التي يشدها العصر، وما يصحبها من أنواعٍ جديدةٍ من المعارف والمهارات والاتجاهات والقيم، مما يجعل ما لدى المسنين "الذي يتجاوزون في رأيه الخامسة والخمسين" من آراء ومهارات غير مرتبطة بالحياة في الحاضر أو المستقبل.
هذه هي أوهام المتعلم الراشد المتقدم في السن نوعًا ما عن نفسه، بعضها ينجم عن اعتقاد الراشد في نفسه، أو اعتقاد الآخرين فيه، والتي تعطي صورة متدهورة للقدرة، كما تخلق صعوباتٍ جمَّةٍ للمعلِّم المهتَّم بتعليم الراشدين، خاصةً حين تكون الفصول في معظمها من المتقدمين في السن، وقد يستخدم بعض هؤلاء المتعلمين "أوهام العمر" هذه لتجنب "مصاعب" التعلُّم الحقيقي، وكأن لسان حاله يقول:"لا تطلب مني عملًا شاقًّا، فأنا لا أستطيع بسبب كِبَرِ سنِّي". وقد يكون هذا السلوك حلًّا لا شعوريًّا لمشكلة الخوف من الفشل إذا بذل بالفعل جهودًا جادة في التعليم، إن مثل هؤلاء يكونون بالفعل قد فقدوا ثقتهم في قدرتهم على العمل.
وقد ناقشنا مسألة العلاقة بين الرشد والسلوك فيما سبق من فصول هذا الباب، ومنها يتضح أن نتائج البحوث تؤكد أن التدهور -إن حدث- لا يكون حادًّا بالصورة التي أشاعتها الأقوال الفولكلورية والكتابات الأدبية والصحفية التي أشرنا إلى أمثلة منها، وحتَّى ولو حدث بعض التدهور فهناك ما يعوضه، فمثلًا إذا كانت ذاكرة المدى القصير تتدهور "في الشيخوخة مثلًا"، فإن ذاكرة المدى الطويل قد تتحسن، كما أن هناك عوامل لا تقل أثرًا في السلوك، ومنها التعليم والممارسة، وربما مع شيوع نتائج البحوث العلمية في هذا الميدان قد تتغير هذه الصورة "الكئيبة" التي رُسِمَتْ على مدى العصور للتقدُّمِ في مراحل الرشد.