الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نمو الشخصية
مدخل
…
نمو الشخصية:
يبدو للبعض أن الحديث عن نموِّ الشخصية في طور بلوغ الأشد أو منتصف العمر أمر غير ممكن؛ ففي وسط العمر يصل الإنسان إلى "تحديد طريقه"، كما أنه فيما يبدو يكون قد أحرز استقرارًا شبه نهائي في سمات شخصيته، وهذا ما يقرره الراشدون الكبار حول أنفسهم عندما يدركون هذا الطور، فعادةً ما يصف الشخص الذي تجاوز عمره الأربعين سنة نفسه بقوله "لقد تحددت شخصيتي"، وأنه فات الأوان الذي يفكر فيه في تغيير أساسي في سلوكه، وأن الحياة بالنسبة له لا تتغير من يومٍ لآخر، ومن عامٍ لآخر.
إلّا أن الملاحظات العارضة بالإضافة إلى نتائج البحوث العلمية السيكولوجية تذكر لنا أن طور وسط العمر لا يختلف عن غيره من أطوار ومراحل النموّ الإنساني، في أنه طور نموّ وتغير مستمرين، ولعل الحكمة القديمة التي تقول:"إن الحياة تبدأ في سن الأربعين" تدعم هذا القول، كما تدعمه عبارات كثيرة شائعة؛ بعضها له أساس علمي عن أزمة منتصف العمر، بل إن بعض الكُتَّاب يذهبون إلى أبعد من ذلك، فيقارنون بين "أزمة" الرشد الأوسط و"أزمة" المراهقة، واخترع بعضهم مصطلح middlescence ليعني وجود فترة اضطراب في وسط الحياة، بالإضافة إلى الدور الاجتماعي الجديد لها، ويرون أن في هذا الطور تتوفر للراشد فرص جديدة لحل أزمة الهوية التي تظل موضع المعاناة منذ المراهقة، فوسط العمر "فرصة ثانية لتؤدي الأعمال التي تحبها، وتغني أغانيك المفضلة، وأن تكون حقًّا وصدقًا أنت نفسك""على حد تعبير ليشون الكاتب المعاصر ليشون Leshon".
وفي تناول موضوع نموِّ الشخصية وتغيرها في هذا الطور يركز العلماء على مسألة أثر التقدم في السن على الشخصية، فهل يظهر الأفراد تغيرات منتظمة في جوانب الشخصية؛ مثل الميول والاتجاهات والقيم، مع انتقالهم مع الرشد المبكر إلى وسط العمر وأخيرًا إلى الشيخوخة، أم أن الشخصية تستقر عبر دورة حياة الراشد؟
وعلى الرغم من أن المقاومة المباشرة بين مختلف الأعمار في إحدى سمات الشخصية، أو مجموعة من هذه السمات تبدو الطريقة الصحيحة للإجابة على هذا
السؤال إلّا أن الأمر في الواقع ليس بهذه البساطة؛ فالشخصية هي أكثر جوانب الفرد تعقيدًا وتركيبًا ويصعب قياسها عبر الزمن، ويميز بعض العلماء في هذا الصدد بين البنية الأساسية للشخصية أو نمط السمات فيها، وبين أنماط السلوك الظاهر أو الأدلة التي تدل على هذه السمات، وتؤكد البحوث أن البنية الأساسية للشخصية مستقرة عبر الزمن، أما ما يطرأ عليه التغيير فهو السلوك الظاهر، أو الأداء الذي يتم من خلاله التعبير عن هذه البنية؛ فالشخص قد يظل يوصف بالعدوانية سواءً في رشده المبكر أو الأوسط، إلّا أن طريقة التعبير عن هذا العدوان قد تخلف من طور لآخر؛ فقد يكون العدوان إيجابيًّا في الطور الأول؛ حيث يغلب عليه طابع الهجوم والمواجهة والتحدي، وسلبيًّا الطور الآخر؛ كنيسان دعوة الشخص موضع العدوان على الغذاء أو خداع الرئيس، وهذا لا يعني أن السمة تغيرت تغيرًا جوهريًّا في الطورين، أو أن بنية الشخصية غير مستقرة، وبالمثل فإن التشابه بين أنماط السلوك الظاهر في الطورين لا يدل على تشابه السمة فيهما أيضًا. فالأشخاص الذين يقدمون المساعدة لزملائهم، قد يفعلون ذلك بسبب ما لديهم من دافع أساسي أصيل للمساعدة، أو بسبب دافعهم للحصول على تقدير الذات، والسعي إلى تضخيم صورتها من خلال جعل الآخرين يدركون أنفسهم ضعافًا أو غير قادرين، أو لديهم نقص في مجال معين، وهذا نوعٌ من السلوك العدواني السلبي تجاه الآخرين.
وكما هو الحال في دراسة النموّ العقلي المعرفي، فإننا في دراسة نموِّ الشخصية في حاجة إلى التمييز بين الفروق الشخصية التي ترجع إلى النمو الفعلي والمنهجية، فإن معظم البحوث التي أجريت حول نموِّ الشخصية تدعم فرض استمرار بنية الشخصية في مرحلة الرشد، ويصدق هذا خاصةً على البحوث التي استخدمت الطريقة الطولية، وأكثر الخصائص استقرارًا هي القيم "الجمالية، الدينية، الاقتصادية، الاجتماعية، السياسية" والميول المهنية، وحين استخدمت الطريقة المستعرضة كانت النتائج أكثر تعقيدًا بالطبع؛ حيث توصلت بعض الدراسات مثل التصلب والمحافظة ومفهوم الذات والرضا عن الحياة.
ومن الدراسات التي أكدت استقرار الشخصية تلك التي قامت بها "Haan، 1981" وهي دراسة طولية لعينة من المفحوصين بدأ بعضها من مرحلة الطفولة، إلّا أن معظمها بدأ من مرحلة المراهقة واستمرت الدراسة حتى بلوغ المفحوصين طور وسط العمر، وأجريت المقارنة في ست سمات هي:
1-
الاستثمار المعرفي: Cognitive investment وهي بُعْدٌ أحاديّ القطب، يشير إلى السهولة والمهارة في التعامل مع الأمور العقلية، والتفكير القائم على الروية والاهتمام بالإنجاز الشخصي.
2-
التفريط في مقابل الإفراط في التحكم الانفعالي: وهو بعد ثنائي القطب، يمثل أحد طرفيه الاتجاه الضاغط الاندفاعي في التعامل مع الأشخاص، في مقابل الاتجاه اللين المقيد للانفعالات.
3-
الذات المفتوحة في مقابل الذات المغلقة: وهو بعد ثنائي القطب أيضًا، يمثل درجة انفتاح أفكار المرء ومشاعره وخبراته على الآخرين والبيئة ويسره في التعبير عن ذاته، في مقابل عكس ذلك.
4-
التعاطف في مقابل العداء: وهو بعد ثنائي القطب كذلك، ويدل في أحد طرفيه على الدفء والاستجابية للأشخاص الآخرين، ووضعهم موضع الاعتبار والرعاية، في مقابل العداء والخصومة والتوتر في التعامل معهم.
5-
التفريط في مقابل الإفراط في الجنسية الغيرية: وهو بعد ثنائي القطب، يشير إلى الاختلاف في طرق المرء في التعبير عن سلوكه الجنسي.
6-
الثقة بالنفس: وهي بعد أحادي القطب يدل على التوازن ورباطة الجأش والتسلط والإنتاجية والرضا عن الذات وتقديرها، وخاصةً في مواقف العلاقات بين الأشخاص.
ولقد أكدت نتائج هان أن أبعاد الشخصية الست كانت على درجة كافية من الاستقرار النسبي من المراهقة وحتى الرشد الأوسط، وبالطبع فإن طول الفترة الزمنية بين المراحل أثرت في درجة الاستقرار؛ فقد لوحظ مثلًا قدر أكبر من الاستقرار من المراهقة إلى الرشد المبكر، ومن الرشد المبكر إلى الرشد الوسط، بينما أظهرت المقارنة بين المراهقة والرشد الأوسط درجة من عدم الاستقرار بسبب طول الفترة الزمنية، كما وجدت الباحثة أيضًا أن الأبعاد الأكثر ارتباطًا فيما بينها "وخاصة الاستثمار المعرفي والذات المفتوحة في مقابل المغلقة، والثقة بالنفس" كانت أكثر استقرارًا، وبالإضافة إلى ذلك، فإن شخصيات النساء كانت بصفة عامة أكثر استقرارًا من شخصيات الرجال، ويحدث أكبر تغير في شخصيات الرجال بين المراهقة والرشد عند تولي مسئوليات هامة مثل العمل وما يترتب عليه من استقلال مالي واقتصادي، وعلى هذا فإن ما يسمى أزمة وسط العمر -إن كانت توجد على الإطلاق- فإنها تتمضن إعادة تشكيل أو إعادة تنظيم خصائص شخصية قائمة بالفعل، وليس تحويلًا كاملًا للشخص إلى "كائن إنساني جديد".