الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صحيحة، فمقدار العدوان الذي يظهره الطفل يختلف تبعًا لطبيعة الموقف الذي يكون فيه، وبالتالي فإذا اختلفت المواقف يصعب علينا أن نعرف القوة النسبية لهذا الانفعال لدى طفلين مختلفين.
وأخيرًا فإن الملاحظة الطبيعية فيها كل خصائص التعقد والتركيب لمواقف الحياة الطبيعية التي تتحرر منها قدر الإمكان المواقف المعملية، إلّا أن هذا ليس عيبًا في الطريقة وإنما هو أحد حدودها، فالواقع أننا في حاجة إلى البحوث التي تعتمد على وصف دراسة السلوك الإنساني في سياقه الطبيعي والمعتاد، والتي قد تقودنا إلى بحوث أخرى تعتمد على طرق أخرى، تستند في جوهرها على منطق "العلية" توجهًا إلى التفسير والتنبؤ والتوجيه والتحكم في هذا السلوك.
المنهج التجريبي:
التجربة هي نوع من الملاحظة المقننة أو المضبوطة، إلّا أنها تتميز عن محض الملاحظة في أنها تتطلب معالجة يقوم بها الباحث أو المجرب.
فالجرب هو الذي يصطنع أحد العوامل أو المتغيرات ويتحكم فيه ويعالجه، ولهذا يسمى المتغير المستقل، ثم يلاحظ ما إذا كان عاملًا أو متغيرًا آخر "أو مجموعة أخرى من العوامل والمتغيرات" تختلف تبعًا لاختلاف المتغير المستقل، وكيف يحدث هذا الاختلاف، ويسمى هذا العامل الآخر المتغير التابع، أما باقي العوامل والمتغيرات فيجب أن تظل ثابتة، أي: لا يسمح لها بالتغير، وفي هذه الحالة توصف هذه المتغيرات الدخيلة بأنها تَمَّ التحكم فيها حتى لا تتداخل في تفسير النتائج، وقلَّ أن يقوم الباحث بتجربته عادةً ما يصوغ "فرضًا" يتطلب الاختبار، ولكي نوضح ذلك نضرب المثال التالي: نفرض أن باحثًا تجريبيًّا أراد أن يدرس آثار الدرجات المختلفة من الإحباط في سلوك العدوان لدى الأطفال، في هذه الحالة يكون الفرض هو أنه كلما زادت درجة الإحباط يؤدي ذلك إلى زيادة مقدار السلوك العدواني لدى الطفل، ويمكن للباحث أن يختبر هذا الفرض تجريبيًّا باستخدام ثلاث مجموعات من الأطفال، يتعرض كلٍّ منها لظرفٍ خاصٍّ أو معالجة خاصة؛ مجموعتان تجريبيتان ومجموعة ضابطة، بحيث تتساوى المجموعات الثلاث تقريبًا في الخصائص التي لا تهم الباحث في هذه التجربة، ولكنها قد تؤثر في التعبير عن العدوان؛ مثل: العمر الزمني، ومستوى التعليم، والجنس، والصحة، والذكاء، والمستوى الاقتصادي والاجتماعي، وبعبارة أخرى: فإن الباحث يثبت هذه العوامل، وعندئذ يمكنه أن يعالج على النحو الذي يشاء المتغير المستقل الذي يهتم به وهو مقدار الإحباط، وبعد ذلك يمكنه أن يعرض المجموعات الثلاث لدرجات
مختلفة من الإحباط، فمثلًا قد يعرض على المجموعة الأولى من الأطفال عددًا من المشكلات التي تستعصي على الحل، ويعطيهم تعليمات تتضمن وصف هذه المشكلات بالسهولة وقابليتها للحل، ويطلب منهم أن يعملوا على حلِّها خلال فترة زمنية محددة، وبها تتعرض هذه المجموعة لأكبر قدر من الإحباط، والمجموعة الثانية قد تعرض عليهم مشكلات صعبة، ولكنها تقبل الحل، ويطلب منهم حلها في نفس الفترة الزمنية، وبالطبع فإن هذه المجموعة تتعرض أيضًا للإحباط ولكن بمقدار أقل، أما المجموعة الثالثة الضابطة فيطلب منها أداء أعمال سهلة لا تؤدي إلى إحباط، ويضع الباحث المجموعات الثلاث في موقف اجتماعي أثناء حل المشكلات حتى يمكن ملاحظة وتسجيل سلوكهم العدواني.
في هذه الحالة يمكن للباحث أن يحدد ما إذا كانت زيادة درجة الإحباط تؤدي إلى زيادة مقدار العدوان، وهو ما يتوقعه فرض البحث، وتتحقق صحة هذا الفرض إذا وجد الباحث أن المجموعة التي تعرضت لأكبر قدر من الإحباط سلكت سلوكًا عدوانيًّا أكبر من غيرها، وأن المجموعة الضابطة سلكت سلوكًا عدوانيًّا أقل من غيرها.
والميزة الفريدة والهامة في التجربة هي أنه حين يتم التحكم في العوامل الدخيلة، فإن المتغير المستقل يؤثر تأثيرات واضحة؛ لأن التغيرات فيه تنعكس بآثارها في المتغير التابع، وهو ما يمكن البرهنة عليه مباشرة من نتائج البحث التجريبي.
وبدون الإجراءات التجريبية يكون من الصعب الحكم على مدى إسهام جميع العوامل التي تؤدي إلى نتيجة معينة أو تحدث أثرًا خاصًّا حكمًا دقيقًا؛ فمثلًا نجد أن شدة الاستجابات العدوانية لدى الأطفال تتأثر بعوامل كثيرة، مثل: الجنس والمستوى الاقتصادي والاجتماعي، وخبرات الإحباط السابقة، ووجود سلطة الكبار أو عدم وجودها، ثم الخوف من العقاب على السلوك العدواني، وبالطبع يمكن للدراسات التي تعتمد على الملاحظة المباشرة أن تعطي بيانات هامة عن أثر هذه المتغيرات، إلّا أن إجراء التجارب المضبوطة يعطينا بيانات أكثر دقة ووضوحًا، كما أن التفسير السببي لا يزودنا به بوضوح إلّا المنهج التجريبي.
وتوجد تصميمات تجريبية كثيرة لا يتسع المقام لتناولها في هذا الكتاب، إلّا أن ما يهمنا أن نشير إليه هو مسألة الضبط والتحكم التجريبي التي ترددت كثيرًا فيما سبق، وأشهر الطرق لتحقيق ذلك ما يسمى التوزيع العشوائي للمفحوصين على المعالجات التجريبية المختلفة، وهي طريقة تهيئ لكل مفحوص فرصة متساوية لأن يتعرض لأيّ معالجة أو شرط في الموقف لتجريبي دون أيّ قصد متعمد من الباحث، وبهذا يمكن للعوامل المختلفة التي قد تؤثر في المتغيرات التابع أن تتوزع
عشوائيًّا داخل كل شرط "أو معالجة" من الشروط أو المعالجيات التجريبية، وبين هذه الشروط والمعالجات.
وعلى الرغم من أن المنهج التجريبي هو أقوى المناهج في اختبار العلاقات السببية، والتي تقود إلى تفسيرات مقنعة، فإن فيه بعض المشكلات التي نلخصها فيما يلي:
1-
مجرد وجود المفحوص ضمن إجراء تجريببي قد يؤثر في سلوكه ويجعله يفتقد التلقائية والطبيعية التي تميز طرق الملاحظة المباشرة، وإذا حدث ذلك فإن نتائج التجربة لن تصدق على أحداث الحياة الواقعية.
2-
البيئة "المعملية" المضبوطة المقننة التي عادة ما تجرى فيها البحوث التجريبية هي أيضًا بيئة اصطناعية للغاية، ومن المتوقع للمفوحصين أن يسلكوا على نحوٍ مختلف في مواقف الحياة الفعلية، ولهذا يجب ألَّا تنتقل نتائج بحوث المعمل إلى الميدان انتقالًا مباشرًا، وإنما على الباحث أن يمر بخطوات عديدة في سبيل ذلك، وقد عرفنا هذه الخطوات في موضعٍ سابقٍ "فؤاد أبو حطب، آمال صادق، 1995".
وإحدى طرق التغلب على هذه المشكلة تصميم تجارب تبدو طبيعية للمفحوصين، ويمكن جعل الموقف التجريبي أكثر طبيعية للأطفال، مثلًا بأن تجرى التجربة في موقفٍ معتادٍ؛ كالبيت أو المدرسة، كما أن الأطفال قد يسلكون على نحوٍ أكثر طبيعية إذا قام والدوهم أو معلموهم بدور المجريين بدلًا من وجود شخص غريب لا يعرفونه، بشرط تدريب هؤلاء على شروط التجربة وإجراءاتها، كما يمكن عرض الموقف التجريبي على نحوٍ يتفق مع ميول الأطفال؛ كأن تعرض أسئلة اختبار الذكاء أو الابتكار عليهم على أنها نوع من الألعاب أو الألغاز بدلًا من القول بأنها أسئلة في اختبار، كما يمكن للباحث إجراء تجربة ميدانية في البيئة الطبيعية بالفعل على نحوٍ يجعل المفحوصين لا يشعرون بأنهم موضع "تجربة"، وهذا الأسلوب يجمع بين مزايا الملاحظة الطبيعية والضبط الأكثر إحكامًا في الموقف التجريبي.
3-
التوزيع العشوائي للمفحوصين على مجموعات المعالجة يحدث في بعضهم استجابات سلبية إزاء الموقف التجريبي، وخاصة إذا كان على المفحوص أن يعمل مع مجموعة لا يحب الانتساب إليها، ومعنى ذلك أن الباحث التجريبي عليه أن يتعامل مع مفحوصيه على أنها بشر، وإذا نشأت مثل هذه المشكلات عليه أن يواجهها ويحلها في الحال لا أن يتجاهلها؛ لأن مثل هذه الاتجاهات السلبية