الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أولًا: الاضطرابات الوظيفية
كان من المفترض لزمن طويل أن الاضطرابات العقلية في الشيخوخة المتأخرة ترتبط بخلل المخ، وعلى هذا فكان من المتعتقد أن الأعراض السيكلوجية التي تظهر في هذا الطور تعود في جوهرها إلى تصلُّب الشرايين Arterioscloerosis، أو ذهان الشيخوخة Senile Psychosis، وقد شاع المصطلح لفترة طويلة من الزمن، وكان تعريفه الشائع أنه انفصال عن الواقع تحدثه عوامل غير معلومة ترتبط في جوهرها بالتقدم في السن، وقد أظهر التقدم في علم النفس المرضي في السنوات الأخيرة أن ما يسبب هذه الأعراض هو الاكتئاب وليس محض التدهور العضوي، ولهذا شهدت السنوات الأخيرة تطورًا هامًّا في طرق التقويم النفسي التي تفيد في التمييز بين خرف الشيخوخة Senile Dementia العضوي، وبين الاضطرابات الوجدانية والوظيفية التي تحدث في هذا الطور النهائي من حياة الإنسان "Birren & Slonae، 1980". كما تأكد أن الاضطراب العضوي عند حدوثه في أرذل العمر قد يرجع إلى أسباب طارئة قابلة للعلاج؛ مثل: التسمم بالعقاقير، وسوء التغذية، والمرض الجسمي، بل إنه حتى حين يتحوّل خرف الشيخوخة إلى حالةٍ مستقرّة أو متدهورة "أي: لا تتوجه إلى التحسن"، فإنه قد يرجع أيضًا إلى مكونات عضوية أو وجدانية طارئة كذلك.
ونتناول الآن الاضطرابات الوظيفية التي تظهر في طور أرذل العمر، أمّا الاضطرابات العضوية فسوف نتناولها بعد ذلك.
1-
اضطرابات القلق:
من التطورات الجوهرية التي شهدها تصنيف الاضطرابات السلوكية في السنوات الأخيرة، وخاصةً في DSM في طبعاته الأخيرة، استعباد الفئة المرضية التي شاعت منذ مطلع هذا القرن وحتى عام 1980، وهي فئة العصاب neurosis، وحلّت محلها ثلاث فئات تصنيفية هي: اضطرابات القلق، والاضطرابات السيكوسوماتية، واضطرابات المفارقة "التفكك"1 وهي جميعًا من فئة الاضطرابات الوظيفية.
ولعلنا في هذا الصدد نشير إلى أن العصاب الكلاسيكي واضطرابات الشخصية بصفة عامة نادرًا ما تظهر لأول مرة في طور أرذل العمر، فهذا الطور يستحضر معه القلق والاكتئاب والاضطراب السيكوسوماتي. كما أكدت البحوث أنه لا توجد فروق دالة بين مختلف المراحل العمرية في طرق التعامل مع هذه الصعوبات، فإذا كان المسن المتقدم في العمر يشعر بالقلق نتيجة الفقدان والتدهور، فإن الشخص الأصغر سنًّا قد يشعر بالقلق أيضًا نتيجة مواجهة تحديات الحياة، وعلى الرغم من هذه الأسباب المختلفة، فإن أعراض القلق في الحالتين متشابهة "Birren & Sloane، 1980".
وتوجد لدى المسنين في الطور المتأخر من حياتهم مصادر كثيرة مختلفة لاستجابات القلق، ومن ذلك الفقدان أو الكارثة الشخصية، كما أن القلق المزمن، الذي ينتقل عادةً من مراحل عمرية سابقة، يستمر ويستقر ويصبح نمطًا للسلوك في طور أرذل العمر، كما يظهر الخواف "الفوبيا" وفيه تتم إزاحة القلق على أشياء ومواقف تفيد كرموز خارجية للمشاعر الداخلية، ويظهر أيضًا سلوك الوسواس القهري وخاصةً حين يكون المسن في عزلة وفقدٍ للكفاءة الحسية معًا "رهين المحبسين على حد تعبير أبي العلاء".
ومن استجابات القلق الشائعة لدى المسنين في هذا الطور قلق العجز المتعلم learned helplessness كما يسميه سليجمان، وفيه يشعر الشخص أنه غير قادر على التحكم في الظروف المحيطة به، بصرف النظر عن الأفعال التي تصدر عنه.
1 مفهوم العصاب من ابتكار نظرية التحليل النفسي، وظل حتى عام 1980 يجمع طائفة من الاضطرابات المختلفة تربطها خصائص "نظرية" مشتركة، وأهمها أنها علاماتٌ على القلق اللاشعوري، وقد حاول التصنيف الجديد DSM أن يكون نسقًا وصفيًّا، وقد أبقى على الأعصبة الخاصة مع إعطائها أسماء جديدة.
ويزداد هذا القلق حِدَّةً مع فقدان شريك العمر، أو التدهور في الصحة الجسيمة، إنه يخشى أن يصير عبئًا على الآخرين، وأن يفقد استقلاله، كما يخشى الإهمال الذي قد يتعرّض له إذا أصيب بمرض عضال، ولهذا نجد أن قلق العجز المتعلم، والقلق الاكتئابي أكثر شيوعًا لدى المسنين في طور أرذل العمر.
2-
الاضطرابات السيكوسوماتية:
كثيرًا ما يظهر المسنون في طور أرذل العمر أعراضًا جسمية لاضطراباتهم النفسية، ويظهر ذلك خاصة في نوعين من الاضطرابات؛ هما: زملة بريكيه وتوهم المرض.
وتتسم زملة بريكيه Briquet's Syndrome بتواتر الشكاوى المتعددة من الاضطراب الجسمي، والتي لا يسببها مرض جسمي محدد؛ فقد يحدث أن يعاني المسن في وقت واحد من الصداع والتعب والإغماء والغثيان والقيء ومشكلات الجهاز الهضمي والجهاز التناسلي وأمراض الحساسية، والأشخاص الذين يعانون من زملة بريكيه يظهرون هذه الاضطرابات الجسمية كأعراض تحولية، أي: أن هذه الأعراض الجسمية لها وظيفتها الرمزية في الدلالة على القلق ومشاعر الذنب والاكتئاب والميول الانتحارية "وهو المرض الذي كان يسمى في الماضي الهيستيريا التحولية"، صحيح أن هذا المرض قد يظهر مبكرًا منذ مطلع الرشد، ولكنه مع أرذل العمر يزداد رسوخًا واستقرارًا وحدة، وهو أكثر شيوعًا بين النساء منه بين الرجال.
أما توهم المرض hypochondria وهو "عصاب" سيكوسوماتي آخر، فيه ينشغل المسن انشغالًا زائدًا بجسمه، أو بأجزأء منه، والتي يشعر أنها مريضة أو ضعيفة الكفاءة، ويتسم مثل هذا الشخص بالنرجسية، بمعنى أنه يتحول من تركيز اهتمامه السيكولوجي بالأشياء والأشخاص في بيئته، إلى تركيزه على ذاته، وخاصة ذاته الجسمية، وبهذا ينتقل القلق من مصدر من الضغط والإجهاد السيكولوجي المحدد إلى شكوى جسمية تدرك لا شعوريًّا، وتعتبر أقل تهديدًا، ويستخدم المرضى من هذه الفئة الأعراض الجسمية كوسيلة لعقاب الذات، وكنوع من الكفارة عن عدوانهم ومشاعرهم السلبية الأخرى نحو الآخرين وثيقي الصلة بهم، كما أن هذه الأعراض تستخدم أيضًا في عقاب الآخرين الذين يشعر المسن أنهم عَرَّضُوه للأذى، ومع ذلك فهو "أي: المسن" لا يستطيع مقابلة الأذى بمثله.
ولا شَكَّ أن الاضطرابات السيكوسوماتية تحقق للمسن في أرذل العمر دوره
الوحيدة وهو دور المريض، فالمرض ذريعة قوية لإعفاء المسن من مسئولياته الاجتماعية المعتادة، كما أنه يعطيه الحق في الحصول على العناية والرعاية والاهتمام، إلّا أن الاختلاف الجوهري بين دور المريض في طور أرذل العمر وهذا الدور في المراحل العمرية السابقة، أن المريض المسن على عكس من هم أصغر سنًّا، لا يرغب من الشفاء مادامت هناك "مكاسب" سيكلوجية للمرض.
3-
اضطرابات الإدمان:
يوجد اضطراب سيكولوجي شائع في طور أرذل العمر يتصل بإدمان المخدرات والمسكرات، وأشهر صور الإدمان لدى المسنين في الغرب هو تعاطي الكحول، فهو شائع حتى بين المودعين في مؤسسات الرعاية، ومن الغريب أن كثيرًا من هذه المؤسسات في أوربا والولايات المتحدة تُقَدِّمُ الكحول للمسنين كفاتح للشهية، أو كمهدئ، أو للإبقاء على سلوك التطبيع الاجتماعي "حيث يقدم الكحول في هذه المجتمعات للضيوف في المواقف الاجتماعية"، ويترتب على ذلك زيادة إدمان الكحول لدى المسنين، وتوجد فئات عديدة من هؤلاء؛ فمنهم من يوصف بالمدمن المتأخر وهو الشخص الذي تعوَّد على الإسراف؛ في تعاطي الكحول في وقتٍ متأخر من حياته "في سن الخمسين مثلًا"، وهم أولئك الذين فقدوا أدوراهم الاجتماعية مع بلوغ هذا الطور، ومنهم من يدمن العقاقير التي تُقَدَّمُ لهم كوصفات طبية "لما تتضمنه من بعض المواد المخدرة" كالمهدئات، أو التي تُعَدُّ من قبيل المخدرات المحظورة، وبصفة عامة نقول: إن المسنين المتأخرين الذين يدمنون المسكرات والمخدرات قد يكونون إما بدأوا التعاطي والإدمان مبكرين ثم استمروا، أو بدأوا ذلك بعد الدخول في هذا الطور النهائي من حياة الإنسان، وهذه الحقائق المؤسفة تكشف لنا عن حكمة الإسلام العظيم في تحريم الخمر والمخدرات، والمسلم الذي يتجنب هذه الخبائث لن يعيش شبابًا ورشدًا صحيحين فحسب، وإنما شيخوخة سعيدة أيضًا، وإذا كان للمسكرات والمخدرات أثرها المدمر على صحة الشباب وعلاقاتهم الإنسانية وظروفهم الاقتصادية، فإن هذا الخطر يكون أشد وأفدح بالنسبة للمسنين المتأخرين، وخاصةً مع التدهور الجسمي الذي يصاحب هذا الطور، ناهيك عن أنها قد تؤدي إلى التعجيل بظهور الاكتئاب لديهم.
4-
اضطرابات البارانويا:
البارانويا Paranoia اضطراب سلوكي شائع في طور أرذل العمر، ومحور هذا الاضطراب هلاوس ووساوس حول الذات، وهو مركب من الشعور بالاضطهاد والعظمة والارتياب والشك والحقد والغيرة والحسد.
وبالرغم من شيوع مثل هذه المشاعر، فليس من المعتاد أن تنشأ فجأةً لدى المسنين
المتأخرين، فأولئك الذين يظهرون هذه الاضطرابات البارانوية في هذا لطور عادةً يتسمون ببعض هذه الأعراض لبضع سنوات سابقة، وهذه الاضطرابات لا تؤدي بصاحبها إلى خللٍ في رعاية الذات، فهو قد يستطيع أن يؤدي هذه المهام جيدًا، وقد لا يكون موضوع أي رعاية طبية بسبب توهماته، وتتسم استجابة المسنين البارانوويين بأنها تتضمن بعض التوهمات الشائعة "وأشهرها توهم اضطهاد أجهزة المخابرات أو الشرطة" التي قد ترتبط بالخداعات أو الهلاوس حول موضوع التوهم، وعادةً لا تتعرض شخصية هؤلاء للتدهور إلّا في حالة الأزمة، وتظهر الاستجابة البارانووية خاصةً مع الأنماط الأربعة الآتية للشخصية "Birren & Sloane، 1980"
أ- المشاكسة - العدوان - العداء.
ب- التمركز حول الذات - العناد - الاستبداد والتشبث بالرأي.
ج- الشك والريبة - الغيرة - الشعور بالاضطهاد.
د- الخجل - الحساسية - الانسحاب.
كما يتسم هؤلاء بالعزلة الشديدة في علاقاتهم بالآخرين، والواقع أن العزلة عاملٌ هامٌّ في تحديد العلاقة بين الصمم والبارانويا حتى في المراحل المبكرة من الحياة، فالمسنون ذوو العجز السمعي والذين لديهم أحد الأنماط البارانوية السابقة، يعتمدون كثيرًا على الإسقاط والهلوسة لملء فجوات إدراكهم للعالم الحقيقي على نحوٍ يؤدي بهم إلى ظهور الاضطهاد، وإسقاط فشلهم في التعامل الخارجي على الآخرين المحيطين بهم انفعاليًّا ومكانيًّا، وهذا الموضوع يتصل مباشرة بالصلة الوثيقة بين الحرمان الحسي وظهور هذه الأعراض المرضية.
ويصف علما النفس الكلينيكيون البارانويا على أنها عرض أكثر منها اضطراب عند المسنين، وقد يظهر على الرغم من عدم وجود تدهور معرفي شديد "Kermis، 1984"، أما المرض الذي قد يظهر فعلًا في المراحل المتأخرة من البارانويا، ويتسم بسيطرة الهلاوس والتوهمات، كما قد يظهر أيضًا الفصام البارانووي، والذي يتمثل في ظهور أفكار متوهمة في مجال ضيق محدود، ومن ذلك الهلاوس السمعية التي تظهر في صورة توهم وجود صوت شخص آخر يعقب على أفعال المريض وأفكاره، وقد يتطور إلى الاستماع إلى صوتين يتصارعان حول أداء هذه الوظيفة، وحين يتطور هذا المرض بشدة فإنه يؤدي إلى التفكك الكامل لحدود الأنا، ويتطلب الإيداع في المؤسسات.
5-
الاضطرابات الوجدانية:
تشمل هذه الفئة من الاضطرابات الوظيفية "حسب تصنيف DSM IV" مجموعة من الخصائص الشخصية الأكثر شيوعًا في طور أرذل العمر وهي: الاكتئاب الخطير، الاضطراب الثنائي القطب "والذي كان يُسَمَّى في الماضي الجنون الدوري"، والاضطراب الدائري Cyclothymic، والذي يمتد بصاحبه بين الهياج والانقباض، وهذه جميعًا اضطرابات وظيفية لأنها لا تنشأ عن الخللل العضوي في الجسم، وإنما هي نتاج العلاقات بين الأشخاص وداخل الشخص والعوامل الاقتصادية والاجتماعية التي تؤثر تأثيرًا مدمرًا على الشخص من خلال قيمه السيكولوجية والرمزية.
ولعل الاكتئاب الخطير من بين هذه الاضطرابات الوظيفية هو الأكثر حدوثا بين المسنين في طور أرذل العمر، وتذكر "Kermis، 1984" أن حوالي 3% من مجموع سكان العالم يتعرضون سنويًّا للإصابة به، إلّا أن هذه النسبة أعلى من ذلك لدى المسنين المعمِّرين، وعلى الرغم من أن جميع المسنين لا يتساوون في درجة العجز الناجم عن الاكتئاب، إلّا أنهم جميعًا يظهرون تدهورًا واضحًا يتمثل في بطء التفكير ونقص النشاط الهادف والقلق الشديد، فإذا صوحب ذلك بأعراض معينة تختلف عن النشاط العادي للمرء، وتستمر معه يومًا بعد يوم، فإن ذلك يعطي الصورة الكلينيكية للاكتئباب الخطير، ومن هذه الأعراض الشعور بالحزن الأليم، والميول الانسحابية العامة وكف النشاط، وسيطرة التشاؤم، وهبوط تقدير الذات، وعدم الثقة في التنبؤ بمصير الذات. كما توجد علامات ثانوية ذات طبيعة جسمية "فالاكتئاب ليس مرضًا نفسيًّا خالصًا"، وتشمل: الأرق، نقص الوزن، فقدان الشهية، التعب، الإمساك، تدهور النشاط الحركي، دورات السلوك التكراري اليومي، وتؤكد البحوث على المسنين "Cole & Barrett، 1980" أن الأشخاص المكتئبين في طور أرذل العمر أكثر احتمالًا لإظهار علامات المرض كالإمساك والتعب أكثر من أعراضه كالحزن والتشاؤم.
وتصدر عن المسنين المكتئبين أنماط معينة من السلوك، ومن ذلك الشعور العميق بالذنب على آثام متوهمة من نوع الصغائر أو الكبائر، وتشغلهم كثيرًا حينئذ محاولات التوبة أو الخوف من العقاب الدنيوي أو الأخروي، ويشعر المسن المكتئب بالقلق الشديد والتوتر العنيف، قد يصل إلى حد السعي لتدمير الذات الذي قد يؤدي إلى الانتحار، ولهذا فإن الاكتئاب يعد اضطرابًا مهددًا لحياة المسنين، وقد توجد بعض الأعراض الجسمية المصاحبة للاكتئاب في هذا الطور، ويفسر "Zung، 1980" ذلك بقوله: إنه إذا كانت الأعراض السيكولوجية للاكتئاب هي