الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والأسباط من سوء المعاملة "فؤاد البهي السيد 1975".
والترمل هو أعظم فقدان انفعالي واجتماعي للمسن، يظل يعاني منه سنوات عمره الباقية، وذلك لسببين: أولهما أن الترمل خبرة وأسلوب حياة يعانيها المرء ما بقي من عمره، وثانيهما أنه حالة ومكانة اجتماعية يعيش بها؛ فوفاة أحد الزوجين كارثة لشريك حياته، ويحتاج الأمر من الزوج وقتًا طويلًا حتى يتوافق قدر الإمكان لمكانة وأسلوب حياة جديدين، ويؤكد تراث البحوث التي أُجْرِيَتْ على التوافق النفسي للأرامل المسنين، أن فقدان الزوج يؤدي إلى هبوط الروح المعنوية مع ظهور أعراض أمراض جسمية كنقص الشهية والأرق، فإذا كان الأرمل يعاني من مشكلاتٍ صحية طويلة مثل التوتر الزائد، فإن ذلك قد يؤدي إلى تطورات أخطر مثل: أمراض القلب وانسداد الشرايين، بالإضافة إلى بعض الاستجابات النفسية غير السوية مثل: الشكوى الدائمة والشعور بالذنب والاكتئاب والرغبة في الموت، ولعل هذا يفسِّرُ لنا وفاة المسن في كثيرٍ من الأحيان عقب وفاة رفيق حياته بزمنٍ قصير "Berada، 1968"، وهذا كله أكثر حدوثًا للنساء، وقد يعين المسن على تجاور المحنة أن يكون له صديق حميم "Stroabe & Strosbe 1983". وعلى أية حالٍ فإن الفروق الجوهرية بين الجنسين في خبرة الترمل تؤكد أن الرجل أكثر تعرضًا لأزمة ضغط الدور بعد فقدان دور الزوج، أما المرأة فإن أزمتها الكبرى هي فقدان الدعم العاطفي والاجتماعي.
التوافق والشخصية في طور الشيخوخة:
تستحضر الشيخوخة معها تحديات ومهامًّا جديدة تجب مواجهتها والتوافق معها، والمسنون قد ينجحون أو يفشلون في مواجهة وتناول هذه المهامِّ النمائية، شأنهم في ذلك شأن غيرهم ممن هم أصغر سنًّا عند التعامل مع مهام الحياة الخاصة بمراحل نموهم، وبالإضافة إلى ذلك فإن أساليب التوافق أكثر اختلافًا في سنوات الشيخوخة عنها في المراحل المبكرة من الحياة، إلّا أن هذا لا يجعلنا ننكر خطورة المشكلات التي يواجهها المسنون، وأهمها تدهور الصحة، وفقدان العمل، والترمُّل، والمشكلات المالية، وفقدان المكانة الاجتماعية، والعزلة الاجتماعية، وغيرها مما يُعَدُ من المشكلات المؤرِّقة للمسنين في الوقت الحاضر، ومع ذلك فعليهم التصدي عليها، وفي الواقع فإن نجاح معظم المسنين في مواجهة تحديات الشيخوخة لا يرتبط فقط بهذه الفترة من الحياة لدى معظم الناس؛ فالشيخوخة هي فترة من النموّ النفسي المستمر، حتى في مواجهة التدهور الذي تناولناه بالتفصيل فيما سبق.
مهام النمو في الشيخوخة:
نبدأ بتحديد مهام النمو في هذه المرحلة، يرى إريكسون أن المرء في مرحلة الشيخوخة يمر بآخر أزمات نموِّه، وهي التي يسميها أزمة تكامل الأنا "الذات"، في مقابل اليأس والقنوط "Erikson، 1963"، والتكامل هنا هو تكامل انفعالي، وتجاوز لحدود الذات من خلال تقبل الفرد لحياته، ويظهر اليأس في صورة الشعور بأن الوقت صار قصيرًا جدًّا وأنه لا توجد فرصة للبحث عن طريق ٍبديل لحياة مقبولة، وكما هو الحال في المراحل السابقة يوجد في هذه المرحلة صراع داخلي، فحتّى الشخص الذي يقبل على شيخوخته بدرجة كبيرة من التكامل يشعر باليأس عند التفكير اللحظي في الموت، وكما هو الحال في المراحل النفسية الاجتماعية السابقة في نظرية إريكسون، فإن الطابع الغالب على المرحلة هو الأهم؛ فالمسن الذي يحقق لنفسه قدرًا ملائمًا من التكامل يفوق اليأس في سنوات شيخوخته تتغلب إرادة الحياة عنده على قلق الموت.
ويرتبط بمهمة تنمية تكامل الأنا عملية تُسَمَّى مراجعة الحياة life review، فمع وصول المسن إلى هذه المرحلة المتأخرة من حياته يعيد تنظيم ذكرياته، ويعيد تفسير أفعاله وقراراته التي شكلت مسار حياته في الماضي، ومن الوجهة المثالية فإن مراجعة الحياة خبرة موجبة تؤدي إلى إحداث التكامل في الشخصية؛ فبالنسبة للبعض تقود هذه العملية إلى اندماجٍ أقلٍّ للذات مع الموقف الخاص بالفرد، وإلى اهتمام أكبر بالعالم بوجه عام، وبالنسبة لآخرين يؤدي ذلك إلى الشعور بالحنين للماضي nostalgia أو الشعور بالأسف على العمر الجميل الذي فات، وعند فريق ثالث قد تولِّد هذه العملية مشاعر القلق والشعور بالذنب والاكتئاب واليأس، فبدلًا من أن يفكر الشخص في حياته كلها، يشعر بأنه خُدِعَ وأن حياته تسربت منه دون أن يستثمرها كما يجب، وغالبًا ما يستطيب المسنون مشاركة الآخرين لهم في أفكارهم عند قيامهم بعملية مراجعة حياتهم، وخاصةً الأقارب والأصدقاء، وعلى وجه أخصّ الأحفاد، فمع جلوس الجد البالغ من العمر سبعين عامًا مع حفيده المراهق في النادي يذكُر له شعوره بخيبة الأمل حين عمل بالوظيفة الحكومية مثلًا، وفي نفس الوقت يذكر شعوره بالاعتزاز لنجاح أولاده وأحفاده.
ويرى Peck "في Neugatren، 1968" أن النموَّ النفسي المستمر في سنوات الشيخوخة يتمركز على نواتج ثلاث مهامٍّ رئيسية كبرى هي:
1-
التقاعد المهني: وعلى هذا، فيجب على المسن أن يكون قادرًا على إيجاد رضًا شخصيّ وقيمة للذات في المراحل السابقة.
2-
التدهور الجسمي: فالأشخاص الذين يجدون السعادة والرفاهية أساسًا في نشاط الجسم يتعرضون لاضطرابٍ خطيرٍ بسبب التغيرات الجسمية خلال الشيخوخة، ولذا نجدهم يهتمون بهذه التغيرات إلى حَدٍّ يجعلهم يشعرون باليأس والقنوط من أنفسهم ومن حياتهم، ومن الواجب أن يغيروا اتجاهاتهم بحيث تنأى عن التركيز على النواحي الجسمية، وتنحو بهم أكثر نحو الأنشطة الإنسانية والعقلية والاجتماعية.
3-
تقبُّل حقيقة الموت: كل شخص مسن عليه أن يواجه حقيقة الموت، وعلى المسلم أن يتقبل ليس فقط حتمية القضاء والقدر فيه، وإنما عليه أن يتأمَّل أيضًا معناه على أنه ليس فناءً نهائيًّا، أو إسدال الستار على الفصل الأخير كما هو الحال في بعض الفلسفات الغربية المعاصرة، وإنما هو بداية لحياة أخرى أبقى وأخلد، وقد ييسر على المسن التكيف لهذه المهمة أن يشعر بأنه حلّ أزمة الإنتاجية والتدفق في رشده من خلال خَلَفٍ صالِحٍ يرثه قيمًا وأفكارًا، وليس فقط ميراثًا ماديًّا سواء كانوا من صلبه "أولاده" أو من الأجيال الجديدة التي تدربت على يديه أثناء العمل.
ومن المهم أن نذكر أن نجاح المسن في مواجهة هذه التحديات يعتمد إلى حَدٍّ كبير، على النجاح الذي أحرزه في مهامه النمائية السابقة، فحل أزمات الشيخوخة هو تراكم لحلول الأزمات النفسية الاجتماعية العديدة التي مرَّ بها الإنسان في أطواره السابقة، وذلك كله من منظور النمو مدى الحياة.
وقد أشرنا من قبلُ إلى الصورة "المنفرة" أو "السلبية" التي تقترن بالشيخوخة في المجتمع الحديث، والحق أن مرحلة العمر الثالث للإنسان تستحضر بالفعل بعض الجوانب غير الجذابة في الثقافات المعاصرة، وبعض الدراسات التي أُجْرِيَتْ في الغرب حول الاتجاهات نحو المسنين أظهرت لنا أن الأشخاص الأصغر سنًّا يدركون المسنين على أنهم منعزلين ومتصلبين، ومتدهورين في قواهم الجسمية والعقلية، واتجاهات طلاب المدارس الثانوية والجامعات نحو المسنين ودورهم الاجتماعي في معظمها سالبة، وكلما ازداد الشخص تقدمًا في السن كانت صورته أقل جاذبية للأصغر سنًّا "Tuckman & Lorg، 1953" إلّا أنه لحسن الحظ ليست الصورة بهذا السوء في ثقافتنا العربية والإسلامية؛ ففي دراسة قام بها طلعت منصور "1987" على المجتمع الكويتي، توصل إلى نتيجة عامة خلاصتها: وجود اتجاه إيجابي عام نحو المسنين أظهره الشباب والراشدون المبكرون والراشدون في
طور منتصف العمر، وبالطبع كان اتجاه المسنين أنفسهم نحو التقدم في السن إيجابيًّا أيضًا، ومعنى ذلك أن الثقافة العربية الإسلامية تهيئ للمسنين فرصةً لحل أزمة تكامل الأنا، في مقابل اليأس والقنوط في الاتجاه الإيجابي "أي: تكامل الأنا"، وأن دور المسنين لا يتناقص في هذه الثقافة، بل ربما يزداد أهميةً وقيمةً وقدرًا، وهي نتيجة تتفق مع تحليلنا اللغوي في الفصل السابق لمعنى الشيخوخة والشيخ.
أما بالنسبة للمسن نفسه، فإن من أصعب الأمور عليه أن يصف نفسه بأنه "مسن" أو "عجوز"، فقد أوضحت بعض الدراسات أن حوالي نصف المفحوصين في إحدى الدراسات التي أُجْرِيَتْ على عينة أعمارها 65 فأعلى، صنَّفوا أنفسهم في طور وسط العمر "Brodzinsky، et al.، 1988"، إلّا أنه لسوء الحظ قد يتفق بعض المسنين مع بعض الأنماط الثقافية الشائعة عن الشيخوخة، فهم أنفسهم حملوا هذه الصور النمطية معظم حياتهم، وأطلقوها على غيرهم من المسنين حين كانوا هم أصغر سنًّا، ومهما حاول المسنون إخفاء الحقيقة، وعلى الرغم من الصور النمطية لا بُدَّ للمسن أن يأتي عليه حِينٌ من الدهر يواجه فيه مطالب الواقع، ويعترف بأنه "مسن"، وأن يكيف مفهومه لذاته تبعًا لذلك، وتدخل في هذا التحديد عدة عوامل أهمها:
1-
الوعي بالمعايير الاجتماعية: فما يجعل المرء أكثر وعيًا بتقدمه في السن بلوغ المعاش، أو حصوله على الضمان الاجتماعي، أو بلوغه المكانة التي يُطْلَقُ عليها في الغرب "المواطن الكبير" Sinior citizen أو في ثقافتنا العربية الإسلامية "الشيخ".
2-
التفاعل الاجتماعي: فحين يتخلّى شاب عن مقعده لآخر في الأتوبيس، فإن ذلك مثالٌ نموذجيٌّ للتفاعل الذي يحدد عمر الإنسان، ومن ذلك أيضًا التعبير عن التبجيل، وقد يكون التعبير عن المعاونة أوضح الأمثلة، ومن ذلك أن يقدم شخص ذراعه لآخر يستند إليها وهو يهبط السُّلَّمَ، أو تخصيص مقعد أمامي له في حفلٍ حتى يستطيع أن يستمع، ومن علامات التبجيل الوقوف عند دخول المسن إلى مكان عام، وقد تكون هناك بعض صور التعبير عن الازدراء؛ كأن يقول شاب لشخص أكبر منه سنًّا "عيب يا جدو"، فإن ذلك كله من صور التفاعل الاجتماعي الدال على التقدم في السن.