الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سادسًا: المقدمات العلمية لدراسة النمو الإنساني
يمكن القول أن كتابات ثلاثة من العلماء على وجه الخصوص، تعد المقدمة العلمية لدراسة النمو الإنساني، وهم كيتيليه وداروين وجالتون، وفيما يلي نعرض إسهاماتهم في هذا الصدد.
1-
كيتيليه والبحث الإحصائي للنمو:
يعد عالم الفلك والرياضيات البلجيكي أدولف كيتيليه Quetelet 1874-1796 أول من أحيا دراسة النمو الإنساني على أسس علمية، وتناولها على نطاق مدى الحياة؛ فقد أجرى ما يمكن أن يعد أول بحث مستعرض في التاريخ، تناول فيه النمو من الطفولة إلى الشيخوخة مستخدمًا الإجراءات المنهجية والإحصائية التي كانت وليدة حينئذ، وشملت دراسته موضوعات مثل: الانتحار والجريمة والجناح والمرض العقلي والابتكار، إلى جانب بعض الخصائص الجسمية مثل: ضربات القلب والقوة العضلية والطول والوزن، ولعل إسهاماته أنه نبه إلى بعض مشكلات هذا النوع من البحوث، وأشار إلى الحاجة إلى البحوث الطولية التتبعية "وسوف نناقش في هذا الفصل الرابع طبيعة كلّ من نوعي البحوث المستعرضة والطولية"، واقترح ضرورة مراعاة الاختلافات في الجنس والثقافة والبيئة الجغرافية، وهذه جميعًا تشغل اهتمامات الباحثين في علم نفس النمو منذ نشأته، وحتى الوقت الحاضر.
2-
تشارلز داروين: النمو الإنساني في الإطار البيولوجي، ومنهج كتابة سير الأطفال:
جاءت المقدمة الثانية لدراسة النمو الإنساني دراسة علمية من مجال علم الأحياء، وكان هذا العلم قد شهد تطورًا هامًّا عندما أصدر دارون darwin 1882-1809 كتابه الشهير أصل الأنواع 1859، والذي صاغ فيه نظريته في التطور التي أثرت تاثيرًا كبيرًا في الفكر الغربي الحديث.
ولا يتسع المقام لعرض معالم النظرية، وحسبنا أن نشير إلى أنها أثرت في
مفهوم النمو الإنساني، وخاصة حين اعتبر الإنسان فيها جزءًا من الطبيعة الحيوانية، وأنه الصورة الأرقى من صور الحياة، ابتداء من الكائنات أحادية الخلية، وعلى الرغم من أن داروين اعتبر الإنسان أكثر الكائنات الحية تعقيدًا في سلم التطور، إلّا أن أفكاره الأساسية تعارضت جوهريًّا مع التعاليم الدينية، ومع المفاهيم الراسخة في الفكر الإنساني -منذ عهد أرسطو- التي تميز تمييزًا كيفيًّا بين الإنسان والحيوان1.
وقد أدت هذه الأفكار بداروين إلى إجراء المقارنات بين الإنسان والأنواع الحيوانية، وكان يعتقد أن الأطفال الصغار يشتركون مع الحيوانات الأدنى في خصائص كثيرة، بالإضافة إلى أنهم "أي الأطفال" يلخصون التاريخ التطوري.
بالإضافة إلى أن فكرتيه عن الانتقاء الطبيعي، والبقاء للأصلح، أثرتا تأثيرًا كبيرًا في فهمه لطبيعة عملية النمو الإنساني منه والحيواني، حيث لا يستمر في البقاء عن طريق التناسل إلّا تلك الأنواع "والأفراد داخل النوع الواحد" التي يتوافر لها أفضل وسائل التكيف للبيئة المتغيرة، وقد أثرت هذه الأفكار من ناحية أخرى في شيوع مفاهيم التكيف والتوافق في العلوم الإنسانية الناشئة حينئذ، ومنها علم النفس، وفي ظهور الاهتمام بالفروق الفردية والسلالية بين البشر.
وتوجد فكرة أخرى لداروين أثرت تأثيرًا كبيرًا في بحوث النمو التالية، وهي وجود علاقة بين تطور النوع ونمو الطفل داخل النوع، وظهر أثرها في الاهتمام بالبحث عن أصول سلوك الراشد وخصائصه في خبرات الطفولة المبكرة، وهي فكرة شاعت على وجه الخصوص في مدرسة التحليل النفسي "عند فرويد".
وقد لجأ داروين في دراسته للنمو الإنساني إلى المنهج الذي ظهرت بدايته في القرن الثامن عشر، وشاع في القرن التاسع عشر، وهو كتابة سير الأطفال وتراجم حياتهم، ويتلخص هذا الأسلوب في قيام الآباء بتسجيل يوميات عن نمو أبنائهم، وبعض هذه التسجيلات صدر عن أدباء وفلاسفة، كما صدر بعضه عن علماء.
وهذا الأسلوب كان من الشيوع في القرن التاسع عشر حتى أن بعض المؤرخين يذكرون أنه كان من الممارسات العادية للآباء من الطبقات المتوسطة والعليا.
1 تعرضت نظرية التطور منذ ظهورها للنقد الشديد من مختلف الأورقة الدينية والعلمية، وتتوافر في الوقت الحاضر أدلة علمية كافية لدحض النظرية في صورتها الأصلية، ولعل أكثر هذه الأدلة وضوحًا ما تأكد من وجود الخصائص المميزة للنوع، والتي أدت إلى تأكيد فكرة استقلال الأنواع، وقد بينت دراسات علم النفس المعرفي المقارن في السنوات الأخيرة أن بحوث اكتساب اللغة، وتعلم أنماط التفكير، تؤكد أن الفروق بين الإنسان والحيوان فروق كيفية، تجعل الإنسان فئة بيولوجية وسلوكية متميزة عن الحيوان "راجع هلوس وآخرين. ترجمة فؤاد أبو حطب، آمال صادق، 1982، وكذلك فؤاد أبو حطب، 1995".
ولهذا نجد داروين في عام 1877 ينشر مقالًا عن النمو المبكر لطفله الرضيع Darwin، 1877، ووجهت كتابة المقال فكرته العامة حول أهمية النمو الفردي في فهم التطور الإنساني، والواقع أن أسلوب كتابة سير الأطفال وتراجم حياتهم فيه شكٌّ كبيرٌ، وخاصة فيما يتصل بموضوعية البيانات التي سجلها الآباء عن أبنائهم، وذلك للأسباب الآتية:
1-
الملاحظات التي أجريت وسجلت في معظم الكتابات كانت تتم على فترات زمنية غير منتظمة، كما ركَّزت على جوانب متفاوتة من سلوك الأطفال، ولهذا كانت البيانات التي هيأتها لنا هذه الطريقة غير قابلة للمقارنة.
2-
الملاحظون الذين قاموا بجمع هذه البيانات وتسجيلها، كانوا في الأغلب هم آباء الأطفال موضع الملاحظة، ولهذا غلب على تسجيلاتهم الأسلوب الانتقائي والتحيز الذاتي؛ حيث كانوا ينتبهون في معظم الأحيان إلى الأحداث السارَّة والشواهد الإيجابية، ولا ينتبهون إلى الأحداث غير السارة والشواهد السلبية.
3-
الباحثون الذين قاموا بجمع هذه الشواهد والأدلة لديهم أفكار قبلية وافتراضات مسبقة حول طبيعة النمو الإنساني، وعلى الرغم من أنها أقرب إلى الفروض التي تتطلب الاختبار منها إلى البديهيات التي يتم التسليم بصحتها، ولهذا كان من الواجب وضعها موضع الاختبار للتحقق من صحتها، إلّا أن ما حدث أن هذه الأفكار والافتراضات القبلية وجهت ملاحظات وتسجيلات هؤلاء الباحثين، ولهذا يلاحظ القارئ لمعظم هذه السير والتراجم للأطفال أنها لم تجمع إلّا الملاحظات التي تتفق مع وجهة نظر الباحث، ويتضح ذلك على وجه الخصوص في السيرة التي كتبها داروين عن طفله، ولهذا لا تعد في الوقت الحاضر دليلًا عمليًّا يعتد به.
4-
جميع هذه السير والتراجم أجريت على طفل واحد فقط، وبالطبع فإن المنهج العلمي يحذرنا من التعميم من حالة واحدة على حالات أخرى، ويحتاج هذا التعميم إلى أن نجري الدراسات على "عينات" ممثلة للأطفال الذين نسعى إلى وصفهم ودراستهم، وهذا المنهج لم يتقدم إلّا في القرن العشرين.
وعلى الرغم من أن أسلوب سير الأطفال وتراجم حياتهم لم يكن مفيدًا
كمصدر للمعرفة حول النمو الإنساني، إلّا أن هذه السير تضمنت إلى جانب ما فيها من أخطاء فادحة بعض الاستبصارات الهامة، ولعل أهم ما فيها أنها كانت خطوة في اتجاه الاهتمام بالطفل، فمجرد أن يكتب كبار الفلاسفة والمفكرين والعلم عن الطفل وجَّه الانتباه إلى نمو الإنسان ليصبح موضوعًا يستحق البحث العلمي المنتظم.
3-
فرنسيس جالتون وبحوث وراثة السلوك الإنساني:
قدَّم العالم البريطاني فرنسيس جالتون Galton 1991-1822، إسهامًا هامًّا آخر في ميدان الدراسة الناشئة حينئذ للنمو الإنساني؛ فقد كان من بين اهتمامات جالتون العديدة التعرف على مصادر الفروق الفردية، وتطلَّب منه ذلك إجراء دراسات مسحية منظمة على مئات الأشخاص من مختلف الأعمار، وأدَّى ذلك إلى اقتناعه بأن الانتقال الوراثي للسمات من جيلٍ إلى آخر هو المسئول الأكبر عن تنوع السلوك الإنساني، واستخدم في سبيل البرهان على صحة أفكاره طرقًا شتَّى؛ منها المقارنة بين التوائم المتطابقة، والتوائم الأخوية، ودراسة شجرة الأنساب، وخاصَّةً لعدد كبير من العباقرة في مختلف جوانب الحياة، وبهذه الدراسات هيأ جالتون المسرح العلمي لإعادة بحث المسألة الخلافية الأساسية في تاريخ الفكر الإنساني، والتي تدور حول الفطرة والخبرة.
ولعل أهم إسهامات جالتون أنه تجاوز مرحلة التأمل النظري حول هذه المسألة وغيرها، ولجأ إلى الأسلوب العلمي الذي يعتمد في جوهره على الملاحظة المنظمة، وابتكر الوسائل التي تعين على هذه الملاحظة، ومن ذلك بناء الاختبارات العقلية Tests، والاستخبارت أو الاستبيانات النفسية Questonnaires، وابتكر الكثير من الأساليب الإحصائية، وطوَّرَ معظمها بحيث تصبح ملائمة للاستخدام في دراسة السلوك الإنساني، وهكذا كان الجو مهيأ لظهور علم نفس النمو الحديث.