الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وتوجد بالطبع أسباب صحيحة لكثير من قيود العمر، فمن المنطقي مثلًا أن ينصح طبيب الولادة سيدة في منتصف العمر بعدم الحمل، كما أن من العبث أن نتوقع من طفل في العاشرة من عمره أن يقود السيارة، إلّا أن هناك الكثير من قيود العمر التي ليس لها معنى على الإطلاق فيما عدا أنها تمثل ما تعود الناس عليه، كأن تعتبر العشرينات أنسب عمر للزواج في المعيار الأمريكي "Neugarten et al، 1965"، وهذه المجموعة الأخيرة من القيود هي التي نحذّر منها، حتى لا يقع النمو الإنساني في شرك "القولية" والجمود، بينما هو في جوهره مرن على أساس مسلمة الفروق الفردية التي تؤكد التنوع والاختلاف بين البشر.
6-
النمو عملية مستمرة:
الخاصية السادسة والأكثر أهمية من خصائص النمو تتصل في جوهرها بمفهوم مدى الحياة Life-span، والذي يؤكده المنظور الإسلامي للنمو كما سنبين فيما بعد، ومعنى ذلك أن التغيرات السلوكية التي تعتمد في جوهرها على النضج والتعلم تحدث باستمرار في جميع مراحل العمر، ويمكن التدليل على ذلك من شواهد كثيرة من مختلف مراحل العمر، ابتداءً من مرحلة الجنين، وحتى الشيخوخة.
وهكذا يصبح النمو تيارًا متصلًا لا نقاطًا متقطعة، ويمكن أن نشبه دراستنا لأجزاء منفصلة من مدى الحياة الإنسانية بدراسة أجزاء مقتطفة من فيلم أو رواية أو مسرحية، ولك أن تتصور مدى الصعوبة التي تنتابك في الفهم أو في تتبع شخصيات الرواية أو أحداثها، إذا لم تشاهد منها إلّا الفصل الثاني من بين فصولها الثلاثة. وبالمثل كيف يمكننا فهم نمو الفرد الإنساني إذا لاحظناه فقط في مرحلة الطفولة أو المراهقة أو الشيخوخة؟ فكما أن الفصل الثاني في المسرحية يتطور من الفصل الأول، ويعتمد عليه، وفي نفس الوقت يؤلف الأساس الذي يبنى عليه الفصل الثالث، فإن مراهقة الإنسان تتطور من خبرات طفولته، وتعتمد عليها وتؤلف أساس خبرات الرشد التالية.
ولأغراض الفهم العلمي تنقسم دورة الحياة في العادة إلى مراحل متعددة، وقد أطلق عليها ليفنسون "Levinson، 1978" مصطلح "مواسم" الحياة، بل إن معظم كتب علم نفس النمو تركز على بعض المراحل دون سواها، ولعل المرحلتين الأكثر شيوعًا هما الطفولة والمراهقة، وهو الطابع الغالب على معظم ما صدر في هذ الميدان من كتب باللغة العربية إذا استثنينا كتاب الرائد الراحل فؤاد البهي السيد "الأسس النفسية للنمو من الطفولة إلى الشيخوخة""فؤاد أبو حطب، 1997"، بل إن معظم الكليات والمعاهد الجامعية تقدم مقررات حول نمو الطفل ونمو المراهق ونمو الراشد وهكذا.
وعلى الرغم من ملائمة مفهوم المرحلة النمائية للأغراض الأكاديمية إلّا أنه قد يؤدي إلى نوعين من سوء الفهم: أولهما: الشعور بأن مراحل الحياة منفصلة منعزلة، بينما هي ليست كذلك بحكم أنها جزء من تيار الحياة المتدفق، والواقع أن هذه المراحل يتطور بعضها من بعض بشكل مستمر، وثانيهما: الحصول على انطباع زائف عن أن مراحل الحياة ثابتة، بينما هي في الواقع تتضمن تغيرت وتحولات دائمة في داخلها، ومن ذلك مثلًا أن الفرد لا يبقى معطلًا في مرحلة المراهقة، حتى يصبح مستعدًا للقفز إلى الأمام في مرحلة الرشد المبكر. وما يحدث بالفعل أنه يوجد نمو دائم داخل المراهقة، كما هو الحال في جميع مراحل الحياة.
والرشد المبكر لا يتبع المراهقة فحسب، ولكنه يتطور تدريجيًّا منها، ومعظم ما نحن عليه في مرحلة معينة من مراحل حياتنا هو نتاج لما كنا عليه في المراحل السابقة.
ولعل هذا هو ما دفعنا إلى أن يتمركز كتابنا هذا حول مفهوم "النمو مدى الحياة" Life - Span Edvelopment، حتى يتجنب القارئ سوء الفم الذي ينشأ حتميًّا على التركيز المستمر على مراحل الحياة مع الفشل في إدراك الاستمرار والتواصل في أنماط النمو لدى الفرد، ونحن حين نركز على مفهوم "مدى الحياة" في دراسة النمو، فإننا بذلك ندمج الماضي في المستقبل على نحوٍ يقودنا إلى وعي "حاضر" باتصال الحياة، فالماضي والمستقبل هما المحوران الرئيسيان للزمن السيكولوجي "فؤاد أبو حطب، آمال صادق، 1985".
ولعل مفهوم "مدى الحياة" الذي شاع كثيرًا في دراسات سيكولوجية النمو ابتداء من الربع الأخير من القرن العشرين "على الرغم من جذوره الأصيلة في الثقافة العربية الإسلامية كما سنتبين فيما بعد" هو الذي دفع مارجريت ميد "mead، 1972" إلى المطالبة بتوظيف هذا المفهوم في فهم طبيعة العلاقة بين الأجيال "وخاصة جيل الأحفاد وجيل الأجداد"، فكل منهما يتعلم من الآخر معنى اتصال الحياة؛ فالجد يقدِّمُ لحفيده آصرة الماضي، والحفيد يقدم لجده الإحساس بالمستقبل، ومن خلال تفاعلهما يتشكل الماضي والمستقبل في بوتقة الحاضر.
ومفهوم مدى الحياة يقودنا إلى مسألة هامة أخرى، وهي أن النمو لا يعني التحسن المستمر في مختلف مراحل العمر، وقد اقترح أحد مؤلفي هذا الكتاب "فؤاد أبو حطب، 1983، 1985" نسقًا ارتقائيًّا تطوريًّا لدورة الحياة، وجوهر هذا النسق أن مسار الحياة Life -Path، أو مدى الحياة يتضمن متوالية معقدة حتى الأحداث والظواهر التي يشهدها الإنسان من لحظة الإخصاب في رحم الأم حتى
لحظة الاستلقاء على فراش الموت، إلّا أن هذه المتوالية لا تتضمن تصورًا خطيًّا لحدوثها، وإنما هي في معناها الحقيقي دورة، أو إذا شئت الدقة: منحنى يصوره الإعجاز الإلهي في قول القرآن الكريم:
منحنى يمثل قوة بين ضعفين، ووسطًا بين طرفين، ويعد الصبا young-hood بكل ما فيه من نمو في الطفولة والمراهقة طرف الضعف الأول، أما الشيخوخة ageing بكل ما فيها من تدهور، فهي طرف الضف الثاني، وبينهما قوة الرشد Adulthood، وهذ التصور القرآني للنمو مدى الحياة هو الموجه العام لبناء هذا الكتاب.