الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المنهج العلمي في البحث والتصور الإسلامي للمعرفة:
لعل من الواجب أن نشير هنا إلى أن هذا المنهج العلمي في البحث يتفق مع التصور الإسلامي للمعرفة؛ ففي القرآن الكريم دعوة صريحة لتأمل الكون والنفس جميعًا، والجمع بين المجالين في الآيات القرآنية الكريمة دليل -والله أعلم- على أن طبيعة المنهج في تأملها ودراستهما واحدة.
يقول الله تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً} [الروم: 8] .
ويقول أيضًا: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [التغابن: 3] .
والهدف الأعظم من هذه الدراسة هو التعرف على أيات الله في خلق الكون والحيوان والإنسان، وفي ذلك يقول الله تعالى:{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53] .
{وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ، وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] .
وهذا التعرف على آيات الله التي هي علامات قدرته في خلقه يكون بالكشف عن سنن الله في مخلوقاته، وسنة الله هي ما جرى به نظامه في خلقه، وفي سعي الإنسان للكشف عن سنن الله بالأسلوب العلمي يستخدم ما زوده الله به سبحانه وتعالى من نعمٍ، وخاصة الحواس والعقل، مع التنبيه الكامل إلى حدودها كإمكانات بشرية معرضة للوقوع في أخطاء الضعف والقصور والخداع، وهذا السعي البشري للكشف عن سنن الله في مخلوقاته هو ما يسمى قوانين العلم، والتي لا تكون في أحسن حالاتها إلّا تقريبًا تتابعيًّا لسنن الله دون أن تتطابق معها. ولعل هذا يفسر لنا التغير المستمر والتحسن التدريجي الذي يطرأ على القوانين العلمية على مَرِّ العصور في مقابل الثبات البديهي المطلق لسنن الله.
وقد عرضنا في الفصل الثالث آيات الله في تكوين الإنسان ونموه قبل الولادة أو بعدها، كما وردت في القرآن الكريم، ومهمة علم نفس النمو أن يكشف عن سنن الله في نمو مخلوقاته ومنها الإنسان، وهذا هو المنظور الحقيقي الذي يجب أن ننظر من خلاله إلى نتائج العلم، سواء أجريت بحوثه في الشرق أو الغرب، وبهذا التصور الصحيح لمغزى المنهج العلمي في بحوث النمو وغيره من مجالات المعرفة، يمكن أن تتوقف تلك الصيحات العاتية التي تطالب بالتوقف عن الاهتمام بالعلم الحديث؛ لأنه من نتاج معامل الغرب وجامعاته. وهي دعوة في رأينا إلى الجهل والتخلف، ناهيك عن أنها ضد روح الإسلام العظيم الذي دعا رسوله الكريم إلى طلب العلم وحث عليه.
أما التصور الذي عرضناه لطبيعة المنهج العلمي فلم يكن معروفًا في العلوم الإنسانية -ومنها علم النفس- قبل القرن التاسع عشر، ولهذا وجدنا اتجاهًا يوحِّد بين آراء الفلاسفة والمفكرين، الذين أوردنا عينة من أفكارهم في الفصلين الثاني والثالث، وبيَّنَ حقائق السلوك الإنساني، وبالطبع لم يكن متوافرًا في ذلك الوقت أسلوب يضع هذه الآراء موضع الاختيار، وكانت المواقف إزاءها إما "القبول" أو"الرفض" على أساس الجدل العقلي المحض، أو الاندماج الانفعالي الوجداني الكامل دون مراعاة لحقائق السلوك الإنساني بالفعل، كما يلاحظ عندما يصدر عن البشر؛ كأطفال ومراهقين وشباب وكهول وشيوخ ومسنين.
وعلى الرغم من هذه المبادئ الواضحة بذاتها، والتي أصبحت من بديهيات الفكر العلمي الحديث الذي لا يتضاد كما بينا مع الأصالة الإسلامية، فإننا نجد بعض من يركبون "الموجة" في كل العصور -ومنهم للأسف من ينتسبون إلى علم النفس- ينتقون نماذج من تراث علماء المسلمين، والتي كتبها أصحابها بالطبع قبل رسوخ قواعد المنهج العلمي في البحث، ويبالغون في تقديرها على نحوٍ لو أدركه أصحابها أنفسهم لأنكروه، ويصل بعضهم في عبثه بالعقل المسلم الحديث إلى حَدِّ الادعاء بأن بعض ما قرأوه قراءةً متعجلة من كتب تراث علماء المسلمين سبق نتائج البحوث الحديثة، وهو قول أقرب إلى الجهل، إذا توافر في أصحابه حسن النية، أو إلى العبث العلمي، إذا توافر لديهم سوء المقصد، وفيه من سوء الفهم للتراث الذي يشيرون إليه والعجز عن فهم طبيعة العلم الذي يدعون الانتساب إليه1.
وهذا القول لا يقلل من شأن عبقرية المفكرين المسلمين وغيرهم من مفكري الحضارة الإنسانية في مختلف العصور؛ فعلماء نفس النمو المعاصرون يدينون لهم -كما يدين أطفال اليوم ومراهقوه وشبابه وكهوله وشيوخه- بفضل النظرة التي ينظر بها المجتمع إليهم وكيف يعاملهم، وتظل أفكارهم في أحسن حالاتها "تخمينات جيدة" أو "فروضًا" تنتظر الاختبار، وبهذا وحده يمكن فرز "الجيد" من "الرديء" فيها، حتى نحمي المجتمع وأفراده من التضمينات النظرية والتطبيقات العلمية للأفكار "السيئة" -أي: التي لا يوجد دليل موضوعي يؤكد صحتها- وبهذا يصبح العلم قيمة في ذاته يحمي المجتمع العلمي -والمجتمع بصفة عامة- من الاستدلال المعيب والتفكير الملتوي، وعلينا أن نتذكر دائمًا أنه
1 يستثنى من هذا الحكم بعض الجهود الطيبة التي بذلها فريق جليل من علماء النفس المسلمين المعاصرين في تناولهم لتراث مفكري الإسلام، ونذكر منهم على وجه الخصوص محمد عثمان نجاتي في دراسته عن ابن سينا، ومحمد أحمد خلف الله في دراسته عن ابن الجوزي، وسيد أحمد عثمان في دراسته عن برهان الإسلام الزرنوجي.