الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد صنَّفَ الفقهاء فئات من ينوب عنهم أولياؤهم وهم مَنْ ثبت الحجر عليهم بدليل القرآن والسنة وهم: المجنون "وهو من زال عقله"، والمعتوه "وهو من كان قليل الفهم مختلط الكلام فاسد التدبير لاضطراب عقله، سواء من أصل الخلقة أو لمرض طارئ"، السفيه "وهو من يبذر ماله يصرفه في غير موضعه الصحيح بما لا يتفق مع الحكمة والشرع"، والمريض مرض الموت1، مع تفصيل واختلاف في المذاهب الفقهية المختلفة لا يتسع له المجال.
وبالطبع فإن هذه الفئات جميعًا تحظى باهتمامٍ شديدٍ من علم النفس الحديث، وحبذا لو استفاد الفقهاء المعاصرون من نتائج البحوث السيكولوجية في هذا الميدان، إلّا أن ما يهمنا أن نشير إليه هو أن كثيرًا من العلامات السابقة تظهر على المسن البالغ طور أرذل العمر، والمنطق الجوهري على هذه الفئات أنها جميعًا حالات ارتداد وانتكاس إلى ما قبل الرشد، قد تكون مؤقتة حين تحدث في مراحل سابقة على طور أرذل العمر، ولكنها حالما تظهر في طور أرذل العمر تبقى وتستمر. والسبب الجوهري في ذلك -كما أشرنا- أن المؤشر الرئيسي في المحك لبلوغ هذا الطور هو الارتداد الانتكاسي المصاحب بفقدان القدرة على التعلم.
1 استخدمنا في وصف هذه الفئات لغة الفقه الإسلامي، وليس لغة علم النفس.
2-
المحك المرضي:
من المحكات التي تشبع في الكتابات المختصصة في مجال المسنين لتحديد طور الهرم ما يمكن أن نسميه المحك المرضي، ويعني أن أرزل العمر يتسم كما أشرنا بمجموعة من الاضطرابات السلوكية تنتمي إلى فئة الأمراض، إلّا أن هذه الاضطرابات المرضية تختلف عن غيرها من الأمراض في المراحل العمرية الأخرى من حيث المؤشرات التي يشار فيها إلى المرض أو الاضطراب Eisoderfer &Lawton، 1973" وهي: مؤشر الانتشار Prevaleance، والمؤشر الإيتولوجي etiological، أي: الذي يتناول أسباب المرض، ومؤشر القابلية للعلاج.
فبالنسبة لمؤشر الانتشار فإنه في جوهره مؤشر إحصائي، بمعنى أن سواء السلوك أو عدم سوائه يتحدد في ضوء مدى حدوثه في مجتمع أو جماعة معينة، فالسلوك الأكثر شيوعًا بين الأفراد يُعَدُّ سويًّا، وهذا المعنى هو الذي يستخدمه خبراء الصحة العامة، أما إذا كان السلوك أقل شيوعًا فإنه في الأغلب يصنف على أنه مرضي، ولعلنا نذكر أن التغيرات التي تطرأ على السلوك الإنساني في مختلف
مراحل العمر السابقة، والتي وصفناها من قبل طوال فصول هذا الكتاب تنتمي إلى فئة السواء السويّ؛ لأنها شائعة في كل مرحلة عمرية تناولناها، إلّا أن هذا المؤشر يتخذ اتجاهًا عكسيًّا في طور أرذل العمر، ففيه شيع أنماط السلوك المضطرب ومن ذلك الاكتئاب والعصاب القهري والقلق والأعراض السيكوسوماتية، إلّا أن هذا الشيوع والانتشار لا يجعل منها سلوكًا عاديًّا.
أما بالنسبة للمؤشر الإيتولوجي فمن الشائع في المراحل السابقة في نموِّ الإنسان أن يميز بين الاضطرابات الوظيفية والعضوية، فالخلل العضوي هو نمط من الاضطراب يعود في جوهره لأسباب في جسم الإنسان، أما الاضطراب الوظيفي فسببه الرئيسي هو التفسير الرمزي الذي يخلعه المرء على الأحداث، ولهذا يُعَدُّ من فئة الأمراض النفسية، إلّا أن هذا التمييز لا يكون بذلك الوضوح في طور أرذل العمر، فكثير من المشكلات السيكولوجية في هذا الطور ترجع إلى نوعي الأسباب معًا والتي تحدث متآنية، ومن ذلك مثلًا أن من الشائع عند المسنين الذين يعانون من خرف الشيخوخة senile dementia "وهو مرض عضوي"، أن يقاسوا أيضًا من الاكتئاب الذي يسببه وعي المسن بالعجز المعرفي والتغير في كمياء المخ الذي يرجع إلى التغيرات الفسيولوجية التي تطرأ عليه.
وهذه الصعوبة في التمييز بين الاضطرابات العضوية والوظيفية في طور أرذل العلم تنتقل أيضًا إلى المؤشر الطبي الثالث وهو القابلية للعلاج، ففي مراحلة العمر السابقة، والتي يكون فيها هذا التمييز سهلًا يكون من الميسور تقديم العلاج المناسب حسب التشخيص إلى إحدى الفئتين. فعادة ما توضع الاضطرابات العضوية داخل النموذج الطبي حيث تعتبر الأعراض السيكولوجية أمراضا وتعالج بطرق التدخل في الجسم الإنساني باستخدام العقاقير أو الجراحة، ويتضمن ذلك افتراض أن الاضطرابات العضوية لا تقبل العلاج بطرق التدخل السيكولوجي بسبب طبيعتها الجسيمة، وعلى العكس من ذلك فإن الاضطرابات الوظيفية توضع في الأغلب في نطاق النموذج النفسي الاجتماعي، فما دامت الاضطرابات النفسية تنشأ عن علاقة المرء بالبيئة، ومن إدراكه لها، فإن الطرق العلاجية المناسبة لها حنيئذ هي الطرق السيكولوجية، سواء كانت فردية أو جماعية بالاستعانة بالبيئات المعاونة، وقد أشرنا إلى صعوبة التمييز بين ما هو وظيفي وما هو عوضي في طور أرذل العمر، ولهذا كان من الواجب الحرص البالغ في التشخيص لتحديد الدور الذي تقوم به العوامل النفسية الاجتماعية والعوامل البيولوجية في الاضطراب مع ملاحظة أن الشائع عند المسنين في هذا الطور هو تداخل
مجموعتي العوامل، ويؤدي ذلك إلى صعوبة التشخيص والعلاج؛ ولهذا فالسمة الغالبة على اضطرابات أرذل العمرأنها أقل قابلية للعلاج إذا قورنت بالاضطرابات في مراحل العمر السابقة، وحتى الاضطرابات التي لها وسائل فعّالة تقل فعاليتها في هذا التطور.
وهذه المؤشرات المرضية الثلاثة هي تفصيل لمؤشري الانتكاس وفقدان القدرة على التعلّم اللذين تناولناهما في إطار المحك الإسلامي، فشيوع الاضطرابات لا ندرته، وتداخل ما هو وظيفي مع ما هو عضوي، وصعوبة القابلية للعلاج كلها تؤدي إلى مزيد من التدهور، واستمرار التدهور يؤدي بالضرورة إلى مزيدٍ من خلل الوظائف العضوية والنفسية على نحوٍ يؤدي إلى حدوث الانتكاس وفقدان القدرة على الاكتساب، بل إن عجز العلاج يجعل من اضطرابات أرذل العمر ظاهرة لا مرضية، وقد يبدو إشكاليًّا أن نقول: إن السلوك حتى ولوبدا مختلًّا يُعَدُّ عاديًّا حتى يتم اكتشاف علاج له، أو حين يصبح العلاج المتاح له أقل فعالية، ومع ذلك فإن هذه العبارة صحيحة، بل إنها من مؤشرات أرذل العمر كما قلنا "Eesdorfer & Lawtion، 1973"، فقبل اكتشاف الأساليب العلاجية المناسبة المضادة للاكتئاب كان هذا المرض يُعَدُّ سلوكًا عاديًّا، ويتعلم الإنسان أن يتعايش معه، أما الآن فقد تكاثرت العقاقير التي تعالج أعراض هذه الاضطرابات، حتى الثانوي منها كالتعب والأرق، وحينئذ أصبح ضمن قائمة الأمراض، كذلك القلق فإنه لم يَعُدْ يصنَّفُ على أنه من بين الأمراض إلّا بعد اكتشاف المهدئات. وهكذا يمكن القول أن الأعراض التي تُعَدُّ من النوع "غير القابل للعلاج" يمكن اعتبارها من نوع الاضطرابات النفسية الملازمة للهرم أو الإعمار aging السوي، وكثير من الأعراض ينطبق عليها هذا الوصف؛ مثل: نقص فترة النوم والإمساك وضعف الذاكرة أو فقدانها"الذي يؤدي بالطبع إلى ضعف أو فقدان القدرة على التعلّم، وهو أحد مؤشري المحك الإسلامي لأرذل العمر".
ويرى البعض أن عدم القابلية للعلاج تحكمه ظروف التقدم الطبي في وقت معين، وأنا المستقبل قد يكشف الوسائل الملائمة للعلاج، وهذا القول صحيح بالطبع، وإذا حدث أن استطاع الإنسان أن يكشف وسائل فعالة لهذه الأعراض، فإن طور أرذل العمر سوف يظهر في وقت أكثر تأخيرًا، ولعلنا نشير هنا إلى التقدم الطبي الحديث دفع هذا الطور سنوات أبعد كثيرًا مما كان عليه الحال في الماضي، ومع ذلك فلا بد لدورة الحياة مهما طالت سوية أو شبه سوية أو مرضية أن تصل إلى طورها الأخير، وهذه إحدى سنن الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلًَا.