الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلى منظور "سابق على المجتمع"، يتضمن فردًا يسلك سلوكًا "عقلانيًّا" ويعي القيم والحقوق قبل أي ارتباط أو تعاقد اجتماعي، ويتم التكامل بين مفاهيم الأفراد المختلفة بعمليات الاتفاق والتعاقد والنزاهة الموضوعية والواجب، وهنا توضع وجهات النظر الخلقية والقانونية معًا، مع إدراكٍ لإمكان حدوث صرعٍ بينهما، وفي هذه الحالة قد يشعر الفرد ببعض الصعوبة في إعادة التكامل بينهما.
6-
المرحلة السادسة والأخيرة: أخلاق المبادئ العامة:
وفي هذه المرحلة يتوجه الفرد نحو الالتزام بمبادئ أخلاقية يختارها، وبالطبع فإن بعض ما في المجتمع من قوانين واتفاقياتٍ وعقودٍ يكون صحيحًا في العادة؛ لأنه يستند إلى مثل هذه المبادئ الأخلاقية، أما حينما تخرق هذه القوانين والاتفاقيات والعقود مثل هذه المبادئ "كأن يسود الغش في الامتحانات"، فإن الشخص يسلك تبعًا للمبدأ. والمبادئ الأخلاقية هي مبادئ عامة مطلقة، ومن أمثلتها: العدالة والمساواة بين البشر في الحقوق والواجبات، واحترام كرامة الإنسان كإنسان. وهناك سببان للسلوك الخلقيّ في هذه المرحلة الراقية: أولهما: اعتقاد الفرد في صحبة المبادئ الأخلاقية العامة، وهذا الاعتقاد ليس محض إحساس وجداني، وإنما يقوم على الاستدلال والتعقل، والسبب الثاني: هو الإحساس بالاتزام الشخصي نحو هذه المبادئ المطلقة، والمنظور الاجتماعي الذي يصدر من خلال هذا السلوك الأخلاقي يكون في إطار "وجهة نظر أخلاقية محضة"، توجه جميع التنظيمات الاجتماعية، ومعنى ذلك: أن كل شخص ناضج عاقل راشد يدرك طبيعة "الأخلاق"، أو حقيقة أن للإنسان قيمة في ذاته، ويجب معاملته على هذا الأساس.
تعليق عام على النماذج النظرية:
أشرنا إلى أن النماذج النظرية الثلاثة التي عرضناها آنفًَا تتسم بقدرٍ من التخصص، فنموذج بياجيه ذو طبيعة معرفية، بينما يتسم نموذج إريكسون بسمة وجدانية، ويغلب على نموذج كولبرج الطابع الاجتماعي، ومع ذلك فكلٌّ من هذه النماذج الثلاثة يقبل التوسع والامتداد إلى المجالات الأخرى، ولعل أكثر من حاول ذلك كان جان بياجيه الذي أجرى دراسات كثيرة حول نمو الجوانب الوجدانية والاجتماعية للسلوك، موجهة بالإطار المعرفي العام لنموذجه.
والسؤال الآن: هل توجد نظرية أصح من غيرها؟ للإجابة على هذا السؤال نقول: إن من المستحيل عادةً أن نختبر إحدى النظريات العلمية في مقابل نظرية أخرى، حتى نحدد أيهما النظرية الصحيحة؛ لأن كل نظرية تحدد مجالات بحثها، ومناهج البحث الملائمة لها، ومعنى هذا: أن تختلف نظريات النمو الإنساني
بعضها عن بعض تبعًا للجوانب الأكثر أهمية من السلوك الإنساني التي يسعى كلٌّ منها لدراسته، وعلى ذلك يصعب على الباحثين الذين يتناولون هذه النظريات المختلفة أن يتفقوا على مجموعة مشتركة من المشكلات ما دام كلٌّ منهم يتناول جوانب مختلفة من النمو، ومعنى ذلك: أن كل نظرية تعد صحيحة أو خاطئة في إطار مجال البحث الذي تتناوله، ولا يمكن القول أن هذه النظريات يتنافس بعضها مع بعض، فمثل هذا القول غير صحيح طالما أن النظريات تتناول النمو بطرق مختلفة، وتركز على موضوعات مختلفة للبحث، وتستخدم مناهج بحث مختلفة، ويوضح ذلك الجدول "5-6"، وفيه تُجْرَى مقارنة بين النماذج الثلاثة التي عرضناها في ضوء مراحل النمو الرئيسية التي حددناها في الإطار الإسلامي في الفصل الثالث من هذا الكتاب.
وهناك سؤال آخر تطرحه تلقائيًّا إجابتنا على السؤال السابق، وهو: كيف يمكن لنا أن نقوّم النظرية؟ للإجابة على هذا السؤال الجديد لابد لنا من القول بأن من العبث الاعتقاد في أن بيانات البحث ومعطياته وحدها يمكن أن تثبت صحة النظرية أو خطأها، فالنظريات العلمية لا يمكن البرهنة عليها أو عدم البرهنة عليها، وإنما يكون دعمها بالبحث أو عدم دعمها، ولكي نوضح هذا التمييز يمكن أن نشبه ما يحدث في مجال البحث بما يحدث في مجال القضاء؛ فعادة ما يجري في كلٍّ من المجالين نوع من الموازنة بين شواهد وأدلة الدعم والتأييد، في مقابل أدلة وشواهد الدحض والتفنيد، ووزن نوعي أدلة يحول الميزان لصالح النظرية أو ضدها "في مجال العلم"، أو مع المتهم أو ضده "في مجال القضاء". وحتى يمكن للنظرية أن يزداد قبولها على نطاق واسع، فلابد للأدلة والشواهد المتوافرة أن تكون مدعِّمَةً لها تدعيمًا واضحًا، وكذلك حتى تحظى النظرية بالدعم لابد لها أن تكون قابلة للاختبار والتحقق، ومعنى ذلك: أن يستطيع الباحثون صياغة بعض جوانب النظرية على هيئة "فروض" يمكن اختبارها والتحقق منها بمنهج البحث العلمي الملائم.
وهناك محل آخر للحكم على جودة "النظرية"، وهو مدى قدرتها على خلع المعنى على الظواهر السلوكية المتعددة والمتفرقة التي تبدو غير مرتبطة، وبالتالي تهيئ للإنسان فرصة المزيد من الفهم والاستبصار بطبيعة السلوك الإنساني، وكلما زاد اتفاق "المجتمع" العلمي على ذلك، فإن النظرية تعيش وتزدهر، وتكتسب قدرًا أكبر من القبول، وبالتالي تنمو وتتطور، إلّا أنه قد يحدث ما يسميه توماس كون في كتابه الشهير "بنية الثورة العلمية" تحوُّل في "الوجهة"، ونحن نتوقع لعلم نفس النمو -إذا زاد الاهتمام بين الباحثين المسلمين والعرب بتناوله من الوجهة الإسلامية كما فعلنا في هذا الكتاب- أن يحدث له هذ التحول العظيم.
جدول رقم "5-6" مقارنة بين نماذج بياجيه وأريكسون وكولبرج