الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقت واحد. ومن الواضح أن هذه البرامج التدريبية والبحثية ستكون لها اهتميتها في تقدم معارفنا عن هذه المرحلة الهامة من حياة الإنسان، كما سوف تزود المهنيين بالمهارات اللازمة للعمل مع المسنين.
وقد شهدت أواخر القرن العشرين أيضًا زيادة في عدد الجمعيات العلمية والمهنية المهتمة بالمسنين، وبعض هذه الجمعيات يتكون من المهتمين بالبحث في هذا الموضوع من تخصصات عديدة متنوعة في العلوم الطبيعية والاجتماعية، وبعضها الآخر يتألف من الممارسين المهنيين المهتمين بالتخطيط لرعاية المسنين وتقديم الخدمات لهم، وهكذا يمكن القول أن مجال المسنين هو من المجالات الجديدة من الناحيتين البحثية والمهنية، والتي تهيئ فرصًا لظهور برامج تدريبٍ لفئات عديدة من المتخصصين الجدد لمواجهة هذه الحاجة المنبثقة التي لم تشهدها العصور السابقة، ولعل أهم هذه الفئات الوليدة ما يتصل بالمهام الثلاث التي بدأنا بها هذا الفصل وهي: تعليم المسنين، والتدخل العلاجي، ودور ومؤسسات الرعاية.
أولًا:
تعليم المسنين:
على الرغم من أن بعض المسنين قد يتعلمون تلقائيًّا، إلّا أن نسبة هؤلاء كما تقدرها الإحصاءات التربوية في بعض النظم التعليمية المتقدمة -كالولايات المتحدة الأمريكية- لا تتجاوز 2.5 % من مجموع المسنين، هذا على الرغم من أن التعلم المستمر لا تقل أهميته لدى هذه الفئة العمرية عن الأطوار والمراحل النمائية الأخرى؛ فالتعلم هو جوهر النمو الإنساني كما ذكرنا كثيرًا في ثنايا هذا الكتاب، بل هو المؤشر الرئيسي على استمرار الرشد الإنساني، ونقصه أو فقدانه هو العلامة الجوهرية على بلوغ أرذل العمر كما يحدده القرآن الكريم "راجع الفصل السابق".
ومن دلائل الإعجاز السيكولوجي للقرآن الكريم ما يؤكده علماء الشيخوخة المعاصرين، من أن التعلم المستمر يؤدي إلى تحسن نوعية الحياة للمسنين، ويهيئ لهم فرصًا لاستثمار قدراتهم على نحوٍ يتجاوز محض مسايرة وملاحقة التغيرات الاجتماعية والثقافية من حولهم؛ فالتعلم يقدم لهم المعرفة والمهارة، كما يوفر لهم إمكانية التطبيع مع الظروف المتغيرة، وهو بذلك يؤثر في اتجاهاتهم وجوانب سلوكهم المختلفة.
إن التعليم يزود المسنين أولًا بالمعارف والمهارات اللازمة للمحافظة على صحتهم وتحسينها، كما قد تفيدهم بعض المعارف والمهارات التي يكتسبونها في
الحصول على عمل لبعض الوقت على الأقل، بالإضافة إلى ما يوفره لهم من طرق للتعامل الفعال مع ظروفهم الاقتصادية المتغيرة التي يترتب عليها نقص الدخل نتيجة التقاعد، كما يمكن للتعليم ن يقدم لهم الحقائق العلمية التي قد تؤدي إلى تغير الصورة النمطية السلبية السائدة لديهم -قبل غيرهم- عن الشيخوخة والتقدم في السن، بالإضافة إلى ما يمكن أن يتحقق لهم، بالتعليم من اتساع لنظرتهم للحياة وتحديد أهداف ملائمة جديدة لهذه المرحلة النمائية، ومن إمكانية استطلاع واستكشاف لبناء علاقات اجتماعية جديدة، وتفاعل اجتماعي موجب مع أفراد مشابهين لهم، وبهذا يلعب التعليم دورًا خطيرًا في تجديد اهتمامات المسنين بالحياة، ويزودهم بالرغبة في الإسهام الجاد في تطوير أنفسهم ومجتمعهم، وبالوسائل التي يمكن بها تحقيق ذلك.
وبالطبع يحتاج الأمر لبعض الوقت حتى تفتح المجتمعات الحديثة أبواب التعليم للمسنين كما فتحتها من قبل للراشدين، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى الاتجاهات السلبية نحو الشيخوخة، كما عرضناها في الفصل التاسع عشر، أضف إلى ذلك أن النموذج السائد للتعليم أنه موجه للإعداد للمستقبل، وهذا النموذج أصلح ما يكون للأطفال والمراهقين والشباب، وهو يصلح إلى حدٍّ ما مع الراشدين، أما مع الشيوخ والمسنين فقد اعتبر التعليم بالنسبة إليهم نوعًا من الهدر للوقت والجهد والمال، فأين المستقبل في تعليم المسنين؟ أضف إلى ذلك الاعتقاد السائد عن عجز المسنين -كافة- عن التعلم.
إلّا أن هذه الأفكار جميعًا تعرضت لتغيرات جوهرية خلال العقدين الماضيين، فالمسنون قد يعيشون بعد التقاعد سنوات وهم في صحة جيدة، وتقدمت بحوث الشيخوخة على النحو الذي عرضناه في الفصلين السابقين، وترتب على ذلك كله تغير جوهري في اتجاهاتنا ومعتقداتنا وأفكارنا حول تعليم المسنين، ويمكن أن نلخص الاتجاهات الراهنة حول هذا الموضوع في ثلاث فئات جوهرية:
1-
تعليم المسنين هو وسيلة لقضاء وقت فراغهم الطويل، وهو بذلك طريقة للترويح عنهم من ناحية، واندماجهم في مهام تشغلهم من ناحية أخرى، هذا الرأي هو الاتجاه الثقافي العام في معظم المجتمعات الحديثة.
2-
تعليم المسنين هو الطريقة التي يعتمد عليها المجتمع في معاونة المتقدمين في السن على المشاركة الكاملة في أنشطته، وذلك من خلال تنمية
المهارات المختلفة لديهم، وتدريبهم على تعويض النقص الناشئ عن المشكلات الفسيولوجية والسيكولوجية التي يتعرضون لها في هذه المرحلة من حياتهم، ومساعدتهم على العيش حياة طبيعية، وقد يعينهم هذا التعليم على أن يبدأوا حياة مهنية جديدة، أو المشاركة في الأنشطة والأعمال التطوعية، وهذا الاتجاه هو الرأي الغالب على جمهرة كبيرة من العلماء.
3-
تعليم المسنين هو السبيل لتحقيق نموهم الشخصي، ورضائهم عن ذواتهم، وهذا الرأي يتفق عليه علماء النفس من أنصار نموذج إريكسون في النمو الوجداني؛ فالتعليم عندهم يعين المتقدم في السن على إحراز التكامل في شخصيته وإثراء معنى حياته.
ويبدو لنا أن هذه الاتجاهات نحو تعليم المسنين لا تتعارض فيما بينها، ويمكن للمتخصص أن يصمم برنامجه في صورة هذه الاستراتيجيات الثلاثة؛ بحيث يحقق للمتقدم في السن تنمية في الجوانب المعرفية والوجدانية والاجتماعية جميعًا، وبذلك يمكن له أن يحقق نموه الشخصي، ونموه كمواطنٍ مسئول، ونموه من خلال أنشطة الترويح وقضاء وقت الفراغ، وبهذا يمكن للمربين أن يحققوا إبداعًا حقيقيًّا في مجال لم يطرقوه بعد بالاهتمام الواجب.
والسؤال الجوهري الآن: كيف يتحسن أداء المسنين في البرامج المخصصة لتعليمهم؟ بالطبع لا تتوافر لنا إجابة حاسمة على هذا السؤال، فالميدان لا يزال جديدًا، والبحوث فيه لا تزال جزئية ومتناثرة وكلها أجري في الثقافة الغربية، ولم يجر منها شيء في ثقافتنا العربية والإسلامية بعد، وفي ضوء الأدلة المتاحة يمكن القول أن عوامل الذكاء والتعليم السابق واستراتيجيات التفكير تعلب دورها في استفادة المسن من برامج تعليمه، بشرط أن يكون التدهور في مظاهر السلوك -والذي يصاحب الشيخوخة- في النطاق الذي يمكن التحكم فيه، وقد أجريت بالفعل بضع دراسات على المسنين داخل فصول الدراسة، لعل أهمها دراسة "Kasworm. 1980"، وفيها وُجِدَ أن معظم الدراسين المسنين أدوا أداءً جيدًا يكاد يتكافأ مع أداء من هم أصغر سنًّا -إن لم يكن أفضل.
ويذكر "Perlmutter & Hall. 1980" أنه حين يعود المسنون إلى فصول الدراسة، فإن أخطر ما يؤثر في أدائهم الصورة النمطية الشائعة عن الشيخوخة والتقدم في السن، وخاصة حين يوصفون بأنهم غير أكفاء ومعتمدين وغير منتجين، ويؤدي ذلك إلى إضعاف ثقة المسن في نفسه، ويؤثر ذلك بدوره في أدائه
التعليمي، ولذلك حين استخدام بعض الباحثين الأساليب التي تساعد على إقناع المسنين بقدرتهم، فإن أداءهم يتحسن كثيرًا، ومن هذه الأساليب ما يلي:
1-
تنظيم البرامج بحيث يسمح للمسنين بالمرور بخبرات نجاح مبكرة، وقد يفيد في ذلك كثيرًا استخدام اختبارات التعرف بدلًا من الاستدعاء، وخاصة في المراحل المبكرة من التقويم، وهذا النجاح المبكر يفيد في خلق شعور بالثقة بالنفس، والإحساس بالكفاءة والفعالية، وناهيك عَمَّا يحققه النجاح من إدراك مواقف التعلم على أنها مصدر بهجة للمتعلم "سيد أحمد عثمان، 1977".
2-
تهيئة الفرصة للمسنين، خلال البرنامج التعليمي، لملاحظة دارسين آخرين -من المسنين أيضًا- وهم ينجحون بالفعل في أداء المهام المطلوبة، ولعل أهم ما يحققه هذا الأسلوب أنه يساعد على زوال الصورة النمطية السلبية عن العجز الكلي للمسنين.
3-
الاعتماد على التعزيز الموجب اللفظي؛ سواء من جانب المعلمين أو أعضاء الأسرة أو الدراسين الآخرين، وهذا التأثير الاجتماعي على الرغم من أنه قد يكون فعالًا في برنامج تعليم المسنين، إلّا أنه ليس بنفس درجة كفاءة الأسلوبين السابقين.
4-
التدريب على خفض الاسثتارة الزائدة الناجمة عن إدراك المسن لنفسه على أنه عاجز عن الأداء في المواقف الضاغطة التي يتطلبها التعلم، ويمكن أن تفيد في هذا الصدد أساليب التدريب على الاسترخاء بصورها المختلفة، وإذا نجح البرنامج في ذلك فإنه يزيل أحد المعوقات الخطيرة في تعليم المسنين.
ولا يزال تعليم المسنين في مراحله الأولى في الدول المتقدمة، أما في الدول النامية، ومنها بلادنا العربية والإسلامية، فلا يكاد يكون له وجود، ومن البرامج الهامة الآن ما يُسَمَّى في الولايات المتحدة مشروع "نزل المسنين "elderhoustel"، وهو عبادة عن سلسلة من البرامج تقدمها شبكة الكليات والجامعات، ويشترط للاشتراك فيها أن يكون الدارس قد بلغ الستين على الأقل، ويقدم فيها لهؤلاء مقررات قصيرة المدى قليلة التكلفة، ويذكر "Perlmutter & Hall، 1985" أن هذا المشروع بدأ في عام 1975 في ولاية واحدة "هي نيو هامبشاير" بعدد محدود من الدارسين لا يتجاوز 220 دراسًا، وأصبح في عام 1981 ممتدًا على نطاق الولايات الخمسين، وبلغ عدد الملتحقين به من المسنين أكثر من 30.000 دارسًا، وتهدف هذه المقررات في مجملها إلى تنمية
قدرات الدارسين وتعريضهم لأفكار جديدة.
وقد أجريت بعض الدراسات على المشاركين في هذا الموضوع، فلوحظ أن متوسط أعمار الدارسين فيه هو 68 سنة، وهم من المتقاعدين، ومعظمهم من ذوي المستوى التعليمي المرتفع، أو لديهم خبرة مهنية جيدة، ويتوافر لهم دخل كافٍ، كما لوحظ أن حوالي ثلثي الدراسين من النساء، ومن الطريف أن الذين لم يتخرجوا في الجامعة قبل الالتحاق في هذا المشروع "وعددهم لم يتجاوز 10% من مجموع الدراسين" كانوا أكثر المستفدين منه، وخاصة في النموّ العقلي والمعرفي، كما استفاد الدراسون الأكبر سنًّا "الذين امتد عمرهم بين 79، 86 سنة" أكثر من أقرانهم الأصغر سنًّا "أي الذين لا يزالون في الستينات من العمر".
وقد استطاع عدد كبير من الدراسين المسنين النجاح في الدراسة في هذا المشروع، وهذا في ذاته مؤشر على نجاحه، ومن مؤشرات نجاحه أيضًا أن 58% من الدراسين انضموا إلى برامج أخرى أكثر تقدمًا فيه، وكانت دوافع المسنين للعودة إلى الدراسة المنظمة الرغبة في تعلم الجديد والسعي للاندماج في خبرات جديدة.
ويبقى سؤال أخير حول تعليم المسنين عامة هو: هل من الأفضل بناء مشروعات خاصة بهم تعزلهم عن المتعلمين الآخرين الأصغر سنًّا، أم دمجهم في المسار التعليمي الرئيسي؟ هذ السؤال الهام لا تتوفر لنا إجابات حاسمة عليه بعد، وربما يفيدنا في الإجابة عليه الاسترشاد بتجارب بناء برامج ومشروعات تعليمية للفئات الخاصة "كالمعوقين والموهبين"، وكيف اتجهت في بدايتها إلى التمييز والعزل، ثم تحولت بعد ذلك إلى إدماجهم في المسار التعليم الرئيسي، وقد رأينا أن النجاح الذي أحرزته مشروعات مثل، نزل المسنين" قد تدفع أعدادًا من المتقدمين في السن للالتحاق بالبرنامج التعليمي المعتاد "من خلال نظم كالانتساب، أو التعليم من بعد، أو التعليم النظامي العادي"، وفي هذه الحالة يمكن أن نتوقع في المستقبل أن تضم فصول الدراسة ومدرجات الجامعة دارسين من مختلف الأعمار "من الشباب والراشدين والمسنين"، وعندئذٍ سوف يستفيد الجميع: الصغار والكبار جميعًا؛ فخبرة المتقدمين في السن في الحياة والعمل سوف تجعل المواد المجردة التي تعرض في داخل حجرة الدارسة لها معنًى أكبر لدى الصغار، كما أن اتصال الكبار بالصغار سوف يعينهم "أي: الكبار" على إدراك وفهم التغيرات السريعة التي تطرأ على الثقافة التي يعيشون فيها جميعًا، نهايك أن ذلك قد يؤدي إلى زوال ما يسمى فجوة الأجيال، والتي تتخذ صورة أعنف هي صراع الأجيال.