الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
9-
الحكمة هي التكامل العضوي بين الطرق النسبية والجدلية للتفكير والوجدان والتأمل، وتدل على منظورٍ حول الحقيقة ينمو من خلال العلاقات بين الأشخاص "Kramer".
10-
الحكمة هي التكامل بين الوجدان والنزوع والمعرفة في القدرات الإنسانية استجابةً لمهام الحياة ومشكلاتها، وهي توازن بين الأقطاب المتضادة، بين التوتر الحاد والتجرد، بين الفعل والسكون، بين المعرفة والشك، وتميل الحكمة إلى الزيادة مع النموّ، وبالتالي مع التقدم في العمر، إلّا أنها ليست بالضرورة من خصائص المسنين "Birren & Fisher".
ويبدو لنا أن تحليل هذه الأطر النظرية وغيرها مما بدأ يطرح على الساحة السيكولوجية في الفترة الأخيرة يؤكد المنظور الذي يؤكده فؤاد أبو حطب من أن الحكمة هي قدرة القدرات العقلية، وهي نقطة التوازن الذهبي بين الذكاء الموضوعي والذكاء الاجتماعي والذكاء الشخصي "الأنواع الثلاثة من الذكاء التي اقترحها في نموذجه"، وهي نضج وجداني واجتماعي ومعرفي معًا، ويتفق ذلك كله مع تحليلنا اللغوي في الفصل السابق لمعنى الشيخوخة، كما ورد في قوله سبحانه وتعالى:
{ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَة} [الروم: 54] .
التقاعد
مفهوم التقاعد
…
التقاعد:
يُعَدُّ التقاعد retiement نقطة تحول هامة في حياة الإنسان؛ لأنه كما بينا من قبل هو المؤشر الاجتماعي الرئيسي على تحول الإنسان من طور بلوغ الأشد "منتصف العمر" إلى مرحلة الشيخوخة، تمامًا كما كان العمل هو المؤشر الاجتماعي الحاسم في انتقال الإنسان إلى مرحلة الرشد، وكلٌّ من العمل والتقاعد كمؤشرين على التحول في نمو الإنسان يدلان على الأهمية البالغة للمحكات الاجتماعية في تحديد كلٍّ من الرشد والشيخوخة، ربما على نحوٍ يفوق بكثير العوامل البيولوجية.
مفهوم التقاعد:
يمكن أن نعرِّفَ التقاعد بأنه عملية اجتماعية تتضمن تخلي الفرد "اختياريًّا أو إجباريًّا" عن عملٍ ظلَّ يقوم به معظم حياته المهنية، وبالتالي انسحابه من القوى العاملة في المجتمع، وتحوله إلى الاعتماد، جزئيًّا
على الأقل، على نظامٍ معين للكفالة المادية هو نظام التأمين الاجتماعي؛ حيث يحل المعاش pension محل الأجر wage.
وهذا التعريف الذي نقترحه لا يعني أن التقاعد يعني التعطل أو البطالة الكاملة، صحيح أنه -من منظور دورة الحياة في النمو- هو نهاية دورة الحياة المهنية للإنسان، إلّا أننا نجد بعض المسنين -بعد تقاعدهم من عملهم الأصلي- يقومون بعملٍ بعض الوقت، وقد يرجع ذلك أحيانًا إلى أسباب مالية "حيث المعاش أقل بكثير من الأجر الذي ظلَّ الشخص يحصل عليه لسنوات طويلة"، إلّا أنه في معظم الأحيان يرجع إلى رغبة المسن في الشعور بالرضا لأنه يقوم "بعمل ما"، والعمل قيمة أساسية، ناهيك عن أنه مكوّن أساسي في هوية الإنسان.
ومن حقائق التاريخ الإنساني أن التقاعد مفهوم حديث خلقه التقدم في التصنيع، ومن الطريف أنه عند بداية الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر لم يكن يصل إلى سن التقاعد إلّا أقلية من السكان، ولهذا كان العامل العادي يظل في عمله حتى وفاته، وبالطبع كان ذلك هو التقليد المستقرّ عبر العصور السابقة؛ ففي الحرف التقليدية والمهن الزراعية والأعمال الحكومية التي كانت سائدةً قبل عصر التصنيع، لم يكن هنا تقاعد بالمعنى الذي نعرفه اليوم، فالمرء كان يظل يعمل طالما أنه حيّ وقادر على العمل، بل إنه في مثل تلك المجتمعات السابقة على التصنيع كان هناك دائمًا عمل كل فرد مهما بلغ عمره، طفلًا كان أو راشدًا أو شيخًا طاعنًا في السن.
إلّا أنه مع تطور حركة التصنيع ظهرت الحاجة إلى التقاعد، ويذكر "McConnell 1983" بضعة أسباب لذلك منها:
1-
مع تراكم الإنتاج في أوروبا ابتداء من عام 1870 تضاءلت الحاجة إلى القوى العاملة التي تزوّد المجتمع بحاجاته من السلع والخدمات، ولذلك قلَّ الطلب على القوى العاملة، وكان ذلك أكثر وضوحًا في مجال الزراعة؛ حيث انخفضت فرص العمل إلى 50%، ثم إلى 38% عام 1900، وإلى 4% عام 1975.
2-
التطور التكنولوجي الذي لازم الثورة الصناعية منذ ظهورها، والذي يتسم في عصرنا الحاضر بما يُسَمَّى الانفجار التكنولوجي، أدّى إلى تغييرٍ في طبيعة كثير من المهن والأعمال، وتطلب حاجة مستمرة للتدريب لمواجهة هذه التغيرات. وبالطبع، فإن مهارات العمال المتقدمين في السن ومعارفهم لا تكون ملائمة لذلك.
3-
التعقد في نظم الإدارة الصناعية والحكومية الحديثة، وغلبة الطابع البيروقراطي على كثيرٍ منها أدى إلى سيطرة القواعد والنظم الجامدة التي تركز على الإنتاجية ومصلحة العمل، والتي لا تضع في الاعتبار -في الأغلب- الجوانب الإنسانية، صحيح أن هذه النظم ساعدت على رفع إنتاجية المؤسسات إلّا أنها أغفلت الاهتمام بالإنسان.
4-
ظهور نظام التأمينات الاجتماعية والمعاشات هيأ أساسًا اقتصاديًّا وماديًّا لتقاعد العمال المتقدمين في السن، وفي ضوئه تحدد سن الستين أو الخامسة والستين كعمرٍ مناسب للتخلي عن العمل والانسحاب من القوى العاملة.
ويبدو لنا أن اختيار سن 60 أو 65 هو محض قرار اعتباطي، وليس له علاقة مباشرة بعملية التقدم في السن أو الشيخوخة، إلّا أنه مع شيوع استخدامه في معظم المجتمعات المعاصرة، وطول استخدامه لأكثر من نصف قرن حتى الآن على أن المحك الذي يحدد أحقية المواطن في المعاش أدّى تدريجيًّا إلى قبوله على أنه "الباب الرسمي" لدخول العمر الثالث للإنسان، ومن الطريف أن نشير هنا إلى أن أول تحديد لسن التقاعد في العصر الحديث حدده القانون الألماني عام 1891 بسن السبعين، وفي عام 1900 كان حوالي 70% من الأمريكين الذكور الذين تجاوزت أعمارهم 65 عامًا كانوا لا يزالون يعملون إلّا أن القانون في المجتمعات الغربية حدده منذ عام 1935 حدده بسن 65 عامًا، ونتيجة لذلك تناقصت نسبة العاملين بعد هذا السن، فبلغت في الولايات المتحدة في أعوام 1960، 1975، 1986 على التوالي 35%، 22%، 16% "Fowles، 1987"، على الرغم من صدور قانون في عام 1987 بمد سن التقاعد إلى سن السبعين، ومع ذلك فإن بعض الباحثين يرون أنه لو حسبت العلاقة بين سن المعاش ومتوسط طول العمر الآن "كما حدث في عام 1935 حيث تحدد في ضوئها سن المعاش الحالي في الولايات المتحدة وهو 65 عامًا" فإن الأصح في رأيهم أن يعمل الأمريكي اليوم حتى يبلغ سن الثمانين.
وفي مصر "ومعظم الأقطار العربية والإسلامية" فإن سن التقاعد الرسمي هو60 عامًا، ويستثنى من ذلك بعض الفئات، فقد يزيد عن ذلك بالنسبة لبعض الفئات كخريجي المدارس والمعاهد والكليات الأزهرية، وبعض الفئات المهنية؛ حيث يبلغ سن التقاعد عندهم 65 عامًا، وقد يقل عن ذلك بالنسبة لفئات أخرى كضابط القوات المسلحة؛ حيث يتقاعد بعضهم في الأربعينات أو الخمسينات من
العمل أو الرغبة فيه؛ فتحديد أيّ سن للتقاعد -يزيد أو ينقص من 60 عامًا- هو اختراع يسمح للحكومة وأصحاب الأعمال أن يتحللوا من مسئولياتهم إزاء المسنين ذوي الأجور العالية نسبيًّا، وبهذا تتاح الفرص للشباب بدخول ميدان العمل والتقدم في سلمه الهرمي.
التمييز المهني على أساس العمر:
يعتقد معظم الناس -ومنهم كثير من المسنين- أن الإنسان بعد بلوغه سن معين يصبح أقل كفاءة، وأصعب تكيفًا، وأقل يقظة ومرونة، وأكثر بطأً، وأضعف صحة، وهي جميعًا من محددات نقص الكفاية المهنية. ومن الطريف أنه على الرغم من هذه الصورة المتشائمة لدى المسنين بالنسبة لقدرتهم على العمل، يعبر الشباب عن صورة مختلفة لهم بالنسبة للسمات العامة؛ فالمسنون -عند الشباب- أكثر حكمة وأكثر رحمة ومودة "Perlmutter & Hall، 1985". وبالطبع فإن الصورة السلبية عن قدرات المسنين على العمل هي الأكثر شيوعًا، وخاصةً لدى المسئولين عن القوى العاملة في المجتمع؛ فعند الموازنة بين الصغار والكبار في السن يعين الصغار، ويعزل العامل المتقدم في السن إذا أصبحت مهاراته لا تتواءم مع التقدم التكنولوجي، ويبقى الأصغر سنًّا لسهولة إعادة تدريبه، والمسن هو أول من يترك العمل وآخر من يُعَيِّنُ، وحين يجد المسن عملًا آخر بعد ترك عمله الأصلي فعادةً ما يكون أدنى مكانةً وأقل أجرًا، والمسنون أيضًا يتم تجاوزهم عند الترقية، وهم أقل الفئات فيما يتاح لهم من فرص التعليم وإعادة التدريب لرفع مهاراتهم المهنية، بل إن الدراسات المقارنة بين أجور المسنين وغيرهم، وجدت أنه بعد تصحيح أثر التعليم والتدريب المهني والخبرة والعمل والمستوى الصحي، فإن أجور المسنين أكثر انخفاضًا، فبسبب أجورهم المرتفعة نسبيًّا لا تزيد أجورهم بنفس معدل زيادة أجور ومكأفات من هم أصغر سنًّا، وخاصةً حين تتحدد حدود قصوى لهذه الزيادات والمكأفات.
هل هناك سبب واضح لهذا التمييز المهني على أساس العمر؟
بالطبع إذا كان العمال الأكبر سنًّا أقل إنتاجية ممن هم أصغر سنًّا، فإن عمل المسنين يصبح مكلفًا دون شك، إلّا أنه لا تتوافر بحوث تثبت ذلك، وإنما العكس هو الصحيح، فأغلب الدراسات التي أجريت حول الإنتاجية -سواء قيست بالمخرجات أو المبيعات- تؤكد عدم وجود فروق بين المجموعتين، وإن وجد بعض الهبوط في إنتاجية المسنين فهو هبوط طفيف قد لا يعتمد به Foner" "Schabwab 1981" بل إن بعض هذه البحوث تثبت أن إنتاجية العمال المسنين
أعلى من إنتاجية العمال الأصغر سنًّا، وتزداد هذه الفروق حينما تصحح في ضوء متغير الخبرة السابقة بالعمل، وبالطبع فإن جميع هذه الدراسات من النوع المستعرض، ونحن في حاجة إلى بحوث طولية للوصول إلى نتائج حاسمة حول هذه المسألة، وكل ما نستطيع قوله في ضوء الأدلة المتاحة حتى الآن، أنه في المهن التي درسها الباحثون "الأعمال الكتابية والإنتاج الصناعي" لا توجد فروق بين المتقدمين في السن وغيرهم في كم الإنتاج وكيفه.
ومع ذلك يبدو أحيانًا أن المسنين يتفوقون على الصغار في بعض جوانب العمل، إنهم "أي: المسنون" يعملون بمعدل أبطأ، وبالتالي فإن أخطاءهم أقل، وهم أكثر التزامًا بالعمل في ضوء مؤشر الغياب، أضف إلى ذلك أن الاعتقاد الشائع أن صغار العاملين أكثر مرونة وتحررًا من المتقدمين في السن قد يكون غير صحيح، والأصح القول: إن الصغار بحكم أن مستقبلهم المهني أكثر اتساعًا قد تتاح لهم فرص أكبر للتعديل والتطوير، بينما المسنون -وهم يقتربون من التقاعد- لا يخاطرون كثيرًا بسبب ضيق الوقت.
وهناك جانب آخر تجب الإشارة إليه، وهو أن مهارات المسنين المهنية قد تتقادم بسبب تركيزهم معظم حياتهم على أعمال "منقرضة"، وبالطبع حين يحدث ذلك لصغار العاملين فإنهم يتغلبون عليه بالتدريب، أما المسنون فهم أقل حظًّا في ذلك، والسبب في ذلك أن الأجهزة الإدارية تجد في تدريب المسنين تكلفة بلا عائد، على عكس الحال مع تدريب صغار العاملين، أضف إلى ذلك أن خبرة المسن ربما تكون قد وصلت به إلى الحد الأقصى للأجور، وقد يشعر الجهاز الإداري أن تدريبه لا يفيده، وهو شعور غير صحيح؛ لأن الفائدة من التدريب ليست اقتصادية فحسب، وإنما للتدريب فائدته السيكولوجية أيضًا، والتي تتمثل في شعور المسن أنه لا يزال قادرًا على التعلّم، وهو محك ينأى به عن التحول السريع إلى طور أرذل العمر.