الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مهام النمو:
ظهرت فكرة مهام النمو Developmental tasks كمفهوم وصفي لنمو الإنسان خلال الثلاثينات والأربعينات من القرن العشرين، وذلك خلال حركة التربية التقدمية التي سيطرت على الفكر التربوي في الولايات المتحدة في ذلك الوقت، وقد صيغ المفهوم بشكل منظم ودقيق على يد العالم الأمريكي روبرت ج. هارفيجهرست "Harvighutst، 1953، 1972"، وهو المفهوم الذي شاع في الكتابات المبكرة باللغة العربية باسم "مطالب النمو"، وأشهر من وظَّفَه واستخدمه الرائد المصري الراحل أحمد زكي صالح.
ويشبه اتجاه مهام النمو اتجاه معايير النمو لجيزل في أنه يسعى إلى تعيين الخطوات "النموذجية" للنمو في فترات العمر المختلفة في كثير من الجوانب الجسمية والعقلية والاجتماعية والانفعالية، إلّا أنه يختلف عنه في أن أصحابه لم يقتصروا على استخدام وسائل القياس والاختبار والملاحظة لأطفالٍ يتم اختيارهم كعينات ممثلة، وإنما اعتمدوا أيضًا في وصف مراحل النمو على البيانات التي توافرت من مصادر مختلفة، بعضها أمبريقي يشبه ما توافر لجيزل، إلّا أن معظمها من نتائج البحوث الأنثروبولوجية والاجتماعية، ومن ملاحظات المعلمين للأطفال في المدرسة، ومن أفكار الفهم العام والفولكلور الثقافي السائد عن تنشئة الطفل.
وهناك وجه خلاف آخر بين مفهومي مهام النمو ومعاييره، يتمثل في أن جيزل كان مهتمًّا بوصف ما يكون عليه الأطفال في المستويات العمرية المختلفة، بينما اهتم أصحاب اتجاه مهام النمو بتأمل ما يحاول الأطفال إنجازه خلال كل مرحلة من مراحل العمر المتتابعة. وقد ابتكر المصطلح ليعكس اعتقاد أصحاب هذا الاتجاه؛ فعندهم أن النمو هو حثّ الطفل على أداء المهام التي يجب عليه أن ينجزها في كل مرحلة جديدة من العمر، وهذه المهام عبارة عن المهارات وأنماط السلوك التي تحددها الثقافة والمجتمع اللذين يعيش فيهما المرء وتعكس حاجتهما إلى الاستمرار والبقاء، والتي يتوقع لكل فرد القيام بها في كل مرحلة من عمره، وعليه أن يكتسبها حتى يتحقق له التوافق الشخصي والاجتماعي فيها، كما يتحقق له الانتقال إلى مهام جديدة في مرحلة نمو تالية، ويؤدي الفشل في إنجازها إلى سوء التوافق مع المرحلة العمرية التي هو فيها من ناحية، وإلى الصعوبة في التعامل مع المهام التالية من ناحية أخرى.
وتنشأ بعض المهام عن النضج الجسمي، مثل: تعلم المشيء، وينشأ بعضها الآخر عن الضغوط الثقافية للمجتمع، مثل: تعلم القراءة، وينشأ بعضها الثالث عن الميول والاتجاهات والقيم والمطامح والتطلعات الشخصية للفرد، مثل: اختيار مهنة والإعداد
لها، وفي معظم الحالات تنشأ مهام النمو عن هذه المصادر الثلاثة جميعًا، وبالطبع فإن هذا الترتيب لمصادر المهام يعكس الوعي بأهمية الأساس البيولوجي للنمو، إلّا أن هذا وحده لا يكفي، فجميع المكونات المختلفة للمجتمع؛ كالأسرة والمدرسة والإعلام والاقتصاد والحكومة، تشارك بدرجات متفاوتة في تعلم هذه المهام، وبعض هذه المؤسسات تقتصر مسوليتها على فترة زمنية محددة من مدى الحياة، بينما يمتد أثر البعض الآخر طوال حياة الإنسان "كالأسرة"، وتلعب مؤسسات أخرى أدوارًا غير مباشرة "كالاقتصاد" في تحديد فرص العمل مثلًا، بينما يكون دور مؤسسات أخرى مباشرًا، ومن ذلك الحكومة حين تسن تشريعات معينة حول مهام النمو "قوانين الطفولة مثلًا".
ويوصف السن الذي تحدده ثقافة المجتمع وتتوقع فيه أن يتقن المرء مهمة معينة بأنه "سن حرج" critical لهذه المهمة؛ ولأن معظم مهام النمو "ثقافية" في طبيعتها، فإننا نتوقف لها أن تتغير تبعًا لتغير القيم الثقافية السائدة في كل مجتمع من المجتمعات، كما أنها تختلف في المجتمع الواحد من عصر إلى آخر؛ فبعض المهام النمائية التي تسود في المجتمع في عصرٍ معينٍ قد يتجاوزها عصر جديد، وتحل محلها مهام جديدة، أو قد تتغير أهميتها النسبية، ولعل أشهر الأمثلة الحديثة ما حدث في الولايات المتحدة في منتصف الخمسينيات حين أطلق الاتحاد السوفيتي أول قمر صناعي في التاريخ "سبوتنيك الأول"، فقد أصبحت مهام تعلم الرياضيات والعلوم على رأس ما يجب على الطفل والمراهق أن يتعلمه في المدرسة الأمريكية.
ويرى هافيجهرست أن مهام النمو لها أهميتها من ناحيتين: فهي أولًا: تحدد التوقعات الأساسية التي يرغب المجتمع أن ينجزها كل عضو فيه، وثانيًا -وقد يكون الأهم: تحديد الخدمات التي يجب على المجتمع أن يوفرها لأعضائه في مختلف الأعمار، فإذا كان المجتمع يتوقع من أطفاله في سن السادسة أن يبدأوا في تعلم المهارات الأساسية في القراءة والكتابة والحساب، فمن واجبه أن يوفر لهم المدارس التي تحقق هذه المهمة، وإذا كان يتوقع أن الناس في مرحلة الرشد المبكر أن يبدأوا حياتهم الزوجية وتكوين الأسرة، فعليه أن يوفر لهم الخدمات الاجتماعية والاقتصادية التي تيسر هذه المهمة، وهكذا يحدد لنا اتجاه مهام النمو نظامًا كاملًا للخدمات التي يجب أن تتوفر في كل رحلة عمرية من حياة الإنسان.
وقد أعد هافيجهرست أكثر قوائم النمو شمولًا، إلّا أن قائمته مشتقة بالطبع
من الثقافة الأمريكية التي ينتمي إليها، ونذكر أمثلة منها في الجدول "5-4" على سبيل التوضيح، وسوف نعرضها بالتفصيل في مواضعها من مراحل النمو المختلفة، والمرجو من الباحثين العرب والمسلمين في مجال علم نفس النمو أن يبذلوا بعض الجهد في دراسة مهام النمو في مختلف المراحل العمرية كما تحددها ثقافتنا، وعلى كل حالٍ سنحاول في هذا الكتاب عرض اجتهادنا في هذا الصدد، راجين أن يكون في ذلك بداية لجهد منظم في هذا الميدان الهام.
جدول "5-4" أمثلة من مهام النمو عتند هافجيهرست
ويعتبر هافيجهرست "Havighurst، 1953:26" أن قوائم المهام التي أعدها هي نتاج "القيم الديمقراطية في المجتمع الأمريكي كما تدركها الطبقة المتوسطة، مع بعض المحاولة للإشارة إلى التنوع الذي يظهر عند كلٍّ من الطبقتين الدنيا والعليا في الولايات المتحدة الأمريكية".
ولكي نحدد مهام النمو في المجتمعات العربية والإسلامية علينا أن نضع في الاعتبار المصادر الثلاثة الآتية:
1-
البيئة البيولوجية للإنسان، ومن أمثلة ذلك تعلم التحكم في الإخراج، أو تعلم المشي، أو تعلم تقبل التغيرات الجسمية في المراهقة، إلخ، وهذا النوع من المهام مشترك في جميع المجتمعات الإنسانية.
2-
بنية المجتمع والثقافة التي يعيش فيها الإنسان: ونجد المهام في هذه الحالة قد توجد بصور مختلفة في المجتمعات المختلفة، أو قد توجد في بعض الثقافات دون غيرها، ومن ذلك أن مهمة انتقاء إحدى المهن والإعداد لها، تعد مهمة معقدة في المجتمعات الصناعية التي تتسم بالتخصص الدقيق وتقسيم العمل، بينما هي مهمة أبسط في المجتمعات غير الصناعية، ويمكن إحرازها فيها في سن مبكرة إذا قورنت بالمجتمعات الصناعية. كما أن مهمة تعلم القراءة والكتابة تركز عليها المجتمعات المتعلمة، بينما قد لا تكون لها نفس القيمة في المجتمعات الأمية، بل إن مفهوم الأمية قد يختلف من مجتمعٍ لآخر، فهي أحيانًا أمية كتابية، وأحيانًا أخرى أمية وظيفية، وأحيانًا ثالثة أمية كمبيوترية، كما هو الحال في الوقت الحاضر.
3-
القيم والاتجاهات الشخصية للأفراد: ومن أمثلة ذلك تنمية القيم الدينية والأخلاقية، فهذه المهمة تختلف باختلاف معتقدات الفرد بالطبع.
وفي تحديد مهمة النمو يرى هافيجهرست أن ذلك يعتمد على طريقة الباحث في تناولها، فمهمة تعلم الحركة المستقلة مثلًا، يمكن أن يدركها أحد الباحثين على أنها مهمة معقدة واحدة مؤلفة من ستة أنشطة فرعية هي الحبو والمشي والهرولة والجري والوثب والقفز، بينما قد نجد باحثًا آخر يدرك هذه الأنشطة على أنها ست مهام صغيرة منفصلة.
ويميز هافيجهرست بين مهام المدى القصير ومهام المدى الطويل، والنوع الأول هو تلك المهام التي تنشأ في وقت معين ولا تتجاوزه، أما النوع الثاني فهو تلك المهام التي تعد مستمرة، والتي تحتاج من المرء عدة سنوات لإنجازها، ومن أمثلة النوع الأول تعلم المشي والكلام والإخراج، وانتقاء الدراسة أو المهنة، ومن أمثل النوع الثاني تعلم المشاركة في المواطنة والمسئولية الاجتماعية وتعلم الدور الملائم للجنس، والنوع الأخير يتألف بالطبع من مهام فرعية يجب أن تتم في أوقات معينة من مراحل نمو الطفل والمراهق والراشد.