المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌محكات الرشد: ينبه القرآن الكريم إلى أن الحكم على الإنسان بالرشد - نمو الإنسان من مرحلة الجنين إلى مرحلة المسنين

[آمال صادق]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الباب الأول: الأسس العامة

- ‌الفصل الأول: طبيعة النمو الإنساني

- ‌مدخل

- ‌موضوع علم نفس النمو:

- ‌أهداف البحث في علم نفس النمو:

- ‌خصائص النمو الإنساني

- ‌النمو عملية تغير

- ‌ النمو عملية منتظمة:

- ‌ النمو عملية كلية:

- ‌ النمو عملية فردية:

- ‌ النمو عملية فارقة:

- ‌ النمو عملية مستمرة:

- ‌الفصل الثاني: أصول علم نفس النمو في ثقافة الغرب

- ‌أولاً: المنظور اليوناني للنمو الإنساني

- ‌ثانيًا: النمو الإنساني في العصور ر الوسطى في أوربا

- ‌ثالثًا: إحياء النزعة الإنسانية

- ‌رابعًا: النمو الإنساني في عصر التنوير في أوربا

- ‌خامسًا: المقدمات الاجتماعية والثقافية لدراسة النمو الإنساني

- ‌سادسًا: المقدمات العلمية لدراسة النمو الإنساني

- ‌سابعًا: ظهور علم نفس النمو الحديث

- ‌الفصل الثالث: نحو وجهة إسلامية لعلم نفس النمو

- ‌مدخل

- ‌أولًا: النمو الإنساني في القرآن الكريم:

- ‌ثانيًا: النمو الإنساني في السنة النبوية الشريفة

- ‌ثالثًا: النمو الإنساني عند الصحابة:

- ‌رابعًا: النمو الإنساني في الفقه الإسلامي

- ‌خامسًا: النمو في تراث علماء المسلمين وفلاسفتهم

- ‌الفصل الرابع: مناهج البحث في النمو الإنساني

- ‌مقدمة في طبيعة المنهج العلمي في البحث:

- ‌المنهج العلمي في البحث والتصور الإسلامي للمعرفة:

- ‌الملاحظة الطبيعية:

- ‌المنهج التجريبي:

- ‌المنهج شبه التجريبي

- ‌المنهج الارتباطي:

- ‌المنهج المقارن:

- ‌اختبار منهج البحث الملائم:

- ‌الفصل الخامس: النماذج النظرية للنمو الإنساني

- ‌الاتجاهات النظرية الوصفية

- ‌معايير النمو

- ‌مهام النمو:

- ‌الاتجاه نحو النماذج النظرية

- ‌مدخل

- ‌نموذج بياجيه في النمو المعرفي:

- ‌نموذج إريكسون في النمو الوجداني:

- ‌نموذج كولبرج في النمو الخلقلي الإجتماعي

- ‌تعليق عام على النماذج النظرية:

- ‌الباب الثاني: المرحلة الأولى لنمو الإنسان - أطوار الجنين

- ‌مدخل

- ‌الفصل السادس: تكوين النطفة

- ‌التكوين الأساسي للخلية

- ‌النطفة

- ‌مدخل

- ‌النطفة الأمشاج:

- ‌ميكانيزمات الوراثة

- ‌مدخل

- ‌كيف تنتقل الخصائص الوراثية:

- ‌صبغيات (كروموزمات) الجنس

- ‌وراثة الخصائص المرتبطة بالجنس:

- ‌الفصل السابع: أطوار نمو الجنين

- ‌أولًا: طور النطفة الأمشاج

- ‌ثانيًا: طور العلقة

- ‌ثالثًا: طور المضغة

- ‌رابعًا: طور تكوين العظام والعضلات "اللحم

- ‌خامسًا: طور التسوية

- ‌سادسًا: تعلم الأجنة

- ‌الفصل الثامن: رعاية الجنين والأم الحامل

- ‌العوامل المؤثرة في النمو خلال طور ماقبل الولادة

- ‌خصائص الأم

- ‌ التغذية:

- ‌ الأمراض:

- ‌ العقاقير والمخدرات:

- ‌ التدخين:

- ‌ مخاطر البيئة:

- ‌ آثار الوراثة "عامل الريصص

- ‌الباب الثالث: المرحلة الأولى لنمو الإنسان - أطوار الطفولة

- ‌مدخل

- ‌الفصل التاسع: طور الوليد (من الولادة حتى نهاية الأسبوع الثاني)

- ‌ولادة الطفل

- ‌مدخل

- ‌خبرة الولادة لدى الوليد:

- ‌الاتجاهات الوالدية إزاء الولادة:

- ‌اتجاهات الإخوة إزاء الوليد:

- ‌الاتجاهات نحو جنس الطفل:

- ‌الاتجاهات نحو التوائم:

- ‌خصائص نمو الوليد:

- ‌أحكام الشريعة الإسلامية بالنسبة لطور الوليد:

- ‌الفصل العاشر: طور الرضيع (من الولادة حتى نهاية العام الثاني)

- ‌مدخل

- ‌النمو الجسمي والحركي:

- ‌النمو الحسي والإدراكي:

- ‌نموّ الكلام:

- ‌النمو العقلي المعرفي:

- ‌النمو الانفعالي:

- ‌النمو الاجتماعي:

- ‌نمو الشخصية:

- ‌بعض مشكلات طور الرضاعة:

- ‌الفصل الحادي عشر: طور الحضانة (من سن عامين إلى سن التميز)

- ‌النمو الجسمي والفسيولوجي

- ‌النموّ الحسي والإدراكي:

- ‌النموّ الحركي:

- ‌صحة الطفل ما قبل المدرسة:

- ‌النمو اللغوي:

- ‌النموّ العقلي المعرفي:

- ‌النمو الانفعالي والوجداني:

- ‌النموّ الاجتماعي:

- ‌اللعب في مرحلة الطفولة المبكرة:

- ‌النمو الخلقي:

- ‌نمو الشخصية:

- ‌الخبرات التعليمية في طور الحضانة:

- ‌الفصل الثاني عشر طور التمييز

- ‌النمو الجسمي والفسيولوجي

- ‌النمو الحركي:

- ‌أمراض طفل المدرسة:

- ‌النموّ اللغوي:

- ‌النمو العقلي المعرفي:

- ‌النمو الاجتماعي:

- ‌اللعب في مرحلة الطفولة المتأخرة:

- ‌النمو الانفعالي والوجداني:

- ‌النموّ الخلقي:

- ‌نموّ الشخصية:

- ‌دور المدرسة في طور التمييز:

- ‌الباب الرابع: المرحلة الأولى لنمو الإنسان أطوار المراهقة والشباب

- ‌مدخل

- ‌الفصل الثالث عشر: طور بلوغ الحلم "المراهقة

- ‌البلوغ الجنسي:

- ‌النمو الجسمي:

- ‌النمو العقلي المعرفي:

- ‌النمو الانفعالي:

- ‌النمو الاجتماعي:

- ‌النمو الخلقي والاهتمامات الدينية:

- ‌نمو الشخصية في مرحلة المراهقة المبكرة:

- ‌الفصل الرابع عشر: طور بلوغ السعي"الشباب

- ‌طبيعة طور بلوغ السعي (الشباب)

- ‌حدود طور بلوغ السعي "الشباب

- ‌التغيرات الجسمية في طور السعي:

- ‌النموّ العقلي المعرفي:

- ‌السلوك الانفعالي والوجداني ومشكلات الشباب:

- ‌السلوك الاجتماعي في طور السعي "الشباب

- ‌النمو الخلقي والاتجاهات الدينية في طور السعي:

- ‌نمو الشخصية في طور السعي ومسألة الهوية:

- ‌خاتمة المرحلة الأولى من حياة الأنسان:

- ‌الباب الخامس: المرحلة الثانية من الأنسان"قوة الرشد

- ‌الفصل الخامس عشر: حدود الرشد وأهمية مرحلة القوة في حياة الأنسان

- ‌مدخل

- ‌محكات الرشد:

- ‌الحدود العملية للرشد:

- ‌نشاة ونمو الاهتمام بسيكولوجية الراشدين:

- ‌الفصل السادس عشر: أطوار بلوغ الرشد "طور الرشد المبكر

- ‌الخصائص العامة:

- ‌النمو الجسمي:

- ‌النمو العقلي المعرفي:

- ‌النمو الخلقي:

- ‌نمو الشخصية والتوافق ومسألة الهوية:

- ‌الزواج والحياة الأسرية:

- ‌مفهوم الأسرة:

- ‌الزواج:

- ‌الطلاق:

- ‌النمو المهني:

- ‌عمالة الصغار وبطالة الكبار:

- ‌الفصل السابع عشر: طور بلوغ الرشد "وسط العمر

- ‌مدخل

- ‌الخصائص العامة:

- ‌النمو الجسمي

- ‌مدخل

- ‌الصحة والمرض:

- ‌النموّ الجنسي:

- ‌النمو العقلي المعرفي:

- ‌إبداع الراشدين:

- ‌نمو الشخصية

- ‌مدخل

- ‌الميول المهنية واللامهنية:

- ‌التوافق:

- ‌نمو الحياة الأسرية

- ‌مدخل

- ‌التوافق الزواجي:

- ‌النمو المهني:

- ‌الفصل الثامن عشر: التعلم مدى الحياة تعلم الراشدين"الكبار

- ‌تعلم الراشدين"الكبار" والمفاهيم المرتبطة

- ‌دافع التعلم عند الراشدين

- ‌تصنيف دوافع التعلم عند الراشدين

- ‌مثبطات التعلم عند الراشدين"التسرب

- ‌مشكلات المتعلمين الراشدين

- ‌القلق

- ‌ أوهام العمر:

- ‌ المستوى الاقتصادي والاجتماعي:

- ‌شروط التعلم عند الراشدين:

- ‌خاتمة حول العمر الثاني للإنسان:

- ‌الباب السادس: المرحلة الثالثة في حياة الإنسان"ضعف المسنين

- ‌الفصل التاسع عشر: حدود المرحلة الثالثة في حياة الإنسان

- ‌الشيخوخة في اللغة والثقافة:

- ‌حدود الشيخوخة

- ‌المحك العمري

- ‌نحو محكات أخرى للشيخوخة:

- ‌تاريخ البحث في ميدان المسنين:

- ‌موضوع سيكولوجية المسنين:

- ‌نظريات الشيخوخة والتقدم في السن

- ‌أولاً: النظريات البيولوجية

- ‌ثانيًا: النظريات النفسية الاجتماعية:

- ‌الفصل العشرون: طور الشيخوخة

- ‌التغيرات الجسمية

- ‌التغيرات الفسيولوجية

- ‌مدخل

- ‌الصحة والمرض في طور الشيخوخة:

- ‌التغير في الوظائف الحسية:

- ‌التغير في النشاط الحركي:

- ‌التغير العقلي المعرفي

- ‌مدخل

- ‌أولًا: التدهور في القدرات العقلية

- ‌ثانيًا: بنية القدرات العقلية:

- ‌ثالثًا: نسبة الكفاءة ونسبة التدهور

- ‌حكمة الشيوخ

- ‌مدخل

- ‌الحكمة: قدرة القدرات الإنسانية

- ‌أمثلة من البحوث النفسية في الحكمة:

- ‌التقاعد

- ‌مفهوم التقاعد

- ‌قرار التقاعد:

- ‌عملية التقاعد:

- ‌التكيف للتقاعد:

- ‌الحياة الأسرية:

- ‌التوافق والشخصية في طور الشيخوخة:

- ‌عوامل التوافق في الشيخوخة وأنماطه:

- ‌ميول المسنين:

- ‌التغيرات في السلوك الاجتماعي:

- ‌الفصل الحادي والعشرون: طور أرذل العمر

- ‌مدخل

- ‌محكات بلوغ أرذل العمر

- ‌المحك الإسلامي

- ‌المحك المرضي:

- ‌ محك سوء التوافق:

- ‌التغيرات الجوهرية في طور أرذل العمر:

- ‌تصنيف الاضطرابات السلوكية

- ‌مدخل

- ‌أولًا: الاضطرابات الوظيفية

- ‌ثانيًا: الاضطرابات العضوية

- ‌الفصل الثاني والعشرون: رعاية المسنين

- ‌مدخل

- ‌ تعليم المسنين:

- ‌التدخل العلاجي

- ‌مدخل

- ‌خطوات التدخل العلاجي:

- ‌أساليب التدخل العلاجي النفسي:

- ‌الرعاية الشاملة للمسنين:

- ‌خاتمة الكتاب:

- ‌مراجع الكتاب:

- ‌محتويات الكتاب:

الفصل: ‌ ‌محكات الرشد: ينبه القرآن الكريم إلى أن الحكم على الإنسان بالرشد

‌محكات الرشد:

ينبه القرآن الكريم إلى أن الحكم على الإنسان بالرشد أمرٌ يحتاج إلى التعرف على علاماته "وإيناس" إشاراته1، وهو أمر يحتاج أيضًا إلى خبرة العلم ونتائجه، ومنه علم النفس، يقول الله تعالى:{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] .

وهكذا يفتح القرآن الكريم للإنسان باب الاجتهاد والبحث في المحكات التي يجب أن يعتمد عليها في الحكم على المراهق أو الشاب بأنه بلغ الرشد، ونعرض فيما يلي المحكات المختلفة التي استُخْدِمَتْ في مختلف العصور للوصول إلى هذا الحكم.

1-

المحك الجنسي:

يشيع في الثقافات البدائية -ولدى عدد من الشعوب المتحضرة حتى وقتنا الحاضر- تعيين الرشد بحدود بيولوجية، فيبدأ بالبلوغ الجنسي، وينتهي بتوقف هذا النشاط "وهو يشيع بين العامة باسم سن اليأس climacteric، وهو مصطلح سوف نعارضه فيما بعد"، وهذه جميعًا ترتبط بوظائف الجنس.

وهذا المحك ينطبق عليه ما يسميه المناطقة "الشرط الضروري" إلّا أنه ليس كافيًا؛ فالرشد يتطلب بالطبع أن يكون المرء قد بلغ جنسيًّا أولًا، إلّا أن البلوغ الجنسي لا يؤدي -حتميًّا- إلى الرشد، وقد أشرنا في الفصول السابقة كيف أن النمو الإنساني في المجتمعات الحديثة تَطَلَّبَ ظهور مرحلة أو أكثر من المراحل الانتقالية بين الطفولة والرشد؛ فالمراهقة هي طور البلوغ الجنسي خاصةً، وما يصاحبه من تغيرات جوهرية، وقد أطلقنا عليه طور بلوغ الحلم، وهي تسميةٌ قرآنية، أما طور الشباب فهي تلك الفترة الانتقالية بين اعتماد الضعف الأول "الطفولة والصبا" وقوة الرشد، وأطلقنا عليه تسمية قرآنية أخرى هي طور بلوغ السعي.

وقد عَبَّرَ القرآن الكريم عن ذلك بوضوح؛ ففي الآية الكريمة السابقة اعتبر

1 في اللغة العربية أنس الأمر إيناسًا، أي: علمه، ومنه: آنست منه رشدًا "المعجم الوسيط".

ص: 352

بلوغ النكاح "وهو البلوغ الجنسي" شرطًا سابقًا على الرشد، ولكنه تَطَلَّبَ منا أن نتحقق من حدوث هذا الرشد بالفعل، وهذا يعني أن الرشد قد يصاحب البلوغ الجنسي، وقد يأتي بعده، إلّا أنه بالطبع لا يسبقه.

وقد كان الرشد يتطابق مع البلوغ الجنسي في الثقافات البدائية، كما يتطابقان في بعض الثقافات البسيطة الحديثة "كالثقافة الريفية أو الثقافة البدوية"، إلّا أنه مع تقدُّم المدنية تَطَلَّبَ الأمر دفع العمر المعترف به للرشد بعد سبع أو ثماني سنوات من طور البلوغ الجنسي للفرد "المراهقة"، وبالمثل فإن "سن اليأس" أو التغير في الحياة من الشخص الجنسي إلى الشخص اللاجنسي asexual لا يعني فقدان الرشد.

2-

محك العمر:

تتفق معظم الثقافات المعاصرة، ومنها مصر والدول العربية والإسلامية، على أن الإنسان يصل إلى رشده عند بلوغ الحادية والعشرين، وهو السن الذي يتحدد قانونيًّا بأنه إذا بلغه المرء استقلَّ بتصرفاته.

والسؤال الجوهري هنا: لماذا سن الحادية والعشرين كمحدد للرشد؟ ربما يفيدنا أن نجيب على هذا السؤال أن نتناوله في ضوء تحديد ما يسمى الحدث1 juvenile من ناحيةٍ، وفي ضوء قوانين العمل، باعتبار العمل هو أهم مؤشرات الرشد "كما سنبين فيما بعد" من ناحيةٍ أخرى. إن قوانين العمل في مصر تمنع تشغيل الأحداث قبل سن 12سنة، وذلك بالنسبة إلى الأفراد الخاضعين لقانون العمل في جمهورية مصر العربية، وأجاز القانون لوزير العمل أن يمنع تشغيل من لم يبلغوا سن 15 سنة في بعض الصناعات "قرار رقم 154 لسنة 1959"، كما أجاز له أن يشترط لتشغيل هؤلاء الأحداث في بعض الصناعات أن تكون له تذاكر عمل تثبت مقدرتهم الصحية على القيام بها، كما أجازت المادة 124-3 من قانون العمل المصري لوزير العمل أن يمنع تشغيل الأحداث الذين تبلُغ سنهم 17 سنة كاملة في بعض الصناعات الأخرى "قرار رقم 156 لسنة 1959".

ولكن من هو الحدث الذي تشير إليه النصوص السابقة؟ تحدد معظم التشريعات المعاصرة الحد الأدنى للحدث "وهو حد المسئولية" ما بين 7، 8 سنوات "وهو سن التمييز في الشريعة الإسلامية"، والحد الأقصى بين 16، 18

1 يفضل فخر الدين الرازي في كتابه عن الفراسة أن يُطْلَقَ على الطور الذي أطلقنا عليه تسمية الشباب اسم سن الحداثة، ونحن نفضل أن نستخدم المصطلحات على النحو الذي أوردناه حتى لا تختلط علينا الأمور.

ص: 353

سنة، وهذا المحك العمري يشمل فئة من الصبية والناشئة والفتيان، وأطلقت عليهم المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في ندوةٍ عقدتها بالكويت عام 1976 تسمية "فئة اليافعين"، ويمثل الحد الأقصى لهذه المرحلة مظاهر استقلالٍ متعددةٍ تُمَثَّلُ في الوصول إلى الأهلية للمواطَنَةِ الكاملة، ومن مظاهر ذلك الحصول على البطاقة الشخصية، وبطاقة قيادة السيارة، والمثول أمام سلطات التجنيد الإجباري، وحق العمل بلا قيد، وحق الزواج وتكوين الأسرة للمرأة "في سن 16"، وللرجل "في سن 18"، ناهيك عن المسئولية الجنائية الكاملة. والتناقض الجوهري "من الوجهة القانونية والتشريعية" أن يُوصَفَ هذا المواطن الذي يبلغ من العمر "16-18 سنة بأنه "قاصر"، أو بأنه "طفل" كما هو الحال في قانون الطفل الجديد في مصر، بالرغم من هذا كله، وعليه أن ينتظر من 3-5 سنوات حتى يبلغ سن الرشد الذهبي 21 عامًا، فهل يستطيع علم النفس أن يحل هذه المعضلة؟ وهل نستطيع من خلال نتائجه ونتائج العلوم الإنسانية والاجتماعية الأخرى أن نتوصل إلى محكات أكثر تحديدًا للرشد؟

إن الإجابة على هذه الأسئلة وأمثالها على درجة كبيرة من الأهمية في هذا الصدد، وخاصةً إذا تنبهنا إلى بضعة حقائق سيكولوجية أفرزها العصر الحديث، نذكر منها:

1-

تناقص الوعي بالتغيرات الفسيولوجية والسيكولوجية التي تحدث مع بلوغ الرشد والتقدم فيه، وذلك لأن الوسائل الطبية الجديدة والتغيرات في "موضات" الأزياء تساعد الرجال والنساء من مختلف الأعمار على أن يبدوا ويشعروا ويتصرفوا كما لو كانوا في غير أعمارهم، وخطوط التقسيم بين الأعمار المستخدمة في الوقت الحاضر هي معالم عامة وليست حدودًا خاصة فاصلة، وتظهر على وجه الخصوص حين يُتَوقَّعُ من المرأة أو الرجل أن يظهروا "في المتوسط" بعض التغيرات في المظهر، أو وظائف الجسم، أو جوانب السلوك، أو حين تؤدي الضغوط البيئية في ثقافة معينة إلى ظهور مشكلات تَوَافُقٍ لا يستطيع تجنبها إلّا القليل من الرجال أو النساء من عُمْرٍ معين.

2-

تغير أدوار بعض المراهقين "ابتداءً من سن 16"، بل وبعض الأطفال حين يدخلون عالم العمل خاصةً مبكرين، فهم يسلكون سلوك الراشدين على نحوٍ أكثر تبكيرًا من أقرانهم الذين يواصلون تعليمهم، صحيح أنهم يحرمون من فرصة جعل هذا الانتقال من الطفولة إلى الرشد بطيئًا خلال طَوْرِيْ المراهقة والشباب، إلّا أنهم يَتَّسِمُونَ بالفعل بكثيرٍ من سمات الراشدين، على الرغم من أنهم لم يبلغوا سن

ص: 354

الحادية والعشرين، إلّا أن الأخطر من هذه حقًّا ما يحدث حين تطول فترة الاعتماد وتمتد أحيانًا إلى ما بعد سن الحادية والعشرين، على نحوٍ يشبه اعتماد الأطفال أو المراهقين الصغار، وخاصةً حين يلعب المراهق الكبير أو الشاب دور "الطالب"، ويظل يحمل هذه الصفة وحدها في نظر "الكبار".

3-

الفوارق في التبكير بالرشد أو تأخيره، وخاصة بين الجنسين من ناحيةٍ، وبين المستويات الاقتصادية الاجتماعية من ناحية أخرىٍ؛ فالمراهقات الكبيرات تطول فترة اعتمادهن لأسباب ثقافية، والذكور من أبناء المستويات الاقتصادية الاجتماعية المتوسطة والعليا أكثر اعتمادًا من أبناء المستويات الدنيا، ربما لأن هؤلاء يدخلون عالم العمل أكثر تبكيرًا من أولئك.

وهكذا يصبح الرشد السيكلولوجي -في ضوء مؤشر الاستقلال- مسألة نسبية، فهناك من يصلون إليه مبكرين "ابتداءً من السن التي تخرجهم من فئة اليافعين أو الأحداث وربما قبلها"، وهناك من تمتد بهم فترة الاعتماد إلى أعمار تتعدَّى سن الرشد القانوني في صورته الراهنة.

3-

المحك الاجتماعي:

يبدو لنا من مناقشتنا السابقة لمحكي البلوغ الجنسي والعمر أن الفيصل في الحكم على رشد الإنسان يعود في جوهره إلى العوامل الثقافية والاقتصادية والاجتماعية، وهذا ما اتفق عليه فقهاء المسلمين في تعريفهم للرشد بأنه بلوغ الصبي "صالحًا في دينه مصلحًا لماله"، وحسن التصرف في المال -كعلامة من علامات الرشد- يعني أن الفرد قادرٌ على شغل مكانته في المجتمع، والقيام بمسئولياته فيه، وقد نبه القرآن الكريم إلى أهمية هذا المحك في قوله تعالى عند الإشارة إلى السفة، وهو نقيض الرشد:

{وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا

} [النساء: 5] .

كما يشير إلى هذا المحك الاجتماعي أيضًا عند الإشارة إلى ما يجب عمله عقب التحقق من بلوغ الصبي طور الرشد: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 4] .

ويُعَدُّ هذا من جوانب الإعجاز السيكولوجي للقرآن الكريم، ولعنا نشير هنا إلى أن علم النفس الحديث لم ينتبه إلّا مؤخرًا إلى أهمية محك الأدوار الاجتماعية في تحديد الرشد، باعتباره يفوق محك العمر الزمني، أو النضج البيولوجي، ولهذا فإن الشخص الذي يوصف الآن بالرشد هو ذلك الذي لم يعد طفلًا أو مراهقًا أو طالبًا

ص: 355

شابًّا، وإنما تحوَّلَ إلى أدوارٍ جديدة: الساعي لكسب العيش من خلال عمل منظم ومستمر، الزوج أو الزوجة، الوالدية، إلخ، وفي عملية التحوّل إلى الرشد يختلف الأفراد اختلافاتٍ جوهرية في توقيت هذه المهام التي يؤدونها، والأدوار التي يقومون بها، وبعبارة أخرى فإنهم يصلون إلى "مكانة الرشد" في أوقات مختلفة.

ولعلنا هنا نعيد الإشارة إلى ما سبق أن ذكرناه، من أن بعض الأشخاص قد يصلون إلى سن الخامسة والعشرين وهم لا يزالون في مرحلة التعليم، بينما يمارس غيرهم دور الزوج والوالد قبل هذه السن بسنوات، بل إن بعضهم قد يدخل سوق العمل قبل ذلك ببضع سنوات كذلك "بعد إنهاء مرحلة التعليم الأساسي في سن 15 سنة، وربما قبلها فيما اصْطُلِحَ على تسميته "عمالة الأطفال".

4-

المحك السيكولوجي:

المحك الاجتماعي للرشد الذي أشرنا إليه في الفقرة السابقة هو محكٌّ موضوعيٌّ، إلّا أن هناك محكًّا سيكولوجيًّا يعتمد على الخبرات الذاتية للفرد، يضاف إليه ويجعله جزءًا من البنية الأساسية لشخصية الفرد، ويشير علماء النفس المعاصرون إلى بضعة مؤشرات توجه هذا المحكَّ السيكولوجي، تشمل ما يلي:

أ- العمر المدرك Perceived age: ويُقْصَدُ به العمر الذي يشعر فيه الفرد شعور ذاتيًّا أنه أصبح راشدًا، ومن الواضح أن إدراكنا لأنفسنا يعكس كثيرًا من الجوانب المختلفة "العمر الزمني، النضج البيولوجي، الأدوار الاجتماعية التي نمارسها، التوافق النفسي والاجتماعي وغيرها"، ولعل ذلك يفسر لنا لماذا يشعر بعض الأشخاص ويتصرفون كأنهم راشدون وهم لا يزالون ربما في طور الطفولة1، بينما نجد آخرين في منتصف العشرينات من العمر أو أواخرها، ومع ذلك يعانون من صراعٍ بين حاجاتهم ورغباتهم التي تبدو طفولية، وبين شخصية الراشد التي يصبون إليها.

ب- الاستقلال: المؤشر السيكولوجي الرئيسي للرشد هو الاستقلال، فمع الرشد يشعر المرء أنه مسئول عن نفسه وعَمَّنْ يعول، ويتخذ قراراته بنفسه دون حاجة مستمرة إلى دعم الآخرين "وخاصة من هم أكبر منه مثل الوالدين والمعلمين"، ويتجه الاستقلال على وجه الخصوص إلى تلك القرارات التي تتصل بحياة الراشد الشخصية، سواء كانت هذه القرارات تافهة أو هامة، ثم إنه لا يحب أن يتدخل الآخرون في هذه الشئون، ويتحمَّل المسئوليات والنواتج المترتبة عليها.

1 تؤكد ذلك نتائج البحوث التي أجراها المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية حول "عمالة الأطفال" والتي سنشير إليها فيما بعد.

ص: 356

ومرةً أخرى، فإن هذا المؤشر جزء من العالم الشخصي للإنسان، وهو وحده الذي يحدد ما إذا كان لا يزال يشعر بالرغبة في التبعية والاعتماد على الآخرين، أم أنه تحوَّل إلى الاستقلال بقراره.

إلّا أن استقلال الرشد لا يعني التفرد والأنانية؛ فالراشد قد يطلب مشورة الآخرين ويلجأ إلى مناقشتهم ومحاجاتهم، إلّا أنه في النهاية صاحب القول الفصل فيما يتصل بحياته من قرارات.

جـ الرغبة المستمرة في التعلم: من المؤشرات السيكولوجية للرشد الرغبة المستمرة -بل والمتزايدة- في التعلم، وخاصةً التعلم الذاتي الذي يتفق في جوهره مع مؤشر الاستقلال والمعالجة والتقصي والبحث، والتي ترتبط جميعًا بهذا النوع من التعلُّم، وتدل على تنوع الاهتمامات والميول، فإذا توقف الراشد عن التعلم كان هذا علامة النهاية من الناحية السيكولوجية.

وقد أشار القرآن الكريم إشارةً صريحةً إلى أهمية التعلم في حياة الراشدين، يقول الله تعالى في وصفه لمرحلة الشيخوخة المتأخرة: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا

} [الحج: 5] .

وإذا كان فقدان القدرة على التعلُّمِ هو المحك القرآني الرئيسي للشيخوخة المتأخرة "الهرم أو أرذل العمر"، فإن توافُرِ هذه القدرة واستمرارها في مراحل العمر السابقة على هذا التدهور في حياة الإنسان مؤشر على استمرار الرشد الإنساني.

وإذا كان الاستقلال الذي أشرنا إليه محكًّا لتحديد الرشد هو في جوهره نتاجٌ للتعلم الاجتماعي، يصبح التعلُّم حينئذٍ هو جوهر حياة الراشدين بدءًا وانتهاءً، صحيحٌ أن لكلٍّ من البداية والنهاية حدوده التشريحية والفسيولوجية والنيرولوجية، بل والقانونية، إلّا أن الرشد السيكولوجي لا يتحدد إلّا بشغفٍ إلى مزيدٍ من التعلُّم عند الاستقلال، ثم توقُّفٌ عن التعلم عند العجز والهرم، بل نكاد نقول: إن التوقف عن التعلم هو اللحد السيكولوجي للإنسان، حتى ولو عاش من بعده أعمارًا وأعمار.

ص: 357