الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أكثر مرونةً حتى في مرحلة وسط العمر.
ولعل الميول اللامهنية هي الأكثر أهمية في طور وسط العمر، ففيه يكتشف الراشدون أهمية أنشطة وقت الفراغ والترويح، والتي قد تحل في مراحل لاحقة محل أدوار العمل، وقد يكون بعض هذه الأنشطة متمركزًا على ما يدور داخل المنزل "كالخياطة للنساء، والنجارة للرجال"، وبعضه الآخر خارجه "كالرحلات والزيارات"، وقد يمارس البعض أنشطة التعبير الذاتي؛ كالموسيقى والفن والكتابة، أو القيام بأنشطة خدمة البيئة والمجتمع المحلي.
التوافق:
يؤكد اتجاه نتائج بحث قام به بروزويك عام 1955، الذي عرضناه سابقًا، والذي تَمَّ فيه تحليل مفردات اختبار الشخصية المتعدد الأوجه "مينسوتا"، والمقارنة بين استجابات عينة من طلاب الجامعات بأخرى من رجال الأعمال والمهنيين، تمتد أعمارهم بين 45-55 عامًا، أن عينة الراشدين الأكبر سنًّا تظهر تدهورًا في اللياقة البدنية، وميلًا متناقصًا لأنشطة العنف والمغامرة، وقلقًا أكبر حول العمل والتوافق الوجداني، إلّا أن توافقهم الاجتماعي للأسرة والأقارب كان أفضل من الراشدين الصغار.
وتؤكد البحوث التي قام بها كوهلن عام 1945، وجود فروق فردية واسعة في استجابة الراشدين للتغير في الحياة، وأهمية العوامل النفسية في تحديد التوافق الانفعالي في مثل هذه المرحلة من العمر، وفي رأيه أن محافظة الأفراد مع تقدمهم في السن على ميولهم النشطة، واستمرارهم في عمل ملائم، له أهمية مطلقة في تحقيق التوافق الجيد.
وقد ناقش كوهلن ثلاثة فروض حول العلاقة بين العمر والتوافق وهي:
1-
العلاقة المنحنية، أي: تظهر زيادة في البداية، ثم تتجه نحو التناقص في الأعمار المتقدمة، وبالطبع يصل التوافق في مثل هذا النوع من العلاقات إلى حَدٍّ أمثل عند عمر معين.
2-
عدم وجود تغير كلي في مستوى التوافق مع التقدم في السن، وذلك في الظروف المعتادة، وإنما قد يحدث تحوّل في بعض مجالات التوافق؛ حيث يصبح لبعض هذه المجالات أهمية أكبر أو أقل في بعض الأعمار.
3-
الفروق بين الراشدين الصغار والكبار في التوافق يرجع في جوهره إلى
مدى القابلية للتأثر بالضغط والتهديد، وبالتالي كلما زادت عوامل التوتر في البيئة أو داخل الشخص أدت إلى نقصان التوافق بصفة عامة أو في بعض مجالاته.
ويذكر كوهلن أن الأدلة العلمية المتاحة التي تَمَّ الحصول عليها بوسائل مختلفة: المقابلات، وسائل التقرير الذاتي، الأساليب الإسقاطية، تدعم هذه الفروض الثلاثة جميعًا، إلّا أن معاملات الارتباط بين متغيرات التوافق المقيسة والعمر الزمني تميل إلى الانخفاض، ويقترح كوهلن في هذ الصدد نظرية دينامية للتقدم في السن، وفيها لا تعتبر خصائص الشخصية نتيجة لعملية التقدم في السن، وإنما هي من المتغيرات الهامة التي تؤثر في هذه العملية ذاتها.
وإذا أردنا تناول نموّ الشخصية في مرحلة وسط العمر في إطار نموذج إريكسون، فإن الأزمة التي تتطلب حلًّا في هذه المرحلة في رأيه لا تزال هي أزمة الإنتاجية أو التدفق في مقابل العقم أو الركود، والتي تمثّل المرحلة السابعة في نموذجه للنمو الوجداني، وهي بذلك استمرار لبعض ما كان عليه الحال في طور الرشد المبكر. فالإنتاجية أوالتدفق لا تزال عند الراشدين الكبار -كما كان الحال عن الراشدين الصغار- هي الاهتمام بتكوين وتوجيه الجيل القادم، وهي عند البعض يتم التعبير عنها، كما كان الحال في الرشد المبكر في سياق الأسرة من خلال الحب ورعاية العلاقة بالزوج والأبناء، إلّا أنه قد يضاف جانب هام آخر يميز الرشد الأوسط وهو إنتاجية العلم، ويتمثّل ذلك في الإشراف على العاملين الصغار المبتدئين بتوجيههم ومساعدتهم في تنمية مستقبلهم المهني؛ فالتدفق هو علاقة الشخص بالمستقبل، وهو الوسيلة التي يثبت بها المرء وجوده عبر الزمن. وعكس التدفق، في نظرية إريكسون، العقم أو الركود، وهو شعورٌ بالاستلاب الشخصي والملل واهتمام بالذت.
وقد تطورت نظرية إريسكون بالنسبة للراشدين، وخاصةً في طور منتصف العمر على يدي روبرت بك "R Peck "1968"، وعنده أنه توجد أربعة تحديات أو مهام كبرى أمام الراشدين في هذا الطور وهي:
1-
تفضيل الحكمة والخبرة على القوة الجسمية: فالراشدون الكبار عليهم أن يعترفوا ويقبلوا التدهور الحتمي في النواحي الجسمية، ويعتمدوا أكثر على المعرفة والخبرة والعمليات العقلية لتحقيق الرضا عن الحياة، وإلّا يظهر ما يسميه بك "اكتئاب وسط العمر" إذا استمر الجسد هو المظهر الرئيسي للهوية، أما إذا استبدلت القيم الأعمق بالخصائص الجسمية فإن الراشد
يتوصل إلى الحكمة اللازمة لحل المشكلات الحياة، وإلّا يظهر ما يسميه بك "اكتئاب وسط العمر"، إذا استمر الجسد هو المظهر الرئيسي للهوية، أما إذا استبدلت القيم الأعمق بالخصائص الحسمية فإن الراشد يتوصل إلى الحكمة اللازمة لحل مشكلات الحياة.
2-
إعادة تحديد العلاقات بالآخرين: فعليهم أيضًا إدراك الآخرين "ومنهم شريك الحياة" بشكلٍ متزايدٍ كأفراد ورفقاء، وتصبح العلاقات معهم "ومنها العلاقة الزوجية" بشكلٍ عامٍّ أكثر اتساعًا وأكثر اجتماعيةً.
3-
المرونة الانفعالية: أي تحويل الاستثمار الانفعالي لدى الراشد من التركيز على شخصٍ واحدٍ أو نشاط واحد إلى أشخاص جدد أو أنشطة جديدة، وهذه القدرة لها أهمية خاصة في منتصف العمر بسبب التعرض المتزايد لفقدان أو تدهور بعض هذه العلاقات في هذا الطور؛ مثل: وفاة الوالدين، كبر الأبناء وتركهم البيت، طرح بعض الأنشطة جانبًا "خاصة الأنشطة الرياضية العنيفة"، وحتى يمكن التكيف لهذه التغيرات يجب أن يكون الشخص في منتصف العمر قادرًا على إعادة استثمار هذه الطاقة الانفعالية مع أفراد ومواقف جديدة.
4-
المرونة العقلية والتفتح على الخبرات الجديدة وطرق التعامل مع الأشياء والأشخاص: فالراشد الناضج يواجه دائمًا مشكلات تتطلَّب حلولًا مبتكرة يبدعها هو، أو تقويمًا إيجابيًّا للبدائل التي يقدمها لها الآخرون، أما الراشدون الأقل نضجًا فيستمرون في الاعتماد على الأفكار الجاهزة لديهم، والحلول المعتادة عندهم، والاتجاهات المألوفة لهم، وعندئذ يصبحون عبيدًا للماضي، وبدلًا من أن يتحكَّموا في حياتهم، تتحكم الظروف المحيطة بهم فيهم.
ويضيف هافييجهرست "Havighurst 1974" إلى ذلك، أن طور وسط العمر مرحلة فريدة في حياة الإنسان، فلا توجد فترة أخرى في حياته لها مثل ذلك الأثر في المجتمع، ثم إن المجتمع أيضًا يطلب منه أعظم المطالب في نفس الوقت، وعلى ذلك فإن راشدي منتصف العمر يجب عليهم التعامل في المنزل مع مهام مثل مساعدة الأبناء من المراهقين والشباب، على أن يكونوا راشدين مسئولين سعداء، والإبقاء على علاقة توافقية سليمة في الزواج، وهم يواجهون ضغوطًا في العمل، ومع ذلك يكون عليهم الوصول إلى مستوى رفيع من الأداء المهني والمحافظة عليه، وفي نفس الوقت يطلب منهم المجتمع أن يقبلوا وينفذوا مسئولياتهم الاجتماعية وواجباتهم في المواطنة، كما أن الشخص في هذا الطور
يجب عليه أن يجد منافذ جديدة لوقت الفراغ تعكس التغيرات التي طرأت على الجسم والميول والقيم والمكانة الاقتصادية وبنية الأسرة.
وأخيرًا فإن ليفنسون "Levinson، 1979" يرى أن مرحلة وسط العمر هي وقت بلورة الميول والقيم والالتزامات، فعنده أن الراشدين ابتداءً من مطلع الثلاثينات وحتى حوالي سن الأربعين يبدأون في الاستقرار، وعندئذ تكون هناك التزامات أعمق نحو الأسرة والعمل والأصدقاء وكل من يهم وما يهم الشخص، وعند حوالي سن الأربعين ولمدة حوالي خمس سنوات يمر المرء بمرحلة التحول إلى وسط العمر، وهي فترة تمثّل المعبر بين الرشد المبكر والرشد الأوسط، أو على حَدِّ تعبير ليفنسون بين المستقبل والماضي، فهي وقت مراجعة رصيد الذات، وفيها تعود أسئلة قديمة منذ أيام المراهقة إلى الظهور مثل "من أكون؟ " وإلى أين "المصير؟ " وهكذا، وتكون لها أهميتها مرةً أخرى، عندئذ يبدأ المرء في تقويم إنجازاته الشخصية في ضوء الأهداف السابقة، كما يعيد تنظيم هذه الأهداف في ضوء كلٍّ من الإنجاز الراهن والمتوقع، وتبعًا لما يراه ليفنسون فإن التخطي الناجح لهذه المرحلة الانتقالية في وسط العمر يتطلب العمل وسط التناقضات بين ما هو كائن وما يجب أن يكون، وإذا استطاع الراشد قبول حقائق حياته الجديدة فإنه يظهر مستوًى جديدًا من الاستقرار مع دخوله طور منتصف العمر، كما يظهر صفات يتطلبها هذا الطور مثل: الحكمة والحكم الجيد وحسن التمييز والتقدير والشفقة على الآخرين "وخاصة الصغار" وسعة الأفق، وإذا لم يتوافر ذلك فيه قد يظهر بينه وبين من هم أصغر منه سنًّا ما يُسَمَّى "صراع الأجيال"، ومن الطريف أن نذكر هنا أن الراشدين الكبار الذين كانت علاقاتهم طيبة برؤسائهم في سنواتهم المبكرة، يصبحون هم أنفسهم رؤساء ممتازين في هذا الطور، وخاصةً من حيث إرشاد وتوجيه نموّ الصغار، ويصدق هذا أيضًا على العلاقات بالأبناء، وهكذا فإن أزمة "صراع الأجيال" التي تبدأ في الظهور في هذا الطور قد تكون جذورها وبذورها في التنشئة المبكرة للراشدين الكبار أنفسهم.