الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فحكمة الشيوخ تؤدي إلى "ضبط أوتار الاستدلال" Fine tuning- على حد تعبير "Schuster Ashburn 1994"، وتطبيق المبادئ بفطنة وحذق على نحوٍ يؤدي إلى حلِّ أو إعادة حلِّ مشكلات الحياة اليومية، وليس مجرد حل مشكلات الاختبارات أو المهام التجريبية.
ولم يحظ موضوع الحكمة على الرغم من أهميته بالاهتمام الذي يستحقه من علم النفس، ونعرض فيما يلي لبعض الجهود التي تستحق من الباحثين المزيد من الدراسة حولها.
الحكمة: قدرة القدرات الإنسانية
في تناول أحد مؤلفي هذا الكتاب "فؤاد أبو حطب 1996" لمفهوم الذكاء في إطار النموذج العملياتي الرباعي الذي اقترحه منذ عام 1972"، أكد قابلية الذكاء للتعدد، كما توقع قابليته للتوحد من خلال قدرة رفيعة المستوى عالية المكانة، ولم يجد تسمية أفضل لهذه القدرة المتوقعة من مصطلح "الحكمة".
والحكمة لفظ من ألفاظ القرآن الكريم، وقد ورد اللفظ في عشرين موضعًا من كتاب الله، ومن ذلك قوله تعالى:{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}
[البقرة:269] .
يقول القرطبي في تفسيره لهذه الآية الكريمة: إن العلماء اختلفوا في الحكمة هنا، فقال السدي: هي النبوة، وقال ابن عباس: المعرفة بالقرآن؛ فقهه ونسخه ومحكمه ومتشابهه وغريبه ومقدمه ومؤخره، وقال قتادة ومجاهد: الحكمة هي الفقه في القرآن، وقال مجاهد: هي الإصابة في القول والفعل، وقال ابن يزيد: هي العقل في الدين، وقال مالك بن أنس: هي المعرفة بدين الله والفقه فيه والاتباع له، وروى عنه ابن القاسم أنه قال: الحكمة التفكر في الله والاتباع له، وقال أيضًا: الحكمة طاعة الله والفقه في الدين والعمل به، وقال الربيع بن أنس: الحكمة الخشية، وقال إبراهيم النخعي: الحكمة الفهم في القرآن، وقال زيد بن أسلم وقال الحسن: الحكمة الورع.
ويعقب القرطبي على هذه الأقوال بقوله: إنها جميعًا ما عدا السدي والربيع والحسن قريب بعضها من بعض؛ لأن الحكمة تصدر من الإحكام وهو الإتقان في قولٍ أو عمل، فكل ما ذكر هو نوع من الحكمة التي هي الجنس، فكتاب الله
حكمة، وسنة نبيه حكمة، وكل ما ذكر من التفصيل فهو حكمة، وأصل الحكمة ما يمتنع به السفه؛ فقيل للعلم حكمه؛ لأنه يمتنع به، وبه يعلم الامتناع من السفه وهو كل فعلٍ قبيح، ومن معانيها القرآن والعقل والفهم.
ويورد التفسير الوسيط الذي أعده مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف تحديدًا لمعنى الحكمة في هذه الآية الكريمة بأنها "إصابة الحق في قولٍ أو فعلٍ أو رأيٍ، وهي من الملكات النفسية العليا التي يمنحها الله من هو أهلٌ لها"، وتتضمّن التمييز بين الحق والباطل، والخير والشر، والصواب والخطأ، والذي يبعد الإنسان عن المعاطب، ويصل به إلى السلامة والنجاة، ويورد لسان العرب الحكمة بمعنى معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم، ويلخص معجم ألفاظ القرآن الكريم الذي أعده مجمع اللغة العربية ذلك كله في أن الحكمة تطلق على ما يتحقق فيه الصواب من القول والعمل.
وفي عام 1990 صدر كتاب هام حرره روبرت سترنبرج Sternberg، 1990" حول طبيعة الحكمة وأصولها ونموها، وقد شارك في الكتاب عدد من علماء النفس والفلاسفة، ولعل أهم ما نبه إليه "Birren" Fisher" في فصلهما الختامي لهذا الكتاب أن هذا اللفظ -الذي ورد في القرآن الكريم بهذا المعنى الرفيع منذ أربعة عشر قرنًا -لم يظهر في اللغة الإنجليزية إلّا منذ حوالي عام 1000، أي: بعد حوال نصف قرن من وروده في القرآن الكريم -ويورد معجم إكسفورد معنى اللفظ بأنه:
"القدرة على الحكم حكمًا صحيحًا على الأمور المرتبطة بالحياة والسلوك، وصحة الحكم عند الاختيار للوسائل والغايات، وبمعنى أقل تحديدًا يعني: الإحساس الصائب وخاصة في الأمور العملية".
وهكذا يرتبط لفظ الحكمة بالمعرفة والاستثارة والتعلم والتفلسف والعلم، ويتضمن العادات السلوكية الحسنة وأنماط الفعل القويم، ويشير إلى أن الشخص "الحكيم" لديه القدرة على إصدار الأحكام الصائبة.
والخلاصة: أن الحكمة هي قدرة القدرات الإنسانية التي تتوازن فيها المعرفة والوجدان والعقل، كما تتوازن فيها أنواع الذكاء المختلفة.