الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المخ" الذي يؤثر في القدرات العقلية في نفس الاتجاه، وبالطبع، نتوقع أن يزداد العامل العام عموميةً مع زيادة حدة الذهان، وهذا الفرض يحتاج إلى بحوث جادة لاختباره.
ولا يتوافر قدر كافٍ من نتائج البحوث حول مسألة الفروق بين الجنسين في آثار العمر في القدرة العقلية، ومع ذلك يمكن القول في ضوء النتائج المتاحة التي يلخصها بروملي عام 1966: إن التغيرات المرتبطة بالعمر لا تختلف بالنسبة إلى الجنس؛ ففي اختبار غير موقوت حول تتبع متاهة، حصل الراشدون الذكور والإناث من مختلف الأعمار على درجات مشابهة في دقة الأداء وكيفه، ولكن حين حسبت سرعة الأداء ظهر دليل على وجود تدهور فارق مع العمر؛ حيث كان الذكور الأصغر سنًّا أسرع من الإناث الأصغر سنًّا، بينما كان الذكور الأكبر سنًّا أبطأ من الإناث الأكبر سنًّا، وهذه النتيجة توحي بتدهور "السرعة العقلية" عند الذكور أسرع من الإناث، وتزداد المسألة تعقيدًا لأن توقعات الحياة أطول لدى النساء، وقد يكون أصغر من الوجهة البيولوجية إذا قورن بالرجال من نفس العمر الزمني.
ثالثًا: نسبة الكفاءة ونسبة التدهور
ومن المشكلات التي تواجها بحوث النشاط العقلي للراشدين والمسنين، أن درجات الاختبارات العقلية تصحح عادةً من أثر العمر، بل إن بعض المعايير تتضمن هذا التصحيح، وأشهرها نسبة الذكاء التقليدية.
وللتغلب على هذه الصعوبات اقترح وكسلر في ميدان قياس الذكاء ما يُسَمَّى نسبة الكفاءة Efficiency ،Coefficent وباختصار EQ، لتحل محل نسبة الذكاء التقليدية عند المقارنة بين الأعمار المختلفة. وتتحدد نسبة الكفاءة من الدرجات الخام أو الدرجات الموزونة لعينة عمرية "مثلى" في الأداء، تقارن بها المستويات التي تصل إليها مجموعات العمر الأخرى، وقد تحددت المجموعة العمرية ذات الأداء الأمثل في مقياس وكسلر لذكاء الراشدين بأنها بين 20-24 سنة.
وهكذا يمكننا القول أن نسبة الذكاء IQ تمثل القدرة العقلية للفرد بالنسبة إلى مجموعته العمرية، أما نسبة الكفاءة EQ فتمثل هذ القدرة العقلية للفرد بالنسبة إلى الراشدين الذين يصلون إلى القمة، بالنسبة للكفاءة العقلية والبيولوجية، وبهذا قد نصف الشخص البالغ من العمر 75 عامًا بأن نسبة ذكائه 100، بينما نسبة الكفاءة عنده 76، ونحصل على نسبة الكفاءة هذه بأن نعيد تفسير الدرجة الخام التي يحصل عليها هذا الشخص "ولتكن 65 مثلًا" في ضوء ما يمكن أن يؤديه راشد صغير في قمة كفاءته العقلية والمعرفية.
ويتلخص الإجراء هنا إلى نسبة الدرجة الخام إلى متوسطين، أحدهما متوسط الفئة العمرية التي ينتمي إليها الفرد بالفعل "فئة 75 عامًا"، فإذا كان متوسط درجات هذه الفئة 65، نحكم على الفرد بأنه متوسط الذكاء باستخدام معيار نسبة الذكاء "حيث يتساوى متوسط مجموعته العمرية مع الدرجة الخام التي حصل عليها". أما المتوسط الثاني فهو متوسط فئة الراشدين الصغار الأكفاء، وليكن 110، وهو درجة تدل على الأداء العادي في هذا السن القادر، فإذا نسبت الدرجة الخام التي حصل عليها الشخص المسن "وهي 65 كما قلنا" إلى هذا المتوسط الجديد، فإنها تدل على أنه أقل من المتوسط بالنسبة لهؤلاء، ونسأل أنفسنا في هذه الحالة: ماذا تعني الدرجة 65 إذا حصل عليها راشد أو مسن كفء؟ إنها في الواقع تدل على نسبة مقدارها 76. وهذه هي نسبة الكفاءة، وهكذا تقل الكفاءة العقلية من 100إلى 76، وبالطبع فإن نسبة الذكاء ونسبة الكفاءة عند الراشدين الصغار تتساويان وتعنيان نفس الشيء، إلّا أنهما عند المسنين تختلفان، فنسبة الذكاء قد تظل ثابتة، بينما قد تتناقص نسبة الكفاءة، وبالطبع تختلف نسبة الكفاءة تبعًا للظروف الجسمية والصحية والعقلية، كما تظهر فيها فروق فردية واسعة.
وبالطبع فإن القدرات العقلية -كما بينا آنفًا- لا تتدهور مع العمر بمعدلٍ ثابت، فالمفردات اللغوية تقاوم التدهور، بينما ذاكرة المدى القصير تتأثر به، وقد حاول وكسلر تقدير مدى التدهور العقلي الذي يطرأ على الفرد، وذلك بمقارنة كفاءته العقلية الراهنة، معتمدةً على درجاته في الاختبارات التي تظهر تدهورًا واضحًا مع العمر بتقديرٍ لكفاءته السابقة، معتمدة على درجاته في الاختبارات التي لا تظهر إلّا قليلًا من هذا التدهور.
وبالطبع فإن التدهور العقلي الذي يظهر بوضوح في الأعمار المتقدمة جدًّا لا يحدث فجأة، وإنما هو مسألة تراكمية تدريجية مع التقدم في السن عامًا بعد عام، ومن الطرق المقترحة لتحديد نقصان القدرة العقلية مع العمر قياس الفرق بين الكفاءة في العمليات المعرفية التي لا تتدهور، والكفاءة في هذه العمليات التي تتدهور بالفعل، ويقترح وكسلر أيضًا في هذا الصدد ما يسميه: نسبة التدهور deterioration Quotient أو باختصار DQ، وتحسب كما يلي:
نسبة التدهور= درجة عدم التدهور- درجة التدهور/ درجة عدم التدهور×100
وتؤكد نتائج وكسلر الأصلية أن الشخص العادي يظهر في نهاية الثلاثينات نقصانًا في الكفاءة بمقدار 5%، ثم تصل نسبة التدهور هذه في سن المسنين عند المسن العادي أيضًا إلى 18%.
تدهور قدرات الذاكرة: تؤكد نتائج البحث حول ذاكرة المسن أن أسرع معدل للتدهور يطرأ على ذاكرة الأمد القصير، أما ذاكرة الأمد الطويل فتظل فعّالة لوقت أطول، وبسبب نقص الدافعية نجد المسنين أقل اهتمامًا بتذكر ما يتعرضون له من خبراتٍ راهنةٍ، ويقل انتباههم للأشياء والأشخاص والموضوعات من حولهم، ولهذا يقل استرجاعهم للمعلومات التي لا تزال حديثة العهد في انتباه الشخص، وهذا في حَدِّ ذاته يؤدي إلى النسيان، وبالتالي إلى ضعف ذاكرة الأمد القصير، أما المعلومات التي يكون قد تَمَّ تشفيرها منذ زمن مضى ولم تعد محور بؤرة الانتباه النشط أو الانتقائي فهي مادة ذاكرة الأمد الطويل، وفي هذا الصدد نذكر أن قدرات الاستدعاء أسرع في التدهور من قدرات التعرف.
ففي دراسةٍ أُجْرِيَتْ على عيناتٍ ثلاث، متوسط أعمارها 20، 38، 68 عامًا، وجد الباحثون أن الأشخاص الأصغر سنًّا لا يختلفون في السرعة عن مجموعة "68سنة"، إلّا أن النتيجة الأكثر أهمية أن المفحوصين المتقدمين في السن يستغرقون وقتًا أطول في فحص ذاكراتهم المباشرة قبل الوصول إلى قرار، إذا قورنوا بالمفحوصين الأصغر سنًّا، فقد بلغ هذا الوقت 71 ميلي ثانية في فحص كل وحدةٍ في الذاكرة عند الأشخاص الأكبر سنًّا، بينما عند الأصغر سنًّا كان 39 ميلي ثانية، ولم تلاحظ فروق دالة بين المجموعتين الأكبر سنًّا "وسط العمر والشيخوخة"، وقد تنشأ الفروق المشار إليها عن بطء الاستجابة الحركية "التي تناولناها آنفًا" عند المسنين من ناحية، أو عن حاجة هؤلاء إلى فترة زمنية أطول حتى يمكنهم تجهيز كل وحدة من المعلومات.
وفي دراسةٍ أخرى على عينة امتدت أعمارها بين 5سنوات، 70 عامًا، استخدم فيها أسلوب الاستماع الثنائي الشائع في بحوث الانتباه المعاصرة، والذي اقترحه برودبنت منذ عام 1958، وفيه تعرض على الأذنين رسالتين مختلفتين عرضًا مستقلًّا وفي وقت واحد باستخدام سماعات الأذن، وكانت الرسالتان المستخدمتان في هذا البحث من نوع الأرقام، وقد وجد الباحثون أن المفحوصين من مختلف الأعمار سجّلوا جميع الأرقام التي عرضت على إحدى الأذنين قبل تسجيل تلك التي عرضت على الأذن الأخرى، ويفسر الباحثون حدوث ذلك
بوجود نظامين معرفيين في هذه المهمة: أولهما يثبت ويستبعد المادة التي يتم تجهيزها إيجابيًّا، وثانيهما يخزن في ذاكرة المدى القصير الأرقام التي تعرض على الأذن الأخرى تخزينًا مؤقتًا حتى ينتهي النظام الأول من عمليات الإثبات والاستبعاد، ويهمنا أن نشير بالنسبة لهذا البحث أن الأشخاص الأكبر سنًّا شأنهم شأن الأصغر سنًّا، صدرت عنهم أخطاء في تكرار الأرقام واسترجاعها من نظام ذاكرة الأمد القصير، وكان عدد أخطائهم هذه أكبر مما صدر عن الأشخاص الأصغر سنًّا.
ومع التقدُّم في السن يظهر المسنون نقصانًا في إصدار وحدات المعلومات التي تبقى في مخزن هذا الذاكرة؛ فاستدعاء النصف الأول من مدى الأرقام المعروض على إحدى الأذنين ظلَّ ثابتًا تقريبًا عند مختلف الجماعات العمرية، ولكن لوحظ تدهور مع التقدّم في السن في عدد الأرقام التي يتم استدعاؤها في النمط الثاني من مدى هذه الأرقام، وكانت أعلى المجموعات في درجاتهم تلك التي تمتد أعمارها بين 21-30 عامًا، بعدها ظهور تدهور ثابت نسبيًّا مع زيادة العمر، وهكذا يمكن أن نستنتج وجود تدهور في كفاءة ذاكرة الأمد القصير مع التقدم في السن.
ومع ذلك يمكن القول أنه وجد أن مدى الذاكرة "أي عدد وحدات المعلومات التي يستطيع الشخص تذكرها بالترتيب الصحيح" لا تتدهور عادةً مع العمر "Hartley، et al.، 1980" و" 1977 Craik"، ومعنى ذلك أن المسنين والراشدين الأصغر سنًّا قادرون على تذكُّر نفس العدد من العناصر، إلّا أن ذلك لا يحدث إلّا في الظروف العادية التي لا تفرض مطالب صعبة، أما إذا تطلَّبَ الأمر من المفحوص المسن مثلًا إعادة تنظيم المثير؛كأن يسترجع قائمة كلمات بالعكس، أو يوزع انتباهه بين المهمة التي يقوم بها ومهمة أخرى، فإن المسن يظهر في هذه الحالة نقصًا واضحًا في مدى الذاكرة في ذاكرة الأمد القصير.
وماذا عن ذاكرة الأمد الطويل؟
لقد لوحظ منذ وقت بعيد أن الراشدين المتقدمين في السن يميلون إلى أن ينشغلوا بمسائل الماضي أكثر من الحاضر أو المستقبل، وهذا التغيّر قد يكون أسلوبًا للتعامل مع نقائص ذاكرة الأمد القصير التي تجعل المسن يواجه صعوبات في التعامل مع الأحداث الراهنة، أما ذاكرة الأمد الطويل فإن المعلومات المختزنة فيها لا تتعرض للتضاؤل، وإن حدث فيكون بطيئًا جدًّا، والذي قد يختلف تبعًا لخصوبة شبكة العلاقات الترابطية التي توضع فيه المعلومات في هذه الذاكرة.
فكلما كانت المعلومات ترتبط بخبراتٍ ذات معنًى كان تضاؤلها بطيئًا مع مرور الزمن.
ومن الدراسات الجيدة من الناحية المنهجية حول ذاكرة الأمد الطويل عند المسنين، دراسة سمث عام 1963، وفيها تحكَّمَت الباحثة في مستوى الأداء المبدئي، فقد أعادت اختبار عينة من المفحوصين سبق لهم أن تعلموا جميع الإجابات الصحيحة لأكثر من مائة سؤالٍ منذ ستين عامًا "أي: عام 1900" مضت حين كانت أعمارهم أقل من 13سنة، وقد أُعِيدَ اختبار هؤلاء في نفس الأسئلة في أعوام 1934، 1950، 1960. وأظهرت النتائج وجود فَقْدٍ ضئيل بين عامي 1934، 1950، ثم ظهر هبوط حادٍّ في الاستدعاء عام 1960. ففي عام 1934 تذكروا أو احتاجوا إلى تلميح واحد للوصول إلى استدعاء 98 إجابة استدعاء صحيحًا من بين 107 إجابات، وفي عام 1950 استدعى هؤلاء 92 إجابة منها، أما في عام 1960 فلم يتتذكروا إلّا 73 إجابة فقط، وهكذا نجد أنه بين العمرين 63، 73 عامًا ينسى الأفراد أكثر بكثير مما ينسونه في الفترة بين العمرين 47، 63 عامًا.
ويرى بعض العلماء وعلى رأسهم فولدز ورافن ما أشرنا إليه من قبل من أن بطء تدهور قدرات الذكاء المتبلور بمقارنتها بقدرات الذكاء السائل إنما يرتبط في جوهره بمسألة ذاكرة الأمد الطويل وعلاقتها بالعمر. فقد وجدوا أن درجات اختبار المفردات "وهو من مقاييس الذكاء المتبلور" لا تظهر تدهورًا يذكر مع التقدم في السن، بينما درجات المصفوفات المتتابعة "وهو من مقاييس الذكاء السائل" يظهر تدهورًا حادًّا، وبالطبع يمكننا أن نفترض -وهو افتراض صحيح- أن معرفة معاني الكلمات تتراكم وتتزايد مع التقدم في العمر عامًا بعد عام، وبالتالي تكون مقياسًا لذاكرة الأمد الطويل أكثر من المصفوفات المتتابعة، وفي هذا برهان إضافي يدعم قولنا أن ذاكرة الأمد الطويل لا تظهر تدهورًا خطيرًا مع التقدم في السن -في ضوء الأدلة المتاحة حتى الآن- وهذا على عكس ما أكدته البحوث بالنسبة لذاكرة الأمد القصير.
وأكدت البحوث أيضًا أن ذاكرة الأمد الطويل قد تتدهور حين يتعرض المسن لمشكلات بالنسبة إليها، كأن يطلب من المسن تذكر مواد لم تعد موضوع التداعي النشط في الذاكرة، أو لم تعد في بؤرة الانتباه. إن هذا النقص حينئذٍ يرتبط بمكونات ثلاثة في الذاكرة هي: تسجيل المعلومات، وتخزين المعلومات، واسترجاع المعلومات، وفي كل من هذه المجالات تتراكم أدلة تدل على أن المسن أقل كفاءة بالمقارنة بالراشد الأصغر سنًّا. "Craik، 1977""Hartley، et al"
"1980، ومع ذلك فإن المستوى المنخفض في الأداء حينئذٍ قد لا يتضمّن بالضرورة نقص القدرة، فبعض الباحثين أيدت يحوثهم القول بأن المرونة العقلية تستمر لدى المسنين، على الرغم من هذه النقائص في الأداء والذاكرة.
وفي هذا الصدد لا بُدَّ من التمييز مرةً أخرى بين الاستدعاء والتعرف، فالاستدعاء يتطلب بحثًا إيجابيًّا نشطًا لتحديد المعلومات الملائمة في الذاكرة، بينما يتطلّب التعرف فقط إيجاد مزاوجة سلبية بين ما يعرض وما يوجد في الذاكرة، وفي التعرف لا يحتاج المفحوص إلّا إلى تعيين أحد مكونات مثير كلي حتى ينتج الاستجابة الصحيحة، أما في الاستدعاء فإن واجب المفحوص أن يولد بنفسه هذا المكون على الأقل، وبالطبع فإن هذا التمييز فيه تبسيط شديد؛ لأنه حتى في التعرف يوجد قدر من النشاط الإيجابي.
ومن البحوث الهامة حول ذاكرة التعرف والاستدعاء دراسة سكونفيلد وربرتسون عام 1966، وفيها عرض على عينة من المفحوصين تمتد أعمارهم بين 20، 25 عامًا قائمتين من الكلمات، تتألف الأولى من 24 اسمًا والثانية من 34 صفة، وبعد التعرض لكلِّ قائمةٍ كان على المفحوصين محاولة استدعاء أكبر عدد من هذه الكلمات استدعاءً حرًّا، أو التعرف عليها من بين قائمة أكبر من الكلمات، وأظهرت النتائج وجود تدهور واضح مع التقدم، أي: تدهور ملحوظ في أيّ مرحلة من مراحل العمر، فعلى الرغم من أولئك الذين تعدت أعمارهم الستين لا يستدعون إلّا 54% مما يستطيعه أولئك الذين تقع أعمارهم في مدى بين 20-39 عامًا، فإننا نجد أنه بالنسبة لذاكرة التعرف أن المفحوصين الراشدين الأكبر سنًّا تعرفوا على عدد من الكلمات أكبر قليلًا "بدون دلالة إحصائية" مما يتعرف عليه الراشدون الأصغر سنًّا.
إلّا أن نتائج بعض البحوث الأخرى أكدت وجود بعض التدهور في ذاكرة التعرف مع التقدم في العمر، وهذا يعني أن المسألة موضع خلاف، إلّا أننا بصفة عامة تتفق مع ولرمان في قوله:"إن من الواضح أننا نستطيع تحت شروط معينة إثبات حدوث تدهور حادٍّ في ذاكرة الاستدعاء مع العمر، بينما لا يظهر مثل هذا التدهور في ذاكرة التعرف""Willerman، 1979".
لماذا يحدث التدهور العقلي المعرفي في طور الشيخوخة؟
قدَّم الباحثون إجاباتٍ مختلفة لهذا السؤال، ومن ذلك مثلًا: أن Schaie"
"1974 يتحدث عن "خرافة التدهور العقلي"، ويقول: إنه حين نجري الدراسات المستعرضة نلاحظ فروقًا ظاهرة في المهارات بين الأجيال المتتابعة؛ ففي الاختبارات غير المعتمدة على السرعة على الأقل لوحظ أن المسنين لا يختلفون في أدائهم عَمَّا كان عليه الحال حين كانوا أصغر سنًّا، ومع ذلك فإنهم لا يؤدون بنفس الدرجة من الجودة كما يفعل أحفادهم المتعلمون تعليمًا جيدًا "ربما أفضل منهم". ويقترح سكائي أن القدرات العقلية لا تتدهور عند المسنين إذا كانوا أصحاء بدرجة معقولة، ولكنها قد تصبح غير ملائمة للعصر، ومن ناحيةٍ أخرى فإن التدهور -إن حدث- لا يظهر في جميع أو في معظم القدرات العقلية إلّا عند قليل من الناس، وقد أشرنا في مطلع هذا القسم إلى العوامل التي تؤدي إلى الفروق الفردية في ذلك.
ويرى "Riegel، 1974" أن التدهور -إن حدث- قد يعكس ظروفًا ثقافية متغيرة؛ فالجيل الجديد والتغير الاجتماعي قد يتجاوزان حدود الفرد، وعلى الرغم من أن المسن يعطي انطباعًا أنه تدهور في أدائه، إلّا أن ما حدث قد يكون أنه ظل ثابتًا ومستقرًّا في أدائه، ولكن المجتمع هو الذي غيَّرَ من ظروفه ومستوياته ومطالبه.
ويرى باحثون آخرون أن العوامل المرتبطة بالصحة الجسمية ترتبط بنقص الأداء في مرحلة العمر الثالث للإنسان؛ ففي الدراسة الكلاسيكية التي قام بها بيرن وزملاؤه "Birren، et al.، 1963" تناولوا النشاط الفسيولوجي والعقلي والوجداني عند الصغار والمسنين، وقد صُنِّفَ المسنون إلى مجموعتين: إحداهما تشمل أولئك الذين يعيشون في مستوى أمثل للصحة، والمجموعة الثانية تشمل أولئك الذين ليست لديهم أعراض كلينيكية واضحة للمرض، ولكنهم من نوع الحالات شبه الكلينيكة Subclinical، من خلال الفحوص المتعمقة، وقد لوحظ أن المجموعة الأخيرة كانت أدنى في أدائها في اختبار للذكاء ليس فقط بالنسبة للمجموعات الأصغر سنًّا، وإنما بالنسبة أيضًا لمجموعة المسنين الأكثر منهم صحة، إلّا أن النتيجة التي تستحق الذكر بالنسبة للذكاء خاصةً أن مجموعتي المسنين تفوقتا على المجموعات الأصغر سنًّا في الذكاء اللغوي، والقدرة العددية، وكان العكس صحيحًا بالنسبة للسرعة "كما تقاس بزمن الرجع"، وهذه النتيجة تدعم مرة أخرى فرض أن القدرتين اللغوية والعددية لا تتدهوران مع العمر، بل قد تستمران في الزيادة، بينما المهارات المعتمدة على سرعة التوصيل العصبي المركزي أظهرت تدهورًا مرتبطًا بالعمر، وهذه الدراسة لها أهمية خاصة لأنها أشارت إلى الأثر السلبي للمرض، حتى ولو كان بدرجة خفيفة، في النشاط العقلي للمسنين؛ فحين
يكون المسنون متحررين من المرض ولو نسبيًّا، وهو أمر نادر الحدوث، فإن الفروق بين المسنين وغيرهم تكون ضئيلة باستثناء بطء نشاط الجهاز العصبي المركزي.
وهناك تفسير آخر في ضوء التفاعل الاجتماعي للمسنين؛ فالأشخاص الذين يكونون منعزلين اجتماعيًّا، كما هو الحال بالنسبة لكثيرٍ من المسنين، تتاح لهم فرص أقل لممارسة مهاراتهم العقلية بالمقارنة بغيرهم ممن هم أكثر نشاطًا من الوجهة الاجتماعية؛ فالتواصل والحوار المحدود بين المسنين وغيرهم يعوقهم عن استقبال المعلومات وعن الاستفادة من التغذية الراجعة من الآخرين، والتي تلعب دورًا هامًّا في تصحيح أخطاء الإدراك، وخفض التمركز حول الذات، وبوجهٍ عامٍّ، استثارة النمو المعرفي، وقد دعمت هذا التفسير دراسة "Dolen Bearison 1982".
ويوجد تفسير أخير يميز فيه أصحابه بين الكفاية competence والأداء performance "Flavell Wohlmill 1969". ومن الوجهة الفنية يمكن القول أن الكفاية هي ما يعرفه الشخص أو يستطيع القيام به في صورة ما يجب أن يكون، بينما الأداء يمثل ما يقوم به الفرد بالفعل، وباستخدام هذا التمييز فإن فلافل وزميله يريان أن الأداء المتناقص لدى المسنين لا يشير بالضرورة إلى نقص الكفاية، ومن ذلك مثلًا أن المسنين قد يؤدون أداءً سيئًا بسبب نقص الدفاعية، كأن ينفروا من المواد الشبيهة باللعب في مهام بياجيه أو يفشلوا في تكوين علاقة طيبة مع باحثين أصغر منهم سنًّا، أو يأنفوا من الاستماع للتعليمات، وفي بعض الحالات فإن كفايتهم قد تكون عالية إلّا أن مهاراتهم ربما يكون قد علاها "الصدأ"، وهكذا فإن تدهور الوظائف المعرفية في الشيخوخة قد يمثل فجوة أكثر اتساعًا بين الكفاية والأداء أكثر منه نكوصًا إلى الوراء، وإذا كان هذا صحيحًا فإن أداء المسنين يمكن أن يتحسن.
ويثير ذلك مسألة قابلية التدهور المعرفي للتحول إلى ضده Reversibility ويذكر "Schaie، 1994" أن الأدلة الراهنة تؤكد أن التدخل المعرفي يؤدي إلى تحسن التدهور العقلي لدى المسنين، ويختزل الفروق بين الأعمار لدى المسنين الذين على الرغم من أن أداءهم يظل ثابتًا عبر الزمن يعانون من ظروف غير ملائمة، بالمقارنة بمن هم أصغر منهم سنًّا، بشرط عدم حدوث تدهور في الوظائف المخية.