الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثانيًا: النمو الإنساني في السنة النبوية الشريفة
السنة النبوية المطهرة، وهي ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقوال وأفعال وتقارير، هي تفصيل لما أجملته آيات الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز، وهي السلوك العملي والممارسة الفعلية لمبادئ الإسلام كما حددها القرآن الكريم، وقد ورد في الحديث الصحيح إشارات إلى تفصيل بعض ما أجمله القرآن الكريم في مجال النمو الإنساني، نتناولها فيما يلي:
1-
في مرحلة ما قبل الولادة:
"أ" يوضح الحديث الشريف طبيعة النطفة الذكرية بقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي أخرجه مسلم: "ما من كل الماء يكون الولد" ، ومعنى ذلك أن الجنين يتكون من جزء يسير من المني، وفي هذا تفصيل لمعنى الآية القرآنية {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} والسلاسلة كما أشرنا في القسم الأول من هذا الفصل تعني الخلاصة، والماء المهين هو المني.
ب- كما يحدد الحديث النبوي طبيعة المضغة المخلقة وغير المخلقة، فقد روي عن عبد الله بن مسعود فيما أخرجه ابن أبي حاتم وغيره، وذكره ابن رجب في "جامع العلوم والحكم"، وابن القيم في "طريق الهجرتين" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"النُّطفة إذا استقرَّتْ في الرَّحم جاءها مَلَكٌ فأخذها بكفه، فقال: أي ربِّ، مخلَّقة أم غير مخلَّقة؟ فإن قيل: غير مخلَّقة، لم تكن نسمة، وقذفتها الأرحام، وإنْ قيل: مخلَّقة، قالَ: أي ربِّ، أذكرٌ أم أنثى؟ شقيٌّ أم سعيد؟ ما الأجل؟ وما الأثرُ؟ وبأيِّ أرضٍ تموتُ؟ " وفي هذا الحديث الشريف تفصيل صريح لمعنى المضغة غير المخلقة بأنها تعني السقط.
ج- وإذا كانت النطفة المؤنثة لم ترد صريحة في القرآن الكريم، فقد أوردتها السنة المطهرة تفصيلًا لآيات الله في كتابه العزيز، فقد أخرج مسلم في مسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لليهودي الذي سأله من أيّ شيء يخلق الإنسان؟ "يا يهودي: من كلٍّ يخلق، من نطفة الرجل ونطفة المرأة" وفي هذا توضيح صريح لطبيعة النطفة الأمشاج، والتي أجمع المفسرون على أنها تعني نطفة الرجل ونطقة المرأة إذا اجتمعا.
ويتضح الإعجاز العلمي للقرآن الكريم والسنة المطهرة في هذا السياق إذا درسنا معتقدات الأطباء حتى زمن متأخر جدًّا بعد عصر البعثة النبوية الشريفة، والتي يرويها ابن حجر العسقلاني الذي عاش بين عامي 773
هـ ،520هـ "أي: بعد تسعة قرون من الرسالة المحمدية" يقول: "زعم كثير من أهل التشريح أن منيّ الرجل لا أثر له في الولد إلّا في عقدة، وأنه إنما يتكون من دم الحيض" وقد كانت هذه هي نظرية أرسطو الأساسية في تكوين الجنين، وقد فند ابن حجر هذه المزاعم في ضوء الأحاديث النبوية الشريفة؛ لأنها صريحة في الإشارة إلى أن الولد إنما يخلق من نطفة المرأة ونطفة الرجل "محمد على البار، 1986".
د- جاء في الصحيحين البخاري ومسلم عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "وَكَّلَ اللَّهُ بِالرَّحِمِ مَلَكًا فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ نُطْفَةٌ؟ أَيْ رَبِّ عَلَقَةٌ؟ أَيْ رَبِّ مُضْغَةٌ؟ فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَقْضِيَ خَلْقَهَا قَالَ: أَيْ رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ فَمَا الرِّزْقُ؟ فَمَا الْأَجَلُ؟ فَيُكْتَبُ كَذَلِكَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ".
وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي ورد في الصحيحين أيضًا عن عبد الله بن مسعود إلى الفترة الزمنية التي يقضيها الجنين في مراحل نموه المختلفة في قوله: "إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ" ومعنى الحديث الشريف أن الجنين ينمو في مراحل ثلاث هي: تجميع الخلق وتستمر40 يومًا، وتكون العلقة والمضغة وتستمر ما قبل 120يومًا، والجنين المكتمل التكوين يبدأ من بعد ذلك، وتستمر حتى لحظة الوضع والولادة.
كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم: "إِذَا مَرَّ بِالنُّطْفَةِ ثِنْتَانِ وَأَرْبَعُونَ لَيْلَةً بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهَا مَلَكًا فَصَوَّرَهَا وَخَلَقَ سَمْعَهَا وَبَصَرَهَا وَجِلْدَهَا وَلَحْمَهَا وَعِظَامَهَا".
ومن جوانب الإعجاز العلمي في السنة النبوية المطهرة -فيما يتصل بهذين الحديثين الشرفين- ما أكده علم الأجنة من أن انقضاء أربعين يومًا يعد شرطًا جوهريا حتى تتمايز النطفة "اللاقحة" أو"الزيجوت" من خلية واحدة إلى جنين طوله سنتيمتر واحد تجتمع فيه جميع الإمكانات اللازمة للتمايز العادي وظهور جميع الأعضاء الأساسية، ومع بلوغ الجنين يومه الثاني والأربعين تبدأ العظام في التكوين، ويبدأ الجنين في النمو السريع Simpsan، et al، 1985 & Persaud، أي أن الحدود الزمنية لبداية التخليق التي جاءت في الحديثين الشريفين "40 يوما" و"42 ليلة" لم يكتشفها العلم الحديث إلّا بعد انقضاء أربعة عشر قرنًا.
2-
مراحل النمو بعد الولادة:
أ-0 يحدد الحديث النبوي مراحل ما بعد الولادة، فقد ورد في الحديث الصحيح، عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الغلام يعق عنه -أي: تذبح عنه العقيقة- يوم السابع، ويسمى، ويماط عنه الأذى، فإذا بلغ ست سنين أدب، فإذا بلغ تسع سنين عزل فراشه، فإذا بلغ ثلاث عشرة سنة ضرب على الصلاة، فإذا بلغ ست عشرة سنة زوجه أبوه، ثم أخذ بيده وقال: "قد أدبتك وعلمتك وأنكحتك، أعوذ الله من فتنتك في الدنيا وعذابك في الآخرة، ويذكر الإمام الغزالي في "إحياء علوم الدين" أن هذا الحديث أخرجه أبو الشيخ بن حيان في كتاب "الضحايا والعقيقة" إلّا أنه قال:"وأدبوه لسبع، وزوجوه لسبع عشرة".
وفي هذا الحديث الشريف تمييز واضح بين المراحل الآتية:
1-
مرحلة الوليد "الأسبوع الأول من حياته".
2-
مرحلة ما قبل التمييز: ما قبل سن السادسة "وفي أحاديث صحيحة أخرى ما قبل سن السابعة".
3-
مرحلة التمييز: وهي التي يبدأ فيها تأديب الطفل "أو تعليمه المنظم".
4-
مرحلة البلوغ الجنسي: وعندها يبدأ التكليف بالعبادات.
5-
مرحلة الرشد: ومؤشرها الأساسي الزواج.
ب- وتحدد أحاديث نبوية أخرى مؤشرًا هامًّا لسن التمييز وهو الأمر بالصلاة، ومنها الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود أن الرسول عليه السلام قال:"مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع" ومعنى ذلك: أن حقوق الله تعالى تصحّ عن الصبي المميز؛ كالأيمان والصلاة والصيام والحج، ولكن لا يكون ملزمًا بأداء العبادات إلّا على مهمة التأديب والتهذيب، ولا يستتبع فعله عهدة في ذمته، فلو شرع في صلاة لا يلزمه المضي فيها، ولو أفسدها لا يجب عليه قضاؤها" "وهبة الزحيلي، 1984".
ج- وتحدد أفعال الرسول عليه السلام وأقواله الشريفة طرق معاملة الوالدين للأبناء ومنها:
1-
حسن أدب الطفل وحسن اختيار اسمه، يقول عليه الصلاة والسلام:"من حق الولد على الوالد أن يحسن أدبه ويحسن اسمه"، أخرجه البيهقي.
2-
المساواة في المعاملة: يقول صلى الله عليه وسلم: "ساووا بين أولادكم في العطية".
3-
الرحمة والرأفة بالصغير: فعن عائشة رضي الله عنها قالت: "قَدِمَ نَاسٌ مِنْ الْأَعْرَابِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: أَتُقَبِّلُونَ صِبْيَانَكُمْ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ، فَقَالُوا: لَكِنَّا وَاللَّهِ مَا نُقَبِّلُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَمْلِكُ إِنْ كَانَ اللَّهُ نَزَعَ مِنْكُمْ الرَّحْمَةَ" متفق عليه في البخاري ومسلم.
وكذلك رأى الأقرع بن حابس النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقبل ولده الحسين بن علي رضي الله عنهما فقال: "إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنْ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ: مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ" أخرجه البخاري ومسلم عن حديث لأبي هريرة.
وقال عبد الله بن شداد: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس إذ جاءه الحسين فركب عنقه وهو ساجد،، فأطال السجود بالناس حتى ظنوا أنه قد حدث أمر، فلما قضى صلاته قالوا: قد أطلت السجود يا رسول الله حتى ظننا أنه قد حدث أمر، فقال:"إن ابني قد ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته" رواه النسائي والحاكم.
د- تحدد الأحاديث النبوية الشريفة حقوق الوالدين على الولد، فقد قال عليه السلام:"لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدًا إِلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ" أخرجه مسلم.
وقال أيضًا: "بر الوالدين أفضل من الصلاة والصدقة والصوم والحج والعمرة والجهاد في سبيل الله".
وقال أيضًا: "بر أمك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك فأدناك". أخرجه النسائي وأحمد والحاكم.
3-
في الوراثة والبيئة:
أ- يشير الحديث الصحيح إلى أن الوراثة تتحدد مع تكوين الجنين، يقول صلى الله عليه وسلم: إن النطفة إذا استقرت في الرحم أحضرها الله
تعالى كل نسب بينها وبين أدم؟. أخرجه ابن جرير، وقد أشرنا في القسم السابق إلى أن التقدير الوراثي على مستوى الجينات لم يكتشف إلّا في مطلع القرن العشرين.
ب- من الأحاديث الصحيحة التي تؤكد أهمية الوراثة في تكوين الجنين ونموه قوله صلى الله عليه وسلم: $"تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس" أخرجه ابن ماجه والديلمي، كما أكدت أحاديث صحيحة أخرى دور البيئة، ومنها قوله عليه الصلاة والسلام:"إياكم وخضراء الدمن" قالوا وما خضراء الدمن؟ قال: "المرأة الحسناء في المنبت السوء" أخرجه الدارقطني، وقد كشفت البحوث الحديثة في ميدان وراثة السلوك الأثر التفاعلي لكل الوراثة والبيئة.
ج- سبقت الأحاديث النبوية الشريفة العلم الحديث في الإشارة إلى ظاهرة الصفات المتنحية التي لم يكشف عنها العلم الحديث أيضًا إلّا في القرن العشرين، فقد أُثِرَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلًا من الأنصار أقبل عليه فقال له: يا رسول الله هذه بنت عمي، وأنا فلان حتى عدَّ عشرة من آبائه، وهي ابنة فلان حتى عدَّ عشرة من آباء ها، وليس في حسبي ولا في حسبها حبشي، وإنها وضعت هذا الحبشي، فأطرق النبي عليه السلام ثم رفع رأسه وقال له:"إن بك تسعة وتسعين عرقًا، ولها تسعة وتسعين عرقًا، فإذا اشتملت اضطربت العروق، وسألت الله عز وجل كل عرق منها أن يذهب الشبه إليه، قم فإنه ولدك، ولم يأتك إلّا من عرق منك أو عرق منها".
وفي حديث آخر عن أبي هريرة قال: "جاء رجل من بني فزاره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ولدت امرأتي غلامًا أسود، وهو يعرض بأن ينفيه، فقال رسول الله عليه السلام: "هل لك من إبل؟ " قال: نعم، قال: "ما ألوانها؟ " قال: حمر، قال: "هل فيها من أروق -أسمر أو ما كان لونه كلون الرماد؟ " قال: إن فيها لورقًا، قال: "فأنى أتاها ذلك؟ " قال: عسى أن يكون نزعه عرق، قال: "فهذا عسى أن يكون نزعه عرق"، ولم يخرص له في الانتفاء منه" متفق عليه عند البخاري ومسلم وأصحاب السنن الأربعة والدارقطني.
د- الفطرة -ومن شواهدها الوراثة- لا تعمل في فراغ بيئي، وأهم البيئات التي تؤثر في نمو الطفل الأسرة، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه
…
".
وفي هذا كشف نبوي شريف آخر لحقائق التفاعل بين البيئة والوراثة.
هـ- وجهت السنة الشريفة نظام الأسرة بحيث تصبح بيئة صالحة لنمو الأطفال، وهناك ثروة هائلة من الأحاديث النبوية الصحيحة حول نظام الأسرة الإسلامي، تفيض بها كتب الفقه الإسلامي، ويمكن للمهتم الرجوع إليها في مصادرها الأصلية.