الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قرار التقاعد:
ليس هينًا على الإنسان أن يقرر التقاعد؛ فكثيرٌ من المسنين يشعرون عند التقاعد بأنهم طردوا من أعمالهم لا لسبب إلّا لبلوغهم سن المعاش، وهذا ما يُسَمَّى التقاعد الإجباري، والذي يحدده سن البلوغ التقاعد "أو بلوغ المعاش" الرسمي، وحالما يتقاعد المرء فإنه ينسحب في الأغلب من سوق العمل؛ إما بسبب التمييز المهني الذي أشرنا إليه، أو بسبب شعور المسنين أن تقدمهم في السن لا يسمح لهم بالعمل، على الرغم من أنهم حين يسألون فإن أغلبيتهم تفضل أن تستمر في العمل لما بعد سن المعاش، وفي نفس الوقت هناك من يقررون التقاعد قبل بلوغ سن المعاش القانوني، ويُطلَقُ على هذا النوع "التقاعد الاختياري"، وهؤلاء قد تكون لهم موارد مالية ملائمة، بالإضافة إلى ما توفره لهم خطط المعاش من موارد إضافية، وبعض من يفضلون التقاعد المبكر يقررون ذلك للحصول على الراحة أو لقضاء وقتٍ أطول مع الأسرة "وخاصة بالنسبة للزوجة العاملة"، ومن المصريين من يفعل ذلك لأسباب جديدة طرأت حديثًا على المجتمع؛ فكثير من الذين خرجوا للعمل في البلدان العربية -وخاصة خلال حقبة النفط- قرروا التقاعد المبكر من أعمالهم الأصلية في مصر "والذي يُسَمَّى إداريًّا ضم مدة الخدمة" إيثارًا للبقاء في هذه الدول الغنية، ومعظم هؤلاء من المهنيين الأكفاء والحرفيين المهرة، وقد أدى ذلك إلى خلل كبير في بنية الثروة البشرية في مصر، وفي هذه الأحوال يلعب العامل الاقتصادي الدور الحاسم في التقاعد المبكر.
وقد ظهر خلال التسعينات ما يُسَمَّى "المعاش المبكر" مع تطور برنامج الإصلاح الاقتصادي في مصر، والذي يتوجه إلى تقليص حجم "القطاع العام"، والتوجه مع سياسة التحرر الاقتصادي إلى تشجيع الاستثمارات الخاصة، ويقصد بالمعاش المبكر تشجيع العاملين بالقطاع الحكومي على ترك العمل مبكرًا مع تعويض مادي مناسب يمكن استثماره من خلال مساعدة الصندوق الاجتماعي للتنمية، وقد وضعت هذه السياسة لمواجهة مشكلة "العمالة الزائدة" والبطالة المقنعة، في القطاع العام خاصةً، والتي تُعَدُّ إحدى المشكلات المزمنة فيها منذ ظهوره في الستينات وأثرت في كفاءته وفعاليته.
وهكذا فإن العوامل التي تحدد قرار التقاعد المبكر معقدة متشابكة، فهي تشمل الظروف الصحية للراشد، وموقفه المالي، وطبيعة مهنته، ودرجة رضائه عن عمله، واتجاهاته نحو التقاعد، والظروف الاقتصادية للمجتمع الذي يعيش فيه؛ ففي دراسةٍ أجريت على عمال صناعة السيارات وجد الباحثون أن ضعف الصحة والدخل غير المناسب وعدم الرضا عن العمل والاتجاهات الإيجابية نحو التقاعد، كانت جميعًا العوامل التي أدت إلى التقاعد المبكر. وفي بعض الأعمال التي تلعب فيها المهارات الجسمية دورًا حاسمًا يكون التقاعد المبكر إجباريًّا، ومن ذلك المهن العسكرية "وخاصة في القوات المسلحة" التي يحال معظم أصحابها إلى الاستيداع قبل سن الخمسين "1985 perlmutter & hall"، ويلعب العامل الاقتصادي الدور الحاسم لدى أولئك الذين يتوقعون لدخلهم بعد المعاش أن يهيئ لهم حياة راضية،
أو أولئك الذين يجدون في حياتهم في بيئة جديدة فرصًا أفضل للاستقرار الاقتصادي "ومن ذلك مثال العاملين الذين استقروا في الدول العربية البترولية الذي أشرنا إليه".
وتلعب ظروف العمل دورًا هامًّا في قرار التقاعد المبكر في بعض المهن.
ففي دراسةٍ قام بها "1978 quinn" وجد أن الظروف المادية السيئة للعمل؛ مثل: الضجيج والروائح الكريهة ودرجات الحرارة المتطرفة، بالإضافة إلى عوامل أخرى مثل: عدم وجود فرص للمشاركة في اتخاذ القرارات والإجهاد الجسمي والنفسي المصاحب للعمل، ترتبط كلها بقرارات التقاعد، إلّا أن ما يلفت النظر أن ظروف العمل وجدت أكثر ارتباطًا بالتقاعد وقت سن المعاش أكثر من ارتباطها بالتقاعد المبكر، أما عدم الرضا عن العمل تحتل مكانه هامة لديه، ومعنى ذلك أن العوامل "النفسية" تفوق في أثرها "الطارد" من العمل العوامل المادية، ولعل مما يدعو للتأمل أن هذه الظروف النفسية أشد وطأة وأكبر تأثيرًا في الشخص حين يكون شغوفًا بعمله محبًّا له. إنه يتقاعد مبكرًا -كارهًا بالطبع- تاركًا عمله الذي يحبه يسبب ظروف غير عادية منفرة صنعتها قوى مدمرة فيه، قد تكون إدراة سيئة للمصنع أو المؤسسة.
ويؤثر في استمرار الشخص في عمله إلى بلوغ سن المعاش وربما بعده -إذا سمحت نظم العمل بذلك- عوامل هامة، على رأسها المستوى التعليمي للشخص، ثم طبيعة المهنة، والاعتبارات المالية أيضًا، فقد تأكَّد أن الراشدين من المستويات التعليمية العليا، والذين يحظون بمكانة عالية في مهنتهم، يميلون إلى الاستمرار فيها حتى ولو بعد المعاش، ومن ذلك مثلًا: أن معظم المهن الجامعية في مختلف البلدان تسمح لأصحابها بالاستمرار فيها لسنوات طويلة حتى بعد التقاعد الرسمي "نظام الأساتذة المتفرغين وغير المتفرغين"، ويصدق ذلك على العاملين في سلك القضاء، كما يصدق أيضًا على ذوي الكفاءات الرفيعة في أي مجال1. كما تؤكِّدُ البحوث أيضًا أن الأشخاص من ذوي المستوى الاقتصادي الاجتماعي المرتفع تتوافر لهم فرص أكثر للعمل ودوافع للاستمرار فيه، وبالطبع فإن
1 أثيرت في الصحف المصرية خلال الفترة الأخيرة "1997-1998" مسألة العاملين الذين يبقون في وظائفهم القيادية بعد سن المعاش، والذين يعملون تحت مُسَمَّى "مستشارين"، ويبلغ عددهم بضعة آلاف، وقد نبه إلى الحاجة إلى ترشيد هذه الممارسة وزير التنمية الإدراية ورئيس الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة.
الأشخاص الذين يديرون مشروعاتهم الشخصية "في القطاع الخاص؛ كالحرفيين والمقاولين وصغار التجار"، والذين يمارسون المهن الحرة "كالأطباء والمحامين"، والذين يقومون بأعمال ذاتية النشاط مثل الفنانين والباحثين والعلماء، يستمرون في أداء عملهم بلا حدود زمنية، ولا يتأثرون بنظم التقاعد، كما أن هناك -كما أشرنا- أولئك الذين يتقاعدون من إحدى المهن ليعملوا في مهنة أخرى، أو يستمرون في أداء نفس المهنة ولكن في مؤسسة أخرى، أو في بلد آخر، فالتقاعد -بالمعنى الاصطلاحي- لا ينطبق إلّا على أولئك الذين يعملون لدى الغير، سواء في القطاع أو العام أو الحكومي، ومن المهم أن نشير هنا إلى أن معظم النتائج السابقة تصدق على الرجال دون النساء؛ فبالنسبة للمرأة العاملة وجد الباحثون في الغرب أن أقوى المنبئات بتقاعدها هو متغير العمر فقط "George، et al.، 1980"، كما أن نسبة التقاعد الاختياري بين النساء أكبر منها بين الرجال "Hattis، et al.، 1975" وبالطبع فإن هذه النتائج لا تقبل النقل المباشر إلى ثقافات أخرى، ونحن في حاجة إلى دراسات حول هذ الموضوع في بيئاتنا، وخاصةً بعد أن تزايدت قيمة العمل لدى المرأة المصرية والعربية المعاصرة.
أما عن الاتجاهات نحو العمل والتقاعد، فعلى الرغم من أهميتها إلّا أنها ليست بقوة العوامل السابقة، كما أن أثرها في قرار التقاعد قد يكون على نحوٍ غير مباشر؛ فالاتجاهات نحو العمل قد تحدد للمسن قراره بالاستمراره في عمله بعد التقاعد، سواء لبعض الوقت أو كل الوقت. أما عن عامل الصحة الجسمية فقد تناقضت النتائج حوله حسب طبيعة منهج البحث المستخدم؛ ففي الدراسات المستعرضة كانت له أهمية واضحة، ولكنه في الدراسات الطولية لم يرتبط إلّا قليلًا بقرار التقاعد، ومع ذلك فإن المتخصصين في ميدان سيكولوجية المسنين يرون أن ضعف الصحة سبب مقبول اجتماعيًّا للتقاعد، ولهذا فعندما يسترجعه المسن -في الدراسات المستعرضة- يبالغ في تقدير أهميته، وعمومًا إذا اجتمع عامل ضعف الصحة مع نظام التقاعد الإجباري، فإن ذلك يسبب صعوبات جمة لتكيف المسنين.
ويوجد في الوقت الحاضر اتجاه في علم الإدارة نحو تفضيل عمرمتغير للتقاعد يسمح بأن يختلف من مهنة لأخرى ومن فرد لآخر، وهذ المبدأ يتفق بالطبع مع مبدأ الفروق الفردية في السلوك الإنساني، وهذا ما يسميه فؤاد البهي السيد "1975""بالتقاعد الفارق"، ويمكن أن نلخص أهم الأسس التي يجب الاعتماد عليها في حساب التقاعد بهذه الطريقة على النحو الآتي: