الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث
في حكم العارية
[م-2090] اختلف العلماء في حكم العارية بعد إجماعهم على مشروعيتها:
القول الأول:
ذهب أكثر أهل العلم من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة إلى أن الأصل في العارية أنها مندوبة إليها، وليست واجبة
(1)
.
قال ابن قدامة: العارية مندوب إليها وليست واجبة في قول أكثر أهل العلم»
(2)
.
وقد يعرض للعارية الأحكام التكليفية الخمسة، وهذا متفق عليه عند الجمهور وإن كانت الأمثلة قد تختلف من مذهب لآخر:
فقد تكون العارية واجبة كإعارة سكين لذبح مأكول يخشى موته، وإعارة المضطر إلى ما يستر عورته إذا لم يكن قادرًا على الاستئجار.
وقد تكون محرمة: كإعارة ما يعين على المعصية، ومثل له بعض الفقهاء بإعارة الأمة لأجنبي لا يؤمن على وطئها، وإعارة دار لمن يتخذها كنيسة، أو يشرب فيها مسكرًا.
(1)
العناية شرح الهداية (9/ 6)، درر الحكام شرح مجلة الأحكام (2/ 335)، حاشية ابن عابدين (8/ 381)، الشرح الكبير للدردير (3/ 433)، الخرشي (6/ 121)، التاج والإكليل (5/ 268)، المهذب (1/ 326)، مغني المحتاج (2/ 264)، أسنى المطالب (2/ 324)، المغني (5/ 128)، الإنصاف (6/ 102).
(2)
المغني (5/ 128).
وقد تكون مستحبة كما لو كان يستعين بها على أمر مشروع، كاستعارة الكتب النافعة.
وقد تكون مكروهة: كإعارة ما يعين على الوقوع في المكروه. وقد تكون مباحة كإعارة من له ثوب مستغن عنه لمن له ثياب كثيرة
(1)
.
القول الثاني:
ذهب بعض أهل العلم إلى أن العارية واجبة، قاله بعض الحنفية، وقال ابن تيمية: تجب العارية مع غنى المالك، وهو أحد القولين في مذهب أحمد
(2)
.
جاء في مجمع الأنهر: «وهي ـ يعني العارية ـ مشروعة بالكتاب والسنة، والإجماع، وإنما اختلفوا في كونها مستحبة، وهو قول الأكثر، أو واجبة، وهو قول البعض»
(3)
.
دليل من قال: العارية مستحبة:
الدليل الأول:
(ح-1258) ما رواه البخاري من طريق مالك بن أنس، عن عمه أبي سهيل بن
(1)
مواهب الجليل (5/ 268)، التاج والإكليل (5/ 268)، منح الجليل (7/ 50)، نهاية المحتاج (5/ 118)، حاشية الجمل (3/ 452)، مطالب أولي النهى، كشاف القناع (4/ 63).
(2)
حاشية ابن عابدين (8/ 381)، مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر (3/ 480)، الإنصاف (6/ 102)، الاختيارات الفقهية (ص: 158).
(3)
مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر (3/ 480)، وانظر حاشية ابن عابدين (8/ 381)، الاختيارات الفقهية (ص: 158).
مالك، عن أبيه،
أنه سمع طلحة بن عبيد الله يقول: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر الرأس، يسمع دوي صوته، ولا يفقه ما يقول حتى دنا، فإذا هو يسأل عن الإسلام، وفيه: وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة، فقال: هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع. قال: فأدبر الرجل، وهو يقول: والله لا أزيد على هذا، ولا أنقص، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلح إن صدق
(1)
.
وجه الاستدلال:
أن الرسول عليه السلام بين أنه لا يجب على الإنسان شيء في ماله إلا الزكاة فلو كانت العارية واجبة لذكرها.
الدليل الثاني:
(ح-1259) ما رواه الترمذي من طريق دراج، عن ابن حجيرة،
عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك
(2)
.
[تفرد به دراج، والأكثر على ضعفه وله شاهد حسن من حديث جابر]
(3)
.
(1)
صحيح البخاري (46)، ورواه مسلم (13).
(2)
سنن الترمذي (618).
(3)
ومن طريق دراج رواه ابن الجارود في المنتقى (325)، وابن ماجه في سننه (1788)، وابن زنجويه في الأمول (1383)، وابن خزيمة في صحيحه (2314)، وابن حبان في صحيحه (3216)، والحاكم في المستدرك (1/ 390)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 83).
وله شاهد من حديث جابر رواه ابن خزيمة في صحيحه (2111) وابن المقرئ في معجمه (42)، والخطيب البغدادي في تاريخه (6/ 288)، عن يونس بن عبد الأعلى.
والحاكم في المستدرك (1/ 390) ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى (4/ 83)، من طريق هارون بن سعيد الأيلي، كلاهما عن ابن وهب، أخبرني ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أديت زكاة مالك فقد ذهب عنك شره.
ورواه الطبراني في الأوسط (1579) من طريق المغيرة بن زياد، عن أبي الزبير به. والمغيرة مختلف فيه، ولعل حديثه لا ينزل عن مرتبة الحسن، فهو شاهد قوي لحديث أبي هريرة، والله أعلم.
الدليل الثالث:
(ح-1260) ما رواه ابن ماجه حدثنا علي بن محمد، حدثنا يحيى بن آدم، عن شريك، عن أبي حمزة، عن الشعبي،
عن فاطمة بين قيس أنها سمعت يعنى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ليس في المال حق سوى الزكاة
(1)
.
[هذا حديث ضعيف، والمعروف أن لفظه: إن في المال لحقًا سوى الزكاة، فلا دليل فيه]
(2)
.
(1)
سنن ابن ماجه (1789).
(2)
هكذا رواه علي بن محمد عن يحيى بن آدم، وقد رواه الطبري في تفسيره (3/ 80) حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يحيى بن آدم به، بلفظ: إن في المال لحقًا سوى الزكاة. وعلى هذا أكثر الرواة.
فقد رواه الترمذي (659) والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 84)، من طريق الأسود بن عامر.
ورواه الترمذي (660)، والدارمي (1637)، والطبراني في المعجم الكبير (979) من طريق محمد بن الطفيل.
ورواه الطبري في تفسيره (3/ 80) الطحاوي في شرح معاني الآثار (2/ 27) من طريق أسد بن موسى
ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره (1548) من طريق يحيى بن عبد الحميد الحماني.
ورواه الدارقطني (2/ 125) من طريق بشر بن الوليد.
كلهم رووه عن شريك، عن أبي حمزة به. بلفظ: إن في المال لحقًا سوى الزكاة.
وقد رواه الطبراني في المعجم الكبير (979) من طريق حجاج بن منهال، عن حماد بن سلمة، عن أبي حمزة به.
وهذه متابعة من حماد بن سلمة لشريك، فخرج شريك من عهدته، وصار الحديث مداره على أبي حمزة.
فأخشى أن يكون لفظ ابن ماجه قد انقلب على الراوي، فبدلاً من أن يقول: إن في المال لحقًا سوى الزكاة، قال: ليس في المال حق سوى الزكاة.
وقد اعتبر الحافظ ابن حجر أن الحديث مضطرب، وهذا يعني عدم الترجيح بين اللفظين:
فقال ابن حجر في التمثيل لاضطراب المتن، قال: «ومنه أيضًا حديث فاطمة بنت قيس قالت: سألت أو سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الزكاة، فقال: إن في المال لحقًا سوى الزكاة. فهذا حديث قد اضطرب في لفظه ومعناه، فرواه الترمذي هكذا من رواية شريك، عن أبي حمزة، عن الشعبي، عن فاطمة.
ورواه ابن ماجه من هذا الوجه بلفظ: ليس في المال حق سوى الزكاة، فهذا اضطراب لا يحتمل التأويل
…
».
قلت: لا يمكن القول بأن الطريقين واحد، فالرواة كلهم رووه عن شريك بلفظ: إن في المال لحقًا سوى الزكاة، إلا ما ذكره ابن ماجه عن يحيى بن آدم، عن شريك، وقد اختلف على يحيى بن آدم، فروي الطبري عن أبي كريب، عن يحيى بن آدم بما يوافق رواية الجماعة، فلا يمكن أن يقال إن روية يحيى بن آدم عن شريك مساوية لرواية جمع من الرواة عن شريك، كيف وقد اختلف على يحيى بن آدم. فالترجيح في الحديث ـ والله أعلم ـ أن يقال: إن المعروف من الحديث لفظ: إن في المال لحقًا سوى الزكاة، وهو بهذا اللفظ ليس فيه دليل على وجوب العارية.
الدليل الرابع:
(ح-1261) قال صلى الله عليه وسلم: لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه
(1)
.
(1)
معنى الحديث ثابت في الصحيحين من حديث أبي بكرة عند البخاري (1741) ومسلم (1679)، ورواه البخاري (1739) من حديث ابن عباس (1739)، ومسلم من حديث جابر (1218). وحرمة مال المسلم مقطوع به، مجمع عليه. هذا من حيث الفقه
وأما دراسة الحديث من حيث الإسناد، فحديث (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه منه) سبق تخريجه في عقد الشفعة، في مبحث (الشفعة على وفق القياس) فانظره هناك مشكوراً.
الدليل الخامس:
الإعارة فيها شبه بالقرض، فالقرض تمليك للأعيان، والإعارة تمليك للانتفاع، وكلاهما يراد بهما الإرفاق والإحسان، ويرتدان بالرد، وإذا كان القرض لا يجب فكذلك العارية.
دليل من قال: العارية واجبة:
الدليل الأول:
(ث-324) ما رواه أبو داود من طريق عاصم بن أبي النجود، عن شقيق،
عن عبد الله بن مسعود، أنه قال: كنا نعد الماعون على عهد رسول الله عارية الدلو والقدر
(1)
.
[حسن وسبق تخريجه]
(2)
.
وجه الاستدلال:
أن الله سبحانه وتعالى توعد مانعي الماعون بالويل، فدل على أن إعارة الماعون واجبة.
ونوقش:
بأن الماعون قد فسر بالزكاة، فإن الماعون بلغة قريش هو المال، وحق المال إنما هو في الزكاة، وعلى فرض أن يكون المراد به العارية فليس المراد به مطلق العارية، وإنما يراد به العارية الواجبة، كإعارة الثوب للمضطر.
(1)
سنن أبي داود (1656).
(2)
انظر (ث: 322).
الدليل الثاني:
(ح-1262) ما رواه مسلم من طريق أبي الزبير عن جابر،
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من صاحب إبل ولا بقر لا يؤدي حقها إلا أقعد لها يوم القيامة بقاع قرقر، تطؤه ذات الظلف بظلفها، وتنطحه ذات القرن بقرنها ليس فيها يومئذ جماء ولا مكسورة القرن. قلنا: يا رسول الله وما حقها؟ قال: إطراق فحلها، وإعارة دلوها، ومنيحتها، وحلبها على الماء، وحمل عليها في سبيل الله .... الحديث
(1)
.
(ث-325) وقد روى الإمام أحمد من طريق أبي عمر الغداني، عن أبي هريرة موقوفًا عليه:
قال العامري: وما حق الإبل يا أبا هريرة؟ قال: أن تعطي الكريمة، وتمنح الغزيرة، وتفقر الظهر، وتسقي اللبن، وتطرق الفحل
(2)
.
[حسن لغيره]
(3)
.
الراجح:
أن الأصل في العارية الندب، وقد يعرض لها الأحكام التكليفية الخمسة.
* * *
(1)
صحيح مسلم (991).
(2)
مسند أحمد (2/ 489).
(3)
الغداني فيه ضعف، ورواه ابن أبي شيبة في المصنف ـ تحقيق عوامة (22678) والمروزي في البر والصلة (202) عن عكرمة بن عمار، عن علقمة بن الزبرقان، قال: قلت لأبي هريرة: ما حق الإبل؟ قال: أن تمنح الغزيرة، وأن تعطي الكريمة، ويطرق الفحل.
وعلقمة بن الزبرقان فيه جهالة، تفرد بالرواية عنه ابن أخيه عكرمة بن عمار، ولم يوثقه أحد إلا ابن حبان، فهذا الطريق يقوي الطريق السابق، والله أعلم.