الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشرط الرابع
أن يمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها
[م-2115] يشترط في العين المعارة أن يمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها، كإعارة الثوب للبس، والسكين للذبح، ويدخل في ذلك أيضًا الأعيان التي ينتفع بها مع بقاء أصولها فإنها تجري مجرى المنافع وإن كانت أعياناً مستهلكة، كثمر الشجر، ولبن الآدميات، والصوف والماء العذب، فإنه كلما خلق من هذه شيء فأخذ، خلق الله بدله مع بقاء الأصل كالمنافع سواء.
(ح-1263) وقد روى البخاري في صحيحه من طريق حسان بن عطية، عن أبي كبشة السلولي،
سمعت عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أربعون خصلة أعلاهن منيحة العنز ما من عامل يعمل بخصلة منها رجاء ثوابها، وتصديق موعودها إلا أدخله الله بها الجنة
(1)
.
قال ابن بطال: «المنيحة هى الناقة والشاة ذات الدر تعار للبنها، ثم ترد إلى أهلها، والمنحة عند العرب كالإفقار، والعمرى، والعارية، وهى تمليك المنافع لا تمليك الرقاب، ألا ترى قوله فى حديث أنس: فلما فتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم غنائم خيبر رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم وثمارهم. وقوله فى حديث جابر: (من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه)، إنما يريد يهبه الانتفاع بها ولا يكريها منه بأجر، يبين ذلك قوله فى حديث ابن عباس: (أما إنه لو منحها
(1)
صحيح البخاري (2631).
إياه لكان خيرًا له من أن يأخذ عليها أجرًا .... فدل أن المنحة غير إعطاء الرقاب؛ لأن إعطاء الرقاب قد تضمنته الزكاة، فدلت هذه الآثار على أن المنيحة التى حض النبى صلى الله عليه وسلم أمته عليها من الأرض والثمار والأنعام، هى تمليك المنافع لا تمليك الرقاب»
(1)
.
وأما إعارة الطعام فلا يصح أن يكون بذله من باب الإعارة؛ ذلك أن منفعته في أكله، فلا تبقى عينه، فإذا قال: أعرتك هذا الطعام كان ذلك كناية عن قرضه، لأنه يأكله ويرد بدله، وهذا حقيقة القرض، وإذا قال: منحتك إياه كان هبة؛ لأن لفظ المنيحة يصح استعماله في الإعارة وفي الهبة، فإن أضافه إلى ما تبقى عينه بعد استعماله كان عارية، وإن استعمله فيما يستهلك كان هبة.
جاء في الجوهرة النيرة: «ومن شرطها: أن تكون العين قابلة للانتفاع بها مع بقاء عينها، حتى لا تكون عارية الدراهم الدنانير والفلوس إلا قرضًا»
(2)
.
وفي تبيين الحقائق: «إذا قال: منحتك، إن كان مضافًا إلى ما يمكن الانتفاع به مع بقاء العين يكون إعارة، وإن أضاف إلى ما لا يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه كالدراهم، والطعام يكون هبة»
(3)
.
وقال الخرشي: «شرط صحة العارية الانتفاع بها مع بقاء عينها»
(4)
.
(1)
شرح البخاري لابن بطال (7/ 151).
(2)
الجوهرة النيرة (1/ 350)، وانظر الفتاوى الهندية (4/ 363).
(3)
تبيين الحقائق (5/ 84).
(4)
شرح الخرشي (6/ 123).
وجاء في حاشيتي قليوبي وعميرة: «وشرط المستعار كونه منتفعًا به مع بقاء عينه»
(1)
.
وقال ابن مفلح في الفروع: «تجوز إعارة ذي نفع جائز ينتفع به مع بقاء عينه»
(2)
.
° وجه اشتراط بقاء العين في العارية:
أن الإعارة تستلزم رد العين بعد الانتفاع، وما يستهلك بالانتفاع به كالطعام لا يمكن رده فيكون قرضًا.
* * *
(1)
حاشيتا قليوبي وعميرة (3/ 19).
(2)
الفروع (4/ 469)، وانظر الإنصاف (6/ 102)، شرح منتهى الإرادات (2/ 288)، كشاف القناع (4/ 63).
المبحث الأول
في إعارة النقود
[م-2116] تقدم لنا أن فقهاء الأئمة الأربعة يشترطون في العين المعارة أن يمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها، والسؤال: إذا أعاره نقودًا كما لو أعاره دراهم أو دنانير، فهل تصح أو لا، وإذا صحت هل تكون عارية؟
وللجواب على ذلك نقول: نص الحنفية، والشافعية، والحنابلة على أنه إن أعاره الدراهم والدنانير ليزن بها جازت إعارتها كالثياب؛ لأنه أمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها، وذكرها ابن قدامة، ولم يحك فيها خلافًا، وعليه فليس للمستعير استهلاكها، والانتفاع بها بغير الصورة المعينة
(1)
.
وقال المرداوي: «ذكر الأزجي خلافًا في صحة إعارة دراهم ودنانير للتجمل والزينة»
(2)
.
وإن استعارها لينفقها فقد اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول:
تصح إعارة الدراهم والدنانير، ويكون لفظ الإعارة كناية في القرض؛ وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، والحنابلة في المشهور
(3)
.
(1)
فتح القدير لابن الهمام (9/ 14)، الجوهرة النيرة (1/ 352)، درر الحكام شرح مجلة الأحكام (2/ 343)، تحفة المحتاج (5/ 414)، نهاية المحتاج (4/ 245)، روضة الطالبين (4/ 427)، المغني (5/ 131).
(2)
الإنصاف (6/ 105).
(3)
المبسوط (11/ 145)، تبيين الحقائق (5/ 87)، المغني (5/ 131).
° وجه القول بذلك:
الوجه الأول:
أن الإعارة إذن في الانتفاع، ولا يتأتى الانتفاع بهذه الأشياء إلا باستهلاك عينها، ولا يملك استهلاكها إلا إذا ملكها، فاقتضت تمليك عينها ضرورة، وذلك بالهبة أو بالقرض، والقرض أدناهما ضررًا لكونه يوجب رد المثل، وهو يقوم مقام العين، ولذلك حكم به في حال التلف.
(1)
.
وفي التاج والإكليل نقلًا من المدونة: «من استعار عينًا، أو فلوسًا، فهو سلف مضمون، لا عارية»
(2)
.
الوجه الثاني:
أن العبرة في العقود بمعانيها لا بألفاظها، فإذا قال: وهبت هذا الثوب بعشرة، فهذا بيع، وإن كان بلفظ الهبة، وإذا قال: أعرتك هذه النقود فهذا قرض، وإن كان بلفظ العارية، ولو قال: أعرتك هذا البيت شهرًا بكذا، كان
(1)
المبسوط (11/ 144 - 145).
(2)
التاج والإكليل (4/ 548).
إجارة. وقد تقدم لنا بحث مستقل في عقد البيع وبينت فيه أن المعتبر في العقود المعاني، وليس الألفاظ والمباني.
القول الثاني:
لا تجوز إعارة الدراهم والدنانير، وليس له أن يشتري بها شيئًا، وهذا هو الأصح في مذهب الشافعية، وقول في مذهب الحنابلة
(1)
.
قال النووي في الروضة: «الركن الثالث: المستعار، وله شرطان، أحدهما: كونه منتفعًا به مع بقاء عينه، كالعبد والثوب
…
فلا يجوز إعارة الطعام قطعًا، ولا الدراهم والدنانير على الأصح»
(2)
.
(3)
.
° دليل الشافعية على اعتبار اللفظ في العقود:
الدليل الأول:
قواعد مذهب الشافعية أن العبرة في العقود هوا للفظ دون النظر إلى المعنى
(4)
.
(1)
روضة الطالبين (4/ 426)، أسنى المطالب (2/ 325)، المغني (5/ 131).
(2)
روضة الطالبين (4/ 426).
(3)
أسنى المطالب (2/ 325).
(4)
قال النووي في المجموع عند الكلام على بيع التلجئة، وهو أن يتواطأ العاقدان على البيع خوفاً من ظالم ونحوه، ولا يريدان البيع حقيقة، قال رحمه الله في المجموع (9/ 314):«والصحيح صحته؛ لأن الاعتبار عندنا بظاهر العقود، لا بما ينويه العاقدان» .
واللفظ المستعمل هو العارية، وهو صريح في بابه، والعارية: هو بذل للمنفعة مع بقاء العين، والنقود ليس لها منفعة إلا باستهلاكها، فتبطل العارية، ولا نحمل اللفظ على معنى القرض، ونخالف اللفظ الصريح.
الدليل الثاني:
أن حمل العارية على القرض اعتبار بالمعنى، واعتبار المعنى هنا يؤدي إلى إهمال اللفظ وهذا لا يصح، لأن ألفاظ اللغة لا يعدل بها عما وضعت له في اللغة، فيطلق اللفظ لغة على ما وضع له، فكذا ألفاظ العقود.
ويجاب عن ذلك:
بأن القول بأن ألفاظ اللغة لا يعدل بها عما وضعت له في اللغة، هذه دعوى في محل النزاع، فأين الدليل على ذلك.
الدليل الثالث:
العقود تفسد باقتران شرط مفسد، ففسادها بتغير مقتضاها أولى.
ويجاب:
بأن الشرط مؤثر في صحة العقد، فقد يشترط ما يخالف الشرع، وقد يشترط ما ينافي مقتضى العقد، بخلاف اللفظ فلا يشترط له لفظ معين، وإنما اللفظ وسيلة لمعرفة حصول الرضا من العاقدين، فإذا تحقق الرضا بأي لفظ كان فقد حصل المقصود.
الدليل الرابع:
الأصل حمل الكلام على ظاهره، ولو حملنا الكلام على غير ظاهره بطلت فائدة اللغة وفائدة التخاطب.
ويجاب:
نعم الأصل حمل الكلام على ظاهره إلا إذا تعذر ذلك لقرينة حالية أو عرفية، فكما أن الأصل حمل الأمر على الوجوب والنهي على التحريم إلا لقرينة صارفة، فكذلك هنا، فنحن لم نترك ظاهر اللفظ إلا عند تعذره، وكنا بين أمرين إما أن نأخذ بهذا الظاهر والذي تيقنا أنه غير مراد للعاقدين، وبالتالي نبطل العقد، وإما أن نترك هذا الظاهر لقرينة صارفة، ونعمل بالمعنى الذي أراده العاقدان، ولاشك أن إمضاء العقود خير من إبطالها بسبب لفظ ظاهر غير مراد، وإعمال الكلام خير من إهماله.
القول الثالث:
إذا دفع النقود أو الطعام بلفظ الإعارة، فيحتمل أن يكون إباحة الانتفاع على وجه الإتلاف. اختاره ابن عقيل من الحنابلة.
° وجه هذا القول:
أن الإعارة هو الانتفاع بالعين المعارة، فإذا بقيت وجب ردها، وإن كانت تتلف بالاستعمال وأعطاها بلفظ الإعارة، كان هذا إباحة في إتلافها، والله أعلم.
جاء في شرح منتهى الإرادات عن ابن عقيل في الأشياء التي لا ينتفع بها إلا مع تلف عينها، كأطعمة، وأشربة، «إن أعطاها بلفظ إعارة، فقال ابن عقيل
يحتمل أن يكون إباحة الانتفاع على وجه الإتلاف، نقله المجد في شرحه، واقتصر عليه»
(1)
.
° الراجح:
أرى أن إعارة الدراهم إن كان ذلك للتزين فهو إعارة حقيقية، وإن كان للاستهلاك فهي كناية عن القرض، والله أعلم.
(1)
شرح منتهى الإرادات (2/ 288).