الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني
في حكم التقاط الصبي
[م-2032] إذا خيف على اللقيط الهلاك كما لو وجده في صحراء لا أحد فيها، أو كان بين يدي سبع كان التقاطه فرض عين إذا لم يعلم به غيره؛ وعلى الكفاية إن علم به أكثر من واحد؛ لأن في تركه تعريضًا له للتلف، وفي إنقاذه إنقاذًا لنفس معصومة، وكما يجب إنقاذ الغريق وبذل الطعام للجائع، وتنبيه الأعمى إذا أوشك على الوقوع في البئر.
ولأننا إذا كنا مأمورين بحفظ الأموال فحفظ النفوس أولى؛ لأنها أعظم حرمة عند الله تعالى.
قال تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32].
وقد حكى بعض أهل العلم الإجماع على وجوب التقاطه.
جاء في فتح القدير: «هذا الحكم وهو إلزام التقاطه إذا خيف هلاكه مجمع عليه»
(1)
.
وقال العيني: «إذا خاف هلاكه، فحينئذ فرض عين؛ لإجماع الأمة، كمن رأى أعمى يقع في البئر يفرض عليه حفظه عن الوقوع»
(2)
.
وفي الدر المختار: «التقاطه فرض كفاية إن غلب على ظنه هلاكه لو لم يرفعه، ولو لم يعلم به غيره ففرض عين»
(3)
.
(1)
فتح القدير (6/ 110).
(2)
البناية شرح الهداية (7/ 312).
(3)
الدر المختار (4/ 269)، وانظر البحر الرائق (5/ 155).
وقال ابن رشد: «يلزم أن يؤخذ اللقيط، ولا يترك؛ لأنه إن ترك ضاع وهلك، ولا خلاف بين أهل العلم في هذا، وإنما اختلفوا في لقطة المال»
(1)
.
وقال الدسوقي في حاشيته: «محل الكفاية إن لم يخف عليه، وإلا وجب عينًا»
(2)
.
وفي حاشية الجمل: «ومحل كونه فرض كفاية إذا علم به أكثر من واحد، وإلا كان فرض عين، ولا يخفى أن هذا شأن كل فرض كفاية»
(3)
.
قلت: أقل الواجب أن يأخذه لا لنية تربيته، وإنما ليرفعه إلى الحاكم.
[م-2033] وإن وجده في مكان لا يخاف عليه فيه من الهلاك لكثرة الناس فيه، ويوقن أن الناس سوف يسارعون إلى أخذه وإنقاذه، فاختلف العلماء في حكم التقاطه على ثلاثة أ قوال:
القول الأول:
أن التقاطه مندوب، وهذا مذهب الحنفية
(4)
.
جاء في الهداية شرح البداية: «والالتقاط مندوب إليه لما فيه من إحيائه، وإن غلب على ظنه ضياعه فواجب»
(5)
.
(1)
انظر منح الجليل (8/ 229)، التاج والإكليل (6/ 71).
(2)
حاشية الدسوقي (4/ 124)، وانظر الشرح الصغير مع حاشية الصاوي (4/ 178).
(3)
حاشية الجمل (3/ 613).
(4)
تبيين الحقائق (3/ 297)، الاختيار لتعليل المختار (3/ 29)، العناية شرح الهداية (6/ 110)، الجوهرة النيرة (1/ 353)، حاشية ابن عابدين (4/ 269).
(5)
الهداية شرح البداية (2/ 415).
° دليل من قال: إنه مندوب إليه:
الدليل الأول:
قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2].
وقوله سبحانه: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77].
ولا شك أن أخذ هذا الصغير وكفالته وتربيته والإحسان عليه من التعاون على البر والتقوى، وفعل ذلك بمنزلة كفالة اليتيم أو هو أفضل، وإذا كان كذلك فهو داخل في مطلق الآيتين، وأقل الأمر في هذا العمل الصالح أن يكون أخذ اللقيط مندوبًا إلى فعله.
الدليل الثاني:
لا يوجد دليل يدل على وجوب أخذ الطفل قبل الخوف عليه من الهلاك، وأما إذا خيف عليه من الهلاك فإن الإجماع على وجوب أخذه.
(1)
.
الدليل الثالث:
(ح-1246) ما رواه أحمد، قال: حدثنا سفيان، حدثنا ابن أبي نجيح، عن عبيد الله بن عامر،
عن عبد الله بن عمرو، يبلغ به النبي عليه السلام، قال: من لم يرحم
(1)
فتح القدير (6/ 110).
صغيرنا ويعرف حق كبيرنا فليس منا
(1)
.
[صحيح]
(2)
.
القول الثاني:
ذهب الجمهور من المالكية، والشافعية، والحنابلة إلى أن الالتقاط فرض كفاية، إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين، وإلا أثموا جميعًا
(3)
.
قال الخرشي: «من وجد طفلًا منبوذًا ذكرًا أو أنثى فإنه يجب عليه لقطه، وهو فرض كفاية»
(4)
.
وقال العمراني في البيان: «التقاطه فرض على الكفاية إذا قام به بعض الناس سقط عن الباقين، وإن تركوه أثم جميع من علم به»
(5)
.
(1)
المسند (2/ 222).
(2)
وقد رواه الحميدي في مسنده (597) وابن أبي شيبة في المصنف ـ تحقيق عوامة (25868) والبخاري في الأدب المفرد (354)، ويعقوب بن سفيان في المعرفة والتاريخ (3/ 51)، وأبو داود في السنن (4943)، والبيهقي في شعب الإيمان (10976)، عن سفيان به. وفي المسند (عبد الله بن عامر) وهو وهم، والتصويب من إتحاف المهرة (11992)، ومن العلل لابن أبي حاتم (2/ 240)، ومن التاريخ الكبير للبخاري (5/ 392).
(3)
التاج والإكليل (6/ 80)، حاشية الدسوقي (4/ 124)، الذخيرة (9/ 131)، عقد الجواهر لابن شاس (3/ 997)، بداية المجتهد (2/ 232)، القوانين الفقهية (ص: 225)، الحاوي الكبير (8/ 34)، روضة الطالبين (5/ 418)، تحفة المحتاج (6/ 342)، حاشية الجمل (3/ 613)، البيان للعمراني (8/ 7)، المبدع (5/ 293)، مطالب أولي النهى (4/ 243)، شرح منتهى الإرادات (2/ 387)، الكافي لابن قدامة (2/ 363)، كشاف القناع (4/ 236).
(4)
شرح الخرشي (7/ 130).
(5)
البيان في مذهب الإمام الشافعي (8/ 7).
° الدليل على أنه من فروض الكفايات:
الدليل الأول:
قال تعالى: {مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32].
وجه الاستدلال:
أخذ اللقيط وإحرازه إحياء لنفسه، وذلك بدفع سبب الهلاك عنه، وتركه سبب لهلاكه، وهذا واجب على جميع من علم به، فإذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين.
الدليل الثاني:
أن التقاطه داخل في الأحكام القطعية الدالة على وجوب حفظ النفس المجمع عليها في سائر الملل، وهي من الضرورات الخمس، وقياسًا على إنقاذ الغريق، وإطعام المضطر، وهذا مطلوب من الجميع إلا أنه يتحقق القصد الشرعي بفعل البعض، فلو كان واجبًا عينيًا لما سقط بفعل البعض، ولأن الشرع لم يقصد بالالتقاط ذات الفاعل، وإنما قصد تحقيق الفعل، وهو أخذ اللقيط من غير نظر إلى الفاعل، وهذا شأن فروض الكفايات.
القول الثالث:
أن أخذه فرض عين، وهذا اختيار ابن حزم
(1)
.
(1)
المحلى، مسألة (1384).
° دليل ابن حزم على أن أخذ اللقيط فرض عين:
قال في المحلى: «إن وجد صغير منبوذ ففرض على من بحضرته أن يقوم به ولا بد، لقول الله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].
ولقول الله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32]. ولا إثم أعظم من إثم من أضاع نسمة مولودة على الإسلام، صغيرة لا ذنب لها حتى تموت جوعًا وبردًا، أو تأكله الكلاب، هو قاتل نفس عمدًا بلا شك، وقد صح عن رسول الله عليه السلام: من لا يرحم الناس لا يرحمه الله»
(1)
.
وجه الاستدلال بالآيتين:
أن الله أمر بالتعاون على البر والتقوى، والأصل في الأمر الوجوب، كما نهى عن التعاون على الإثم والعدوان، والأصل في النهي التحريم.
وأما الآية الثانية فقد ذكر أن قتل النفس بمنزلة قتل الناس جميعًا، وأن إحياءها بمنزلة إحياء الناس جميعًا، فكان الأخذ واجبًا عينيًا لأن في الأخذ حياة لها، وفي تركها قتلًا لها، والأول واجب، والثاني محرم.
ويناقش:
الجواب عن قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].
بأن الأمر بالتعاون على البر والتقوى أمر مشترك يشمل الواجب بنوعيه العين
(1)
المحلى، مسألة (1384).
والكفاية، كما يشمل المندوب، فما كان البر فيه مستحبًا كان الأمر بالتعاون عليه مستحبًا، وما كان البر فيه واجبًا كان الأمر بالتعاون عليه واجبًا، سواء كان الوجوب عينيًا أو على الكفاية، ويطلب الدلالة على الوجوب من دليل آخر، كما في قوله عليه السلام صلوا كما رأيتموني أصلي وقوله عليه السلام: خذوا عني مناسككم فإن الأمر في هذين الحديثين لا يمكن حمله على الوجوب في جميع أفعال الصلاة وجميع أفعال المناسك، بل يطلب حكم أفعالهما من دليل آخر، فقد يكون ركنًا، وقد يكون واجبًا، وقد يكون مستحبًا، وإذا تبين هذا فإن حمل الآية على الواجب العيني لا يظهر من الآية.
وهذا فيما يخص الجواب عن الآية الأولى.
وأما الجواب عن قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32].
فيقال:
أولًا: هذه الآية تدل على فضل وأجر من أحيى النفس البشرية، وهو ليس محل خلاف، وعظم الفضل لا يدل على الوجوب فضلًا أن يدل على الوجوب العيني.
ثانيًا: سلمنا أن الآية تدل على الوجوب فهي تتكلم عن الأخذ الذي يكون سببًا في إنقاذ النفس من الهلكة، وفي تركها قتل لها، فهو يدخل في اللقطة التي تكون في مفازة، ويكون تركها سببًا في هلاكها، وهذا قد ذكرنا الإجماع على وجوب أخذ اللقطة في هذه الحال، والله أعلم.
° الراجح:
أرى أن القول بأنه فرض كفاية هو الأقوى، والله أعلم.
* * *