الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السابع
في النفقة على اللقطة
[م-2024] اختلف العلماء في الرجل ينفق على اللقطة، فيأتي صاحبها، هل يرجع بما أنفقه عليها؟
في ذلك خلاف بين أهل العلم:
القول الأول:
إذا أنفق الملتقط بغير إذن الحاكم فهو متبرع، وإن قال له القاضي: أنفق لترجع رجع على المالك بما أنفق، وإن أمره القاضي بالإنفاق ولم يذكر الرجوع لم يكن دينًا في الأصح.
وإذا رفع ذلك إلى الحاكم نظر فيه: فإن كان للبهيمة منفعة آجرها وأنفق عليها من أجرتها؛ وإن لم تكن لها منفعة باعها إن كان أصلح، وإن كان الأصلح الإنفاق عليها أذن في ذلك وجعل النفقة دينا على مالكها وللقاضي أن يأمره بالنفقة اليومين والثلاثة رجاء أن يظهر مالكها فإذا لم يظهر يأمر ببيعها لئلا تستأصلها النفقة، فلا نظر في الإنفاق مدة مديدة. فإن جاء صاحبها فله حبسها حتى يعطيه النفقة
(1)
.
هذا ملخص مذهب الحنفية في النفقة والرجوع.
جاء في حاشية ابن عابدين: «وهو في الإنفاق على اللقيط واللقطة متبرع؛
(1)
البحر الرائق (5/ 167)، العناية شرح الهداية (6/ 125)، حاشية ابن عابدين (4/ 281)، تبيين الحقائق (3/ 305)، الاختيار لتعليل المختار (3/ 34).
لقصور ولايته، إلا إذا قال له قاض: أنفق لترجع، فلو لم يذكر الرجوع لم يكن دينًا في الأصح»
(1)
؛ لأن الأمر متردد بين الحسبة والرجوع فلا يكون دينًا بالشك
(2)
.
وجاء في الهداية: وإن أنفق بأمره ـ أي بأمر القاضي ـ كان ذلك دينا على صاحبها؛ لأن للقاضي ولاية في مال الغائب»
(3)
.
° وجه هذا القول:
أن الملتقط إذا أنفق بلا إذن من الحاكم كان متبرعًا لقصور ولايته فصار كما لو قضى دين غيره بغير أمره.
وإذا أنفق بإذن القاضي كان ذلك دينًا على مالكها؛ لأن للقاضي ولاية في مال الغائب نظرًا له، وقد يكون النظر للمالك يقتضي الإنفاق.
وصورة إذن القاضي: أن يقول له: أنفق على أن ترجع، فلو أمره بالنفقة، ولم يذكر الرجوع لم يكن دينًا في الأصح؛ لأن الأمر متردد بين الحسبة والرجوع فلا يكون دينًا بالشك.
وإذا كان للحيوان منفعة آجرها بإذن الحاكم؛ لأن في ذلك إبقاء للعين على مالكها من غير إلزام الدين عليه.
وإن لم يكن لها منفعة وكان الأصلح في بيعها أمره القاضي ببيعها؛ لأنه إذا
(1)
حاشية ابن عابدين (4/ 281).
(2)
البحر الرائق (5/ 167).
(3)
الهداية شرح البداية (2/ 418).
تعذر إبقاء عين المال لم يتعذر حفظ قيمته، وحفظ قيمته إبقاء للمال معنى عند تعذر إبقائه صورة.
القول الثاني:
ما أنفقه الملتقط على اللقطة فالمالك مخير بين أن يفتك اللقطة فيدفع ما أنفقه عليها وبين أن يترك اللقطة لمن التقطها في نفقته التي أنفق عليها، سواء أنفق بأمر السلطان أو بدونه، وسواء تجاوزت قيمته النفقة أم لا.
وله أن يكري الدابة ونحوها كراء مأمونًا
(1)
، لا يخشى عليه منه؛ لأجل علفها والنفقة عليها. هذا ملخص مذهب المالكية
(2)
.
جاء في المدونة: «قال مالك في المتاع يلتقطه الرجل فيحمله إلى موضع من المواضع ليعرفه فيعرفه ربه، قال مالك: هو لصاحبه، ويدفع إليه هذا الكراء الذي حمله، فكذلك الغنم والبقر إذا التقطها رجل فأنفق عليها، ثم أتى ربها فإنه يغرم ما أنفق عليها الملتقط إلا أن يشاء ربها أن يسلمها.
قلت: أرأيت ما أنفق هذا الملتقط على هذه الأشياء التي التقطها بغير أمر السلطان، أيكون ذلك على رب هذه الأشياء إن أراد أخذها في قول مالك؟
(1)
تعبير خليل في مختصره: (كراء مضمونًا) بدلًا (مأمونًا) والكراء المضمون، هو الكراء الواقع في الذمة، وليس على عين معينة، واللقطة هي من كراء المعين، لهذا كان مقصودهم بقولهم:(مضمونًا) أي مأمونًا لا يخشى منه على الدابة، انظر حاشية العدوي على الخرشي (7/ 127)، الذخيرة (9/ 111).
(2)
الذخيرة للقرافي (9/ 112)، المدونة (6/ 176)، منح الجليل (8/ 242)، الكافي في فقه أهل المدينة (ص: 427)، شرح الخرشي (7/ 128)، حاشية الدسوقي (4/ 123).
قال: نعم، إن أراد ربها أخذها لم يكن له أن يأخذها حتى يغرم لهذا ما أنفق عليها، بأمر السلطان أو بغير أمر السلطان»
(1)
.
° وجه هذا القول:
النفقة تتعلق في ذات اللقطة لا في ذمة مالكها كالجناية في رقبة العبد إن أسلمه المالك لا شيء عليه، وإن أراد أخذه غرم أرش الجناية.
وجاز له الكراء مع أن ربها لم يوكله فيه؛ لأن الدواب ونحوها لا بد لها من النفقة عليها، فكان ذلك أصلح لربها، وما زاد من كرائها على علفها فهو لربها.
القول الثالث:
ذهب الشافعية إلى أن من أنفق على اللقطة فهو متطوع بالنفقة لا يرجع على صاحبها بشيء، وإذا أراد الرجوع فلينفق بإذن الحاكم، فإن لم يجده أشهد
(2)
.
قال النووي في الروضة: «إذا أمسكها وتبرع بالإنفاق فذاك. وإن أراد الرجوع، فلينفق بإذن الحاكم، فإن لم يجد حاكمًا، أشهد»
(3)
.
° وجه القول:
أن الحاكم يقوم مقام الغائب في النظر في ماله، فإذا أنفق ولم يرجع إلى الحاكم مع إمكان الرجوع إليه فهو متبرع بالنفقة، وقد تكون المصلحة في غير
(1)
المدونة (6/ 176).
(2)
مغني المحتاج (2/ 410)، حاشية الجمل (3/ 606)، نهاية المحتاج (5/ 435)، روضة الطالبين (5/ 404)، الحاوي الكبير (8/ 7).
(3)
روضة الطالبين (5/ 404).
الإنفاق كما لو كانت المصلحة في البيع، وحفظ الثمن، فإذا لم يكن هناك قاض، أشهد على النفقة، ورجع بها.
القول الرابع:
ذهب الحنابلة إلى أن الملتقط يرجع بما أنفق على الحيوان إن كانت النفقة بإذن حاكم، وإن لم تكن بإذنه ففيه روايتان، الصحيح من المذهب أن له الرجوع بما أنفقه إن نوى الرجوع، ما لم يتعد بأن التقطه لا ليعرفه، أو بنية تملكه في الحال
(1)
.
° وجه هذا القول:
أن الإنفاق على مال الغير إنقاذ له من التلف، فكان جائزًا، كذبح الحيوان المأكول إذا خيف موته، ولا يضمن ما نقص بذبحه.
وقال ابن القيم: و «لأن المؤمنين والمؤمنات بعضهم أولياء بعض في الشفقة والنصيحة والحفظ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ولهذا جاز لأحدهم ضم اللقطة ورد الآبق وحفظ الضالة، حتى إنه يحسب ما ينفقه على الضالة والآبق واللقطة وينزل إنفاقه عليها منزلة إنفاقه لحاجة نفسه لما كان حفظًا لمال أخيه وإحسانًا إليه؛ فلو علم المتصرف لحفظ مال أخيه أن نفقته تضيع، وأن إحسانه يذهب باطلًا في حكم الشرع لما أقدم على ذلك، ولضاعت مصالح
(1)
وفيه رواية أخرى: أنه لا يرجع بشيء، والأولى هي المذهب. انظر الشرح الكبير على المقنع (6/ 339)، الإنصاف (6/ 407)، الإقناع في مذهب الإمام أحمد (2/ 400)، كشاف القناع (4/ 215)، مطالب أولي النهى (4/ 225)، الكافي لابن قدامة (2/ 358)، المغني (6/ 28) ..
الناس، ورغبوا عن حفظ أموال بعضهم بعضًا، وتعطلت حقوق كثيرة، وفسدت أموال عظيمة، ومعلوم أن شريعة من بهرت شريعته العقول وفاقت كل شريعة واشتملت على كل مصلحة وعطلت كل مفسدة تأبى ذلك كل الإباء»
(1)
.
وهذا هو الراجح بشرط أن يكون ما يدعيه من النفقة قريبًا من نفقة مثله؛ لأنه أمين، والقول قوله في مقدار النفقة، والله أعلم.
* * *
(1)
أعلام الموقعين (3/ 3).