الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع
في مدة التعريف
الفرع الأول
في تعريف ما يسرع إليه الفساد
[م-1993] علمنا أن اللقطة تعرف سنة كاملة إن كانت مما يبقى مدة طويلة، فإن كانت اللقطة يتسارع إليها الفساد، فقد اختلف الفقهاء في وجوب تعريفها، وفي مدته على النحو التالي:
القول الأول:
إذا كانت اللقطة مما لا يبقى فإنه يعرفها مدة حتى يخاف فسادها، ثم يتصدق بها، وهذا مذهب الحنفية
(1)
.
° دليل الحنفية:
أما وجوب تعريفها مدة لا يخاف منها فساد اللقطة:
فلأن الرسول عليه السلام أمر بتعريف اللقطة سنة، فإذا كانت لا تستطيع البقاء لمدة سنة كان الواجب تعريفها مدة لا تفسد فيها عملًا بقوله عليه السلام: إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم رواه البخاري ومسلم
(2)
.
(1)
المبسوط (11/ 9)، بدائع الصنائع (6/ 202)، البحر الرائق (5/ 164)، تبيين الحقائق (3/ 304)، تحفة الفقهاء (3/ 355)، وقولنا: يتصدق بها يعني إن كان غنيًا، وإن كان فقيرًا كان له أن يأكلها كما قلنا ذلك في اللقطة التي لا يتسارع إليه الفساد.
(2)
صحيح البخاري (7288)، ومسلم (412 - 1337).
ولأن المقصود من التعريف إيصالها إلى صاحبها، فتقيد مدة التعريف بالوقت الذي لا تفسد فيه؛ لأنه بعد الفساد لا فائدة لصاحبها في إيصالها إليه.
وأما الدليل على أن اللقطة لا تملك وأنه يجب عليه التصدق بها بعد تعريفها فقد سبق ذكر أدلتهم، عند الكلام على حكم تملك اللقطة بعد تعريفها، وعمدتهم آثار عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأبي هريرة، وقد سبق تخريجها هناك، وهذه الآثار لا يمكن أن يعارض بها السنة المرفوعة، وغايتها أنها ترشد إلى التصدق بها، ولا تمنع غيره مما دلت عليه السنة المرفوعة، فإذا كان التصدق بها هو أحد الخيارات المتاحة للملتقط، وهو أرفعها، فربما كانت هذه الآثار تدله على ما هو الأفضل له، وهو لا ينافي صحة التملك باعتبار اللقطة مالًا لا مالك له بعد أن قام بتعريفه فلم يعرف.
القول الثاني:
ذهب المالكية إلى أن الملتقط إذا أخذ ما يخشى فساده، ولا يبقى في أيد الناس لا يجب عليه تعريفه، ويجوز له أن يأكله ولو وجده في العمران، ولا ضمان عليه في أكله، وظاهره سواء كان له ثمن أو كان تافهًا لا ثمن له.
وقال ابن رشد: إن كان له ثمن بيع ووقف ثمنه. وقال في المجموع: له أكل ما يفسد وضمن ما له ثمن
(1)
.
° دليل المالكية على أنه لا يجب تعريفه، ولا يضمنه إن أكله:
القياس على لقطة الغنم، فقوله في ضالة الغنم: (هي لك أو لأخيك أو
(1)
حاشية الدسوقي مع الشرح الكبير للدردير (4/ 122)، حاشية الصاوي (4/ 174 - 175)، شرح الخرشي (7/ 127)، التاج والإكليل (6/ 72).
للذئب) دليل على جواز تملكها في الحال بدون تعريف وعلل ذلك بأنه إن لم يأخذها أكلها الذئب، وفي هذا ضياع للمال بلا فائدة ترجع لصاحبها، ولم يذكر في الحديث ضمانًا فعلى هذا إذا أكلها في الصحراء التي يخشى عليها من الذئب لم تكن مضمونة، وكان خوف الفساد كخوف الذئب يحل أكلها بلا ضمان.
القول الثالث:
ذهب الشافعية إلى أن الرجل إذا التقط ما يخشى فساده خير بين أمرين:
الأول: أن يبيعه بإذن الحاكم، فإن لم يجد الحاكم باعه استقلالًا، ثم يعرفه بعد بيعه ليتملك ثمنه بعد التعريف.
الثاني: أن يتملكه في الحال ويأكله، ويغرم قيمته مطلقا أي سواء وجده في مفازة، أو عمران وسواء أكان في زمن أمن أم غيره، وإنما جاز أكله في العمران؛ لأنه مما يسرع فساده بخلاف الغنم في العمران.
وقيل: إن وجده في عمران وجب البيع، وامتنع الأكل كالغنم، والأول هو المشهور
(1)
.
القول الرابع:
ما يخشى فساده، فإن كان مما لا يمكن تجفيفه كالفاكهة والخضروات فيلزمه فعل الأحظ من أكله، وعليه قيمته، أو بيعه بلا حاكم وحفظ ثمنه، وقيد بعضهم الخيار بين الأكل والبيع بعد تعريفه مدة لا يفسد فيها. وهذا مذهب الحنابلة
(2)
.
(1)
أسنى المطالب (2/ 493)، مغني المحتاج (2/ 411)، نهاية المحتاج (5/ 436)، روضة الطالبين (5/ 410)، الحاوي الكبير (8/ 25).
(2)
الإقناع في فقه الإمام أحمد (2/ 400)، الإنصاف (6/ 409)، شرح منتهى الإرادات (2/ 380)، كشاف القناع (4/ 215)، مطالب أولي النهى (4/ 226).
(1)
.
وقول الحنابلة قريب من قول الشافعية، والفرق بينهما في أمرين:
أحدها: أن الحنابلة أجازوا بيعها دون الرجوع إلى الحاكم، واشترطه الشافعية مع إمكانه.
الثاني: أن الشافعية أجازوا تعريفها بعد بيعها، ثم تملك الثمن، ومنع منه الحنابلة في المشهور، حيث جعلوا التملك خاصًا بلقطة الدراهم والدنانير دون العروض.
° دليل الشافعية والحنابلة على جواز تملكها في الحال بالقيمة:
قوله عليه السلام: (هي لك أو لأخيك أو للذئب) فقوله: (هي لك) دليل على إباحة تملكها في الحال، والخبر محمول على أنه أراد: بعوضها؛ لأن هذا الحيوان ملك لغيره فلم يكن له تملكه بغير عوض.
ولقوله عليه السلام: لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه.
ولأنها لقطة يلزمه ردها مع بقائها فوجب أن يلزمه غرمها عند استهلاكها قياسًا على اللقطة في الأموال.
(1)
الإنصاف (6/ 409).
ولأنها ضالة فوجب أن تضمن بالاستهلاك كالإبل.
وأما الدليل على جواز بيعها وحفظ ثمنها:
فالقياس، فإذا جاز أن يتملكها في الحال بدون تعريف، جاز من باب أولى أن يبيعها، لكن قال الشافعية: يعرفها، ثم يتملك الثمن، ولم ير ذلك الحنابلة لأنهم لا يرون تملك اللقطة إذا كانت من العروض، والله أعلم.
° الراجح:
أرى أن مذهب الشافعية هو أقرب الأقوال:
وهو أن له تملكها في الحال، ويضمن مثلها أو قيمتها، أو يبيعها، ويعرفها، ثم يتملك قيمتها، وقول المالكية بأن له أكلها ولا يضمنها مخالف للقواعد.
وقول الحنفية بأنه يجب التصدق بها اعتمادًا على بعض الآثار التي جاءت بالإرشاد بالتصدق، فإن القول بالتصدق لا يمنع ما ثبت بالسنة من جواز التملك، وقول الحنابلة بأنه لا يتملك إلا الدراهم والدنانير قول ضعيف أيضًا، فصار قول الشافعية هو أقواها، والله أعلم.
* * *