الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثالث
في ضمان العارية
الفصل الأول
في ضمان المستعير بمقتضى العقد
[م-2127] اختلف العلماء في العارية، هل هي أمانة لا تضمن إلا بالتعدي والتفريط، أو أنها مضمونة مطلقًا على قولين:
القول الأول:
أنها أمانة لا تضمن إلا بالتعدي والتفريط، وهذا مذهب الحنفية، وقول مرجوح في مذهب الشافعية، واختيار ابن تيمية من الحنابلة
(1)
.
جاء في الهداية شرح البداية: «والعارية أمانة إن هلكت من غير تعد لم يضمن»
(2)
.
وجاء في العناية: «إن هلكت العارية، فإن كان بتعد كحمل الدابة ما لا يحمله مثلها أو استعمالها استعمالًا لا يستعمل مثلها من الدواب أوجب الضمان
(1)
تبيين الحقائق (5/ 84)، العناية شرح الهداية (9/ 7)، الجوهرة النيرة على مختصر القدوري (1/ 351)، مجمع الضمانات (ص:55)، تحفة الفقهاء (3/ 177)، الفتاوى الهندية (6/ 354)، روضة الطالبين (4/ 431)، الفروع (4/ 474)، الإنصاف (6/ 113)، زاد المعاد (3/ 422)، أعلام الموقعين (3/ 281).
(2)
الهداية شرح البداية (3/ 218).
بالإجماع، وإن كان بغيره لم يضمن»
(1)
.
وقال ابن القيم في أعلام الموقعين: «والقول بعدم الضمان قوي متجه، وإن كنا لا نقبل قوله في دعوى التلف؛ لأنه ليس بأمينه، لكن إذا صدقه المالك في التلف بأمر لا ينسب فيه إلى تفريط فعدم التضمين أقوى»
(2)
.
قلت: بل هو أمينه، فقد رضي أن يضع ماله في يده، وأذن له في الانتفاع به دون استهلاكه، فكيف لا يكون أمينه؟
° دليل الحنفية على أن العارية غير مضمونة:
الدليل الأول:
(ح-1267) ما رواه أبو داود الطيالسي في مسنده، قال: حدثنا إسماعيل بن عياش، قال: حدثنا شرحبيل بن مسلم الخولاني،
سمع أبا أمامة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الدين مقضي، والعارية مؤداة، والمنحة مردودة، والزعيم غارم.
[حسن]
(3)
.
وجه الاستدلال:
قوله عليه السلام: (العارية مؤداة) دليل على أنها من سائر الأمانات، لقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58].
(1)
العناية شرح الهداية (9/ 7).
(2)
أعلام الموقعين (3/ 281).
(3)
سبق تخريجه، انظر (ح 1257).
ونوقش:
الحديث يأمر بأداء العارية، وهو أمر متفق عليه، ولم يتعرض للضمان، وليس كل ما وجب أداؤه سقط ضمانه، فالقرض يجب رده أو رد بدله، وهو مضمون.
الدليل الثاني:
(ح-1268) ما رواه الدارقطني من طريق عمرو بن عبد الجبار، عن عبيدة بن حسان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه،
عن جده، عن النبي عليه السلام، قال: ليس على المستعير غير المغل ضمان، ولا على المستودع غير المغل ضمان.
قال الدارقطني: عمرو وعبيدة ضعيفان، إنما يروى عن شريح القاضي غير مرفوع
(1)
.
قلت: هو في مصنف عبد الرزاق بإسناد صحيح عن شريح من قوله
(2)
.
الدليل الثالث:
(ث-326) ما رواه عبد الرزاق في المصنف، قال: أخبرنا قيس بن الربيع، عن الحجاج، عن هلال، عن عبد الله بن عكيم، قال:
قال عمر بن الخطاب: العارية بمنزلة الوديعة، ولا ضمان فيها إلا أن يتعدى
(3)
.
[ضعيف، فيه حجاج بن أرطأة].
(1)
سنن الدارقطني (3/ 41)، وهذا ضعيف جدًا، في إسناده عبيدة بن حسان متروك الحديث، وعمرو بن عبد الجبار ضعيف.
(2)
رواه عبد الرزاق في المصنف (14782) قال: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن شريح، قال: سمعته يقول:
…
وذكره.
(3)
المصنف (14785).
الدليل الرابع:
(ث-327) روى عبد الرزاق في المصنف، قال: أخبرنا حميد، عن الحجاج، عن الحكم بن عتيبة،
أن علي بن أبي طالب قال: ليس على صاحب العارية ضمان
(1)
.
[ضعيف، فيه حجاج بن أرطأة].
الدليل الخامس:
العارية في يد المستعير كالعين المستأجرة في يد المستأجر، كلاهما مسلط على المنفعة دون الرقبة، إلا أن الأول بلا عوض، والثاني بعوض، فإذا كان المستأجر لا يضمن لم يضمن المستعير.
(2)
.
وفي مقدمات ابن رشد: «إذا كان المقبوض لاستيفاء المنفعة بإذن مالكه ببدل مضمون، وسبب مؤثر في وجوب الضمان، لا يوجب ضمان العين، فما لم
(1)
المصنف (14786).
(2)
شرح مشكل الآثار (11/ 303).
يقبض ببدل أولى ألا يكون مضمونًا»
(1)
.
الدليل السادس:
لما كان المضارب قد قبض المال بإذن صاحبه لم يضمن وإن كان المضارب له مصلحة في قبض مال المضاربة، فالمستعير مثله، قد قبض المال بإذن صاحبه، فيده يد أمانة ما لم يتعد أو يفرط.
القول الثاني:
أنها مضمونة مطلقًا، وهذا أحد قولي الإمام مالك، واختاره أشهب من المالكية، ومذهب الشافعية والحنابلة
(2)
.
وهذان القولان متقابلان.
(3)
.
وقال ابن قدامة: «العارية مضمونة، وإن لم يتعد فيها المستعير»
(4)
.
(1)
المقدمات الممهدات (2/ 472).
(2)
المقدمات الممهدات (2/ 471)، الأم (3/ 244)، المهذب (1/ 363)، الوسط (3/ 369)، روضة الطالبين (4/ 431)، مغني المحتاج (2/ 267)، مختصر المزني (ص: 116)، الحاوي الكبير (7/ 115)، الإنصاف (6/ 112)، الكافي لابن قدامة (2/ 382)، المغني (5/ 128)، شرح منتهى الإرادات (2/ 293)، كشاف القناع (4/ 70)، مطالب أولي النهى (3/ 740).
(3)
الأم (3/ 244).
(4)
المغني (5/ 128).
° دليل من قال: العارية مضمونة مطلقًا:
الدليل الأول:
(ح-1269) ما رواه الإمام أحمد، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا شريك، عن عبد العزيز بن رفيع، عن أمية بن صفوان بن أمية،
عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعار منه يوم خيبر أدرعاً، فقال: أغصبا يا محمد؟ فقال: بل عارية مضمونة. قال: فضاع بعضها فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضمنها له فقال: أنا اليوم يا رسول الله في الإسلام أرغب
(1)
.
[الحديث مضطرب من مسند صفوان، حسن من حديث جابر رضي الله عنه]
(2)
.
ويجاب عن هذا الحديث بعدة أجوبة:
الجواب الأول:
أن هذا الحديث دليل على صحة اشتراط الضمان في عقد العارية، وليس دليلًا على صحة ضمانها مطلقًا.
قال ابن عبد الهادي في التنقيح: «وهذا الحديث لا حجة فيه على أن العارية مضمونة بكل حال، بل الظاهر أن ضمانها إنما كان بالشرط، وقد جاء التصريح بأن العارية مقسمة إلى: عارية مؤداة؛ وعارية مضمونة؛
وذلك فيما رواه النسائي، قال: أخبرنا إبراهيم بن المستمر ثنا حبان بن هلال ثنا همام بن يحيى ثنا قتادة عن عطاء عن صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه قال:
(1)
المسند (3/ 400).
(2)
سبق تخريجه، انظر (ح 906).
قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أتتك رسلي فأعطهم ثلاثين درعا، وثلاثين مغفرًا. قلت: يا رسول الله، أعارية مضمونة، أو عارية مؤداة؟ قال: بل عارية مؤداة.
رواته كلهم ثقات، لكنه معلل، وقد رواه أبو داود عن إبراهيم بن المستمر. اهـ
(1)
.
(1)
تنقيح التحقيق لابن عبد الهادي (4/ 157).
وهذا الحديث قد أخرجه أبو داود (3566)، والنسائي في السنن الكبرى (5776) والدراقطني في سننه (3/ 39)، من طريق إبراهيم بن المستمر، عن حبان بن هلال، عن همام بن يحيى، عن قتادة، عن عطاء، عن صفوان بن يعلى بن أمية.
عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أتتك رسلي فأعطهم ثلاثين درعاً، وثلاثين بعيراً، فقلت: يا رسول الله أعارية مضمونة، أو عارية مؤداة، قال: بل عارية مؤادة.
فهنا جاء في اللفظ السؤال عن طبيعة هذه العارية، هل هي عارية مضمونة، أما عارية مؤداة.
وأخرجه ابن حبان (4720) في صحيحه من طريق بشر بن خالد العسكري، عن حبان به، بلفظ: إذا أتتك رسلي فأعطهم أو ادفع إليهم ثلاثين بعيراً، أو ثلاثين درعاً، قال: قلت: العارية مؤداة يارسول الله، قال: نعم.
فهنا ليس فيه ذكر للضمان مطلقاً، وإنما السؤال هل هي عارية مؤداة؟ فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: نعم. كما أن الحديث فيه (ثلاثين بعيراً أو ثلاثين درعاً)، وفي السابق كان اللفظ بواو الجمع.
وأخرجه الدارقطني في سننه (3/ 39) والمقدسي في الأحاديث المختارة (8/ 22) من طريق نصر بن عطاء الواسطي عن حبان بن هلال به بنحو لفظ ابن حبان.
وقد صححه ابن حبان، وقال ابن حزم: حديث حسن، ليس فيه شيء مما روي في العارية خبر يصح غيره، وأما ما سواه فليس يساوي الاشتغال به، وقد فرق بين الضمان والأداء. انظر المحلى (9/ 173).
ومع هذا الاختلاف في المتن، فقد اختلف في الإسناد، فرواه همام بن يحيى، عن قتادة، عن عطاء، عن صفوان بن يعلى بن أمية، عن أبيه موصولاً.
وخالفه سعيد بن أبي عروبة، فرواه عنه عن قتادة، عن عطاء مرسلاً.
أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (4462) من طريق عبد الوهاب بن عطاء، عن سعيد، عن قتادة، عن عطاء أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار من صفوان بن أمية دروعاً يوم حنين، فقال له: أمؤادة يا رسول الله العارية؟ قال: نعم.
وأخرجه النسائي في الكبرى (5778) من طريق حجاج، عن عطاء به مرسلاً. وحجاج ضعيف.
ولعل هذا الاختلاف هو ما جعل ابن عبد الهادي يقول في تنقيح التحقيق (3/ 46): رواته كلهم ثقات، لكنه معلل. وقال في المحرر (917): رواته ثقات، وقد أعل. اهـ
الجواب الثاني:
يحتمل عندي أن العارية إذا قسمت إلى قسمين: عارية مضمونة، وعارية مؤداة، أن العارية المضمونة: هو أخذ العارية على وجه القرض، والعارية المؤداة هو أخذها على سبيل الأمانة حيث لا يمتلك المستعير العين، فتؤدى بعينها إلى مالكها، وتكون العارية من ألفاظ الكناية في عقد القرض، كما قلناه في الرجل يقول: أعرتك هذه الدراهم، أن لفظ:(أعرتك) كناية في القرض، وكما أن المالكية إذا قالوا: هذا كراء مضمون، قصدوا بذلك الإجارة في الذمة، وإذا قالوا: كراء غير مضمون، قصدوا بذلك إجارة الأعيان، فالعارية المضمونة: هي العارية المتعلقة بالذمة، وهذا لا يكون إلا باستهلاك العارية، وهو كناية عن القرض، والله أعلم.
الجواب الثالث:
أن الرسول عليه السلام قد أخذ العارية بدون رضا صاحبها، وإذا أخذ شيء بدون رضا صاحبه صح أخذه على وجه الضمان فيه.
جاء في تبيين الحقائق: «وحديث صفوان كان بغير إذنه لحاجة المسلمين، ولهذا قال «أغصبًا يا محمد.» وعند الحاجة يرخص تناول مال الغير بغير إذنه
بشرط الضمان كحالة المخمصة
…
»
(1)
.
الجواب الرابع:
يحتمل أن قوله عليه السلام: عارية مضمونة، أي أضمن لك ردها، وليس أضمن لك رد بدلها إذا تلفت.
قال ابن القيم في زاد المعاد: «ومأخذ المسألة أن قوله عليه السلام لصفوان: بل عارية مضمونة، هل أراد به أنها مضمونة بالرد أو بالتلف؟ أي أضمنها إن تلفت أو أضمن لك ردها، وهو يحتمل الأمرين، وهو في ضمان الرد أظهر لثلاثة أوجه:
أحدها: أن في اللفظ الآخر: (بل عارية مؤداة) فهذا يبين أن قوله: (مضمونة) المراد به المضمونة بالأداء.
الثاني: أنه لم يسأله عن تلفها، وإنما سأله هل تأخذها مني أخذ غصب تحول بيني وبينها؟ فقال:«لا بل أخذ عارية أؤديها إليك» . ولو كان سأله عن تلفها، وقال: أخاف أن تذهب لناسب أن يقول: أنا ضامن لها إن تلفت.
الثالث: أنه جعل الضمان صفة لها نفسها، ولو كان ضمان تلف لكان الضمان لبدلها، فلما وقع الضمان على ذاتها، دل على أنه ضمان أداء.
فإن قيل: ففي القصة أن بعض الدروع ضاع، فعرض عليه النبي عليه السلام أن يضمنها، فقال: أنا اليوم في الإسلام أرغب، قيل: هل عرض عليه أمرًا واجبًا، أو أمرًا جائزًا مستحبًا الأولى فعله، وهو من مكارم الأخلاق والشيم، ومن
(1)
تبيين الحقائق (5/ 85).
محاسن الشريعة؟ وقد يترجح الثاني بأنه عرض عليه الضمان، ولو كان الضمان واجبًا، لم يعرضه عليه؛ بل كان يفي له به، ويقول: هذا حقك، كما لو كان الذاهب بعينه موجودًا، فإنه لم يكن ليعرض عليه رده فتأمله»
(1)
.
الجواب الخامس:
اختار بعض الحنفية بمقتضى قواعد المذهب أن صفوان كان يومئذ حربيًا، ويجوز بين المسلم والحربي من الشرائط ما لا يجوز بين المسلمين، كما قالوا: في جواز الربا مع الحربي دون الذمي
(2)
. وهذا أضعفها، والله أعلم.
الدليل الثاني:
(ح-1270) ما رواه ابن أبي شيبة من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن،
عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: على اليد ما أخذت حتى تؤديه
(3)
.
[رجاله ثقات إلا أن في سماع الحسن من سمرة خلافاً]
(4)
.
ونوقش هذا:
بأن الحديث قد ضعف، ولو صح فليس فيه إلا الأداء، والأداء غير الضمان في اللغة والحكم، ويلزم المحتج بهذا الحديث أن يضمنوا بذلك المرهون والودائع؛ لأنها مما قبضت اليد، ولذلك قال الحسن الذي روى هذا الحديث: أمينك لا ضمان عليه مما يدل على أن الأداء غير الضمان ولم يخالف الحسن
(1)
زاد المعاد (3/ 422 - 423).
(2)
المبسوط (11/ 136).
(3)
المصنف (20563).
(4)
سبق تخريجه، انظر (ح 613).
الحديث ولم ينس كما توهم الراوي؛ لأن الحديث ليس فيه دلالة على الضمان
(1)
.
جاء في مقدمات ابن رشد: «قوله عليه السلام (على اليد ما أخذت حتى تؤديه)، إنما تفيد مع بقاء العين، فأما مع تلفها فلا يصح ولا يجوز حمله على القيمة، لأنه لم يجر لها ذكر، ولأنه إنما أوجب أداء ما أخذت اليد - واليد لم تأخذ القيمة»
(2)
.
الدليل الثالث:
أن الشيء المعار مال لغيره أخذه لمنفعة نفسه، لا على وجه الحفظ فضمنها كالمقبوض على وجه السوم، والمغصوب.
ولأن العارية فيها شبه من القرض، فهي من إقراض المنافع، والقرض مضمون فكذلك العارية، وإنما ضمن المقترض لأنه أخذ مال غيره لمنفعة نفسه، والمستعير كذلك بخلاف المودع فقد أخذه لمنفعة مالكه فلم يضمنه.
القول الثالث:
ذهب مالك في المشهور عنه إلى التفصيل: فقال: يضمن فيما يغاب عليه إذا لم يكن على التلف بينة، ولا يضمن فيما لا يغاب عليه، ولا فيما قامت البينة على تلفه
(3)
.
(1)
المحلى (8/ 144)، الجوهر النقي لابن التركماني (6/ 90).
(2)
المقدمات الممهدات (2/ 472).
(3)
الكافي في فقه أهل المدينة (ص: 407)، التاج والإكليل (5/ 269)، المقدمات الممهدات (2/ 471)، القوانين الفقهية (ص: 245)، شرح الخرشي (6/ 123)، حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني (2/ 274).
وهذا واضح أن ضمان العارية عند المالكية ضمان تهمة لا ضمان أصالة ينتفي بإقامة البينة على أن الهلاك بلا تعد ولا تفريط، أو كانت العارية مما لا يمكن إخفاؤها، وهذا دليل على أنها أمانة، ولكن إن كانت مما يغاب عليه لم تقبل دعواه بعدم تعديه ولا تفريطه إلا ببينة.
(1)
.
(2)
.
° دليل المالكية على التفريق بين ما يغاب عليه وبين غيره:
رأى ابن رشد من المالكية أن هذا القول به تجتمع الأدلة والآثار، فهو يجمع بين أدلة القول الأول، وأدلة القول الثاني، فما روي عنه من وجوب ضمان
(1)
الكافي في فقه أهل المدينة (ص:407).
(2)
المقدمات الممهدات (2/ 471).
العارية فهو فيما يغاب عليه إذا لم يعلم هلاكه، وما روي من أدلة تدل على سقوط الضمان في العارية فهو فيما لا يغاب عليه، وفيما يغاب عليه إذا علم هلاكه.
ويناقش:
بأن مذهب المالكية يصدق عليه أنه من أضعف الأقوال فهم يعتبرون العين المستعارة أمانة، بينما المستعير متهم، عليه إقامة البينة فيما لا يعلم هلاكه، فإن كانت العارية أمانة فهي قد اكتسبت هذه الصفة من يد المستعير، وإذا كان أمينًا قبل قوله فيما يغاب عليه وفي غيره، وإن لم يكن أمينًا لم تكن العارية من الأمانات، وبالتالي فهو مطالب بالضمان مطلقًا حتى ولو علم الهلاك، وتيقنا أنه لم يتعد و لم يفرط، فلماذا نطلب منه البينة على أن الهلاك حصل بغير فعله؛ فإذا أثبت لنا ذلك أسقطنا عنه الضمان بحجة أنه أمين، مع أن الأمين لا يضمن إلا بالتعدي والتفريط، فكان مقتضى كونه أمينًا أن نقبل قوله بلا بينة، هذا وجه التناقض في مذهب المالكية في فهمي المحدود.
القول الرابع:
أنه لا ضمان على المستعير إلا أن يشترط عليه الضمان، حكى هذا القول ابن شعبان من المالكية، وعابه، وهو رواية عن أحمد
(1)
.
وسوف نذكر أدلتهم في مسألة مستقلة لأهمية هذا القول، هل اشتراط الضمان في عقود الأمانات معتبر، ولا محذور فيه، فانظره في المسألة التالية.
(1)
المقدمات الممهدات (2/ 271)، جاء في الاختيارات تحقيق الدكتور أحمد الخليل (ص: 231): «وهي مضمونة إن اشترط ضمانها، وهي رواية عن أحمد» .
القول الخامس:
إن شرط نفي ضمانها لم يضمن، وإن أطلق ضمن، اختاره بعض المالكية، وهو رواية عن الإمام أحمد
(1)
.
(1)
فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب مالك (1/ 366)، أعلام الموقعين (3/ 280)، وأظن أن هذا القول والقول الذي قبله هل هما قولان ثابتان عن الإمام أحمد، أو أن هناك خطأ في حكاية القول، بمعنى: هل المروي عن أحمد أن العارية مضمونة إلا أن يشترط نفي الضمان.
أو المحكي عن أحمد: أن العارية غير مضمونة إلا أن يشترط الضمان. وقد أشار إلى ذلك صاحب الشرح الكبير، جاء فيه (5/ 366): «وإن شرط نفي الضمان لم يسقط
…
وقال أبو حفص العكبري: يسقط. قال أبو الخطاب: أوما إليه أحمد، وبه قال قتادة والعنبري، لأنه لو أذن في إتلافها لم يجب ضمانها فكذلك إذا أسقط عنه ضمانها. وقيل: بل مذهب قتادة والعنبري أنها لا تضمن إلا أن يشترط ضمانها».
ولعل قوله: (أومأ إليه أحمد) يقصد بذلك ما جاء في مسائل أحمد وإسحاق من رواية الكوسج (6/ 3012): «قال سفيان: كل شيء، أصله ضمان فاشترط: أن ليس عليه ضمان: فهو ضامن.
قال أحمد: إذا اشترط له فالمسلمون عند شروطهم.
قال إسحاق: كما قال أحمد، ألا ترى أن أنس بن مالك بعد ما ضَمَّنه عمر الوديعة، كان لا يأخذ بضاعة إلا يشترط أنه بريء من الضمان». اهـ
فظاهر تعقيب الإمام أحمد على كلام سفيان الثوري أن المستعير يضمن إلا أن يشترط نفي الضمان، وهو ما فهمه الإمام إسحاق من كلام الإمام أحمد، واستدلاله بفعل أنس.
وإن كان جاء في الاختيارات لابن تيمية تحقيق أخينا وزميلنا الدكتور أحمد الخليل (ص: 231): «وهي مضمونة إن اشترط ضمانها، وهي رواية عن أحمد» . فإن ثبتت هذه الرواية فعن الإمام أحمد روايتان، وإلا كانت الرواية الثابتة عن الإمام أحمد: أنه يضمن إلا أن يشترط نفي الضمان. وهذه هي المتفقة مع مذهب الإمام أحمد أن المستعير عند الإطلاق ضامن، وهي المشهورة في المذهب. والله أعلم.
جاء في فتح العلي المالك: «تقدم في كلام اللخمي في مسألة الرهن أن ابن القاسم وأشهب اتفقا على أنه لا ضمان على المستعير إذا شرط نفي الضمان وتقدم في كلام التوضيح عن المازري نحوه.
وقال اللخمي في كتاب العارية: واختلف إذا شرط المستعير أنه مصدق في تلف الثياب وما أشبهها فقال ابن القاسم وأشهب: له شرطه ولا شيء عليه»
(1)
.
قال ابن القيم في أعلام الموقعين: «اختلف الناس في العارية: هل توجب الضمان إذا لم يفرط المستعير؟ على أربعة أقوال: ....
الرابع: أنه إن شرط نفي ضمانها لم يضمن، وإن أطلق ضمن، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد»
(2)
.
° وجه هذا القول:
أما أدلتهم على وجوب الضمان إذا كان العقد مطلقًا فقد تقدم، فلا حاجة إلى إعادته، وأما سقوط الضمان بالشرط، فلأن العارية معروف وإحسان، وإسقاط الضمان معروف ثان، فهي زيادة في الإرفاق به والإحسان عليه فتصح، وليس بمنزلة ما كان أصلًا عن معاوضة كالرهن وإجارة الصناع
(3)
.
° الراجح:
أرى أن القول الراجح أن العارية من عقود الأمانات، لا تضمن إلا بالتعدي
(1)
فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب مالك (1/ 366).
(2)
أعلام الموقعين (3/ 280).
(3)
انظر فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب مالك (1/ 366).
أو بالتفريط، وأن اشتراط الضمان في عقود الأمانات إذا كانت من عقود التبرع أنه شرط معتبر وصحيح، وانظر الأدلة عليه في المسألة التالية.
* * *