الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السادس
في الاتجار في اللقطة
[م-2021] الاتجار في اللقطة بعد أن يقوم بتعريفها سنة كاملة يرجع الخلاف فيها إلى الخلاف في حكم تملك اللقطة.
فالحنفية إن كان الملتقط غنيًا وجب عليه إما حفظها لصاحبها، أو التصدق بها عنه بشرط ضمانها، وإن كان فقيرًا صح له أن ينتفع بها.
والجمهور على جواز تملكها. وسبق بحث هذه المسألة في مبحث مستقل.
وأما الاتجار بها قبل أن تنتهي السنة الأولى فالفقهاء بالاتفاق يرون أن يد الملتقط على اللقطة يد أمانة وحفظ خلال الحول، وإذا اتجر فيها خلال هذه المدة فهو ضامن لها بالاتفاق؛ لأن في ذلك تعريضا لها للهلاك أو الضياع أو النقص بفعل من الملتقط عن قصد، إذ التجارة تحتمل الربح والخسارة، والملتقط ممنوع من تعريض ما التقطه للهلاك أو الضياع أو النقصان قبل تملكه.
واختلفوا في مسألتين منه:
المسألة الأولى: هل فعله محرم أو مكروه.
والمسألة الثانية: إذا اتجر فيها وربحت خلال الحول وجاء صاحبها وقد ربحت، فهل يملك الربح أو يكون الربح لمالكها؟
والخلاف فيها كالخلاف في الاتجار في الوديعة بدون إذن صاحبها، فإن كلًا من الوديعة وكذا اللقطة في السنة الأولى خلال التعريف أمانة للحفظ دون التصرف.
جاء في المدونة: «أرأيت رجلا حرًا وجد لقطة
…
أيتجر بها في السنة التي يعرفها في قول مالك؟
قال: قال مالك في الوديعة: لا يتجر فيها، فأرى اللقطة بمنزلة الوديعة في السنة التي يعرفها فيها أنه لا يتجر بها، ولا بعد السنة أيضا؛ لأن مالكًا قال: إذا مضت السنة لم آمره بأكلها»
(1)
.
وإذا كان الخلاف فيها كالخلاف في الوديعة، فسوف نعرض لحكم الوديعة في المسألتين، وينزل الخلاف في الوديعة على الخلاف في اللقطة:
المسألة الأولى: حكم الاتجار في الوديعة:
[م-2022] اختلف الفقهاء في حكم الاتجار في الوديعة على قولين:
القول الأول:
ذهب المالكية إلى أن الاقتراض من الوديعة بدون إذن صاحبها ليس حراماً إذا تحقق شرطان: أن يكون المال مثلياً، وأن يكون المتصرف مليئاً.
فالمالكية يرون أنه يحرم على الوديع أن يستلف من الوديعة إن كان فقيراً، سواء أكانت الوديعة من القيميات أم من المثليات، وذلك لتضرر مالكها بعدم الوفاء نظراً لإعدامه.
وأما إن كان موسراً، فإن كانت الوديعة عرضاً قيمياً فيحرم على الوديع اقتراضها؛ لانعدام المثل هنا.
وإن كانت الوديعة مثلية، فإن كانت نقوداً، فيكره على الوديع اقتراضها؛ لأن المثل هنا يقوم مقام العين.
(1)
المدونة (6/ 175).
وقيل يجوز بلا كراهة
(1)
.
وإن كانت الوديعة المثلية ليست نقوداً، فإن كانت مما يكثر اختلافه، ولا يتحصل أمثاله، فيحرم اقتراضها كالقيميات، وإلا فيجوز تسلفها كالدراهم والدنانير في ظاهر المدونة
(2)
.
القول الثاني:
يحرم عليه الاقتراض من الوديعة بدون إذن صاحبها، وبهذا قال الحنفية، والشافعية، والحنابلة
(3)
.
(1)
منح الجليل (7/ 10)، التاج والإكليل (5/ 255).
(2)
جاء في الموطأ (2/ 735): «قال يحيى: سمعت مالكاً يقول: إذا استودع الرجل مالاً فابتاع به لنفسه، وربح فيه، فإن ذلك الربح له؛ لأنه ضامن للمال حتى يؤديه إلى صاحبه» .
قال الباجي في المنتقى في شرح عبارة الإمام مالك (5/ 279): «وهذا على حسب ما قال: إن من تجر بمال استودعه، فربح فيه فإن الربح له وقد اختلف قول مالك في جواز السلف من الوديعة بغير إذن المودع: فحكى القاضي أبو محمد في معونته أن ذلك مكروه.
وقد روى أشهب عن مالك في العتبية أنه قال: ترك ذلك أحب إلي، وقد أجازه بعض الناس، فروجع في ذلك فقال: إن كان له مال فيه وفاء، وأشهد، فأرجو أن لا بأس به.
ووجه الكراهية: ما احتج به القاضي أبو محمد; لأن صاحبها إنما دفعها إليه; ليحفظها لا لينتفع بها، ولا ليصرفها فليس له أن يخرجها عما قبضها عليه.
وفي المدونة من رواية محمد بن يحيى، عن مالك من استودع مالاً أو بعث به معه، فلا أرى أن يتجر به، ولا أن يسلفه أحداً، ولا يحركه عن حاله ; لأني أخاف أن يفلس أو يموت فيتلف المال ويضيع أمانته.
ووجه الرواية الثانية أنا إذا قلنا: إن الدنانير والدراهم لا تتعين ; فإنه لا مضرة في انتفاع المودع بها إذا رد مثلها وقد كان له أن يرد مثلها ويتمسك بها مع بقاء أعيانها». وانظر منح الجليل (7/ 10).
(3)
الهداية (3/ 216)، درر الحكام شرح مجلة الأحكام (2/ 308)، النتف في الفتاوى للسغدي (2/ 581)، المبسوط (11/ 111)، الاختيار لتعليل المختار (3/ 26)، الأم (4/ 137)، المهذب (1/ 361)، الحاوي الكبير (8/ 364)، نهاية المطلب (11/ 417)، الوسيط (4/ 508)، المبدع (5/ 241)، الإنصاف (6/ 332)، المحرر (1/ 364).
وسبق ذكر أدلة المسألة في عقد الوديعة عند الكلام على حكم الاقتراض من الوديعة.
وقد ترجح لي في المسألة: أنه لا يجوز الاقتراض من الوديعة مطلقًا، حتى ولو كانت الوديعة مثلية كالدراهم، وسواء كان المقترض معسرًا أو كان موسرًا، لأن يد المودع يد أمانة، وقد وضعت على هذا المال للحفظ، وليس لشيء آخر، واقتراضها بدون إذن صاحبها يحوله إلى رجل غير أمين، فالإيداع عقد على حفظ العين، فهي تتعين بالتعيين، ولو كانت من الدراهم.
نعم يجوز إقراض الوديعة إذا كان رفقًا بالمالك، كما لو أقرض الوصي والولي مال الصغير إذا خاف عليه من السرقة فيجوز إقراضه لمن كان موسرًا، وأخذ رهنًا بذلك.
وكما يجوز للوديع إذا خاف على الوديعة أن يقرضها للبنوك، باعتبار أن ودائع البنوك قروض على الصحيح وإن سماها الناس ودائع.
وإذا كان هذا هو الراجح والله أعلم كان الاتجار في اللقطة لا يجوز في السنة الأولى خلال التعريف؛ لأن حكمها حكم الوديعة.
المسألة الثانية: إذا اتجر فيها وربح، فلمن يكون هذا الربح؟
[م-2023] وإذا كانت الاتجار في اللقطة يأخذ حكم الاتجار في الوديعة، فإن في ذلك خلافًا أيضًا كالخلاف الواقع في الوديعة.
القول الأول:
الربح لملتقط اللقطة؛ لأنه ضامن لها. وهذا مذهب المالكية.
وقال الباجي في المنتقى شرحًا لقول مالك في الموطأ: «قال يحيى: سمعت مالكًا يقول: إذا استودع الرجل مالًا فابتاع به لنفسه، وربح فيه، فإن ذلك الربح له؛ لأنه ضامن للمال حتى يؤديه إلى صاحبه. اهـ قال الباجي: وهذا على حسب ما قال: إن من اتجر بمال استودعه فربح فيه، فإن الربح له .... »
(1)
.
القول الثاني:
يتصدق به، وهذا مذهب الحنفية، ورواية عن الإمام أحمد
(2)
.
القول الثالث:
أن الملتقط إذا اتجر فباع واشترى بها، فهو غاصب، وأما حكم تصرفه:
فبيع الأعيان باطل مطلقًا، والبيع منقوض وإن تعددت، وهي مستردة ما دامت الأعيان قائمة، والأعيان المأخوذة في مقابلتها مردودة على ملاكها.
وإن اشترى باللقطة، فإن كان الشراء بأعيانها فالشراء باطل كذلك.
وإن كان يشتري بذمته، ثم يؤدي الثمن من اللقطة، فالشراء ثابت له، فإذا ملك السلع، ثم ربح فيها، فله الربح، وما كان من خسارة فعليه، وعليه مثل الدراهم والدنانير التي غصبها، وهذا آخر قولي الشافعي، وعليه أكثر أصحابه
(3)
.
(1)
المنتقى للباجي (5/ 279).
(2)
الإنصاف (6/ 209).
(3)
نهاية المطلب (7/ 497)، الإقناع لابن المنذر (2/ 405)، الإشراف على مذاهب العلماء (6/ 337 - 339).
وهي رواية في مذهب الحنابلة في التعامل مع الغاصب
(1)
.
(2)
.
القول الرابع:
أن الربح للمالك، وهذا مذهب الحنابلة.
(3)
.
وقد سبق أن تكلمنا على أدلة هذه الأقوال في عقد الوديعة، فأغنى ذلك عن إعادتها هنا.
* * *
(1)
القواعد لابن رجب (ص: 442).
(2)
الإقناع (2/ 405).
(3)
الإنصاف (6/ 209).