الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني
في إسلام اللقيط
[م-2069] الصبي الذي لا يميز والمجنون لا يتصور إسلامهما إلا تبعًا، والتبعية تارة تكون للأبوين، وتارة تكون للدار، ولما كان اللقيط لا يعرف أبواه، أصبح البحث في الحكم بإسلامه أو بكفره إما يعود للدار أو يعود للملتقط، وهذا ما سوف نكشف عنه في هذا الفصل إن شاء الله تعالى من خلال استعرا ض أقوال المذاهب الفقهية.
القول الأول: تحرير مذهب الحنفية:
اتفق الحنفية في حكم ديانة اللقيط في حالتين واختلفوا في حالتين، وإليك بيانها:
الحال الأولى.
أن يلتقطه مسلم في بلاد المسلمين أو في مكان خاص بهم، كالمساجد، فهذا يحكم بإسلامه، قولًا واحدًا في مذهب الحنفية
(1)
.
الحال الثانية:
أن يلتقطه كافر في بلاد الكفار، أو في مكان خاص بهم كالكنائس والبيع، فهذا يحكم بكفره عند الحنفية قولًا واحدًا
(2)
.
(1)
الاختيار لتعليل المختار (3/ 31)، بدائع الصنائع (6/ 198)، الفتاوى الهندية (2/ 287، 288) المبسوط (10/ 215).
(2)
الهداية شرح البداية (2/ 415)، حاشية ابن عابدين (4/ 273)، حاشية الشلبي على تبيين الحقائق (3/ 299)، مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر (1/ 703)، المبسوط (10/ 215).
الحال الثالثة:
أن يلتقطه مسلم في بلاد الكفار، أو في مكان خاص بهم.
الحال الرابعة:
أن يلتقطه كافر في بلاد المسلمين أو في مكان خاص بهم.
فالحكم في هاتين الحالتين موضع خلاف عند الحنفية على أربع روايات أسوقها حسب شهرتها وقوتها في مذهب الحنفية:
الرواية الأولى:
أن الحكم للمكان، وهو ظاهر الرواية في مذهب الحنفية، ورجحه الكاساني في بدائع الصنائع
(1)
.
وعليه: فإن وجد في بلاد المسلمين أو في مكان خاص بهم حكم بإسلامه، أو وجد في بلاد الكفار أو في مكان خاص بهم حكم بكفره، سواء كان الملتقط مسلمًا أو كافرًا.
° وجه هذه الرواية:
الوجه الأول:
أن الظاهر أن أولاد المسلمين لا يكونون في مواضع أهل الذمة وكذلك العكس.
(1)
الاختيار لتعليل المختار (3/ 31)، بدائع الصنائع (6/ 198)، الفتاوى الهندية (2/ 287، 288)، الهداية شرح البداية (2/ 415)، حاشية ابن عابدين (4/ 273)، حاشية الشلبي على تبيين الحقائق (3/ 299)، مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر (1/ 703)، المبسوط (10/ 215).
الوجه الثاني:
أن المكان سابق لوضع اليد، فكان هو المعتبر.
الرواية الثانية:
أن الحكم للواجد، فإن التقطه مسلم كان مسلمًا، ولو كان في مكان خاص بالكفار، وإن التقطه كافر حكم بكفره، وإن كان في مكان خاص بالمسلمين؛ لقوة اليد
(1)
.
جاء في المبسوط: «الثالث: أن يجده كافر في مكان المسلمين.
والرابع: أن يجده مسلم في مكان الكفار، ففي هذين الفصلين اختلفت الرواية ففي كتاب اللقيط يقول: العبرة للمكان في الفصلين جميعًا، وفي رواية ابن سماعة عن محمد رحمهما الله تعالى، قال: العبرة للواجد في الفصلين جميعًا»
(2)
.
الرواية الثالثة:
من الحنفية من جعل المعتبر ما يوجب الإسلام من المكان أو الواجد؛ لأنه أنفع للقيط، ولأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه.
جاء في مجمع الأنهر: «أيهما كان موجبًا لإسلامه فهو المعتبر؛ لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، وهو أنفع له كما في أكثر المعتبرات»
(3)
.
(1)
حاشية ابن عابدين (4/ 273)، حاشية الشلبي على تبيين الحقائق (3/ 299)، مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر (1/ 703)، المبسوط (10/ 215).
(2)
المبسوط (10/ 215).
(3)
مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر (1/ 703).
الرواية الرابعة:
من الحنفية من اعتبر العمل بالسيما والزي، فمن كان عليه لباس المسلمين كان مسلمًا، ومن كان عليه ملابس الكفار وزيهم حكم بكفره
(1)
.
قال تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29].
وقال تعالى: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} [الرحمن: 41].
القول الثاني: تحرير مذهب المالكية.
ذهب المالكية إلى أن اللقيط له حالات، منها:
الحالة الأولى:
أن يوجد في بلاد المسلمين فهذا يحكم بإسلامه مطلقًا سواء كان الملتقط مسلمًا أو كافرًا تغليبًا للدار
(2)
.
الحال الثانية:
أن يوجد في بلاد الكفار فإنه يحكم بكفره سواء التقطه مسلم أو كافر تغليبًا للدار.
وقال أشهب: إن التقطه مسلم فهو مسلم.
(1)
البحر الرائق (5/ 158).
(2)
المدونة (4/ 398)، عقد الجواهر الثمينة (3/ 1000)، حاشية الدسوقي مع الشرح الكبير (4/ 126)، الخرشي (7/ 132)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (4/ 181)، مواهب الجليل (6/ 81)، منح الجليل (8/ 248)، أحكام القرآن لابن العربي (3/ 44)، تفسير القرطبي (9/ 134 - 135)، الاستذكار (7/ 159)، الذخيرة (9/ 134).
° وجه قول أشهب:
أن للدار تأثيرًا، وللملتقط تأثيرًا، فوجب أن يغلب حكم الإسلام
(1)
.
الحال الثالثة:
أن يوجد في قرية ليس فيها من المسلمين سوى ثلاثة بيوت فأقل، فالحكم باعتبار لاقطه، فيحكم بإسلامه إن التقطه مسلم، وإن التقطه كافر حكم بكفره على المشهور.
° وجه هذا القول:
القياس على إسلام المسبي تبعًا لإسلام سابيه.
وقال أشهب: حكمه الإسلام مطلقًا، التقطه مسلم أو ذمي؛ لاحتمال أن يكون لمن فيها من المسلمين، كما أجعله حرًا، وإن كنت لا أعلم أحر هو أم عبد؛ لاحتمال الحرية؛ لأن الشرع رجح جانبيها
(2)
.
جاء في المدونة: «قلت ـ القائل سحنون ـ أرأيت إن التقطت لقيطًا في مدينة من مدائن المسلمين، أو في قرية من قرى أهل الشرك في أرض أو كنيسة، أو في بيعة، أو التقطته وعليه زي الإسلام أو عليه زي النصارى أو اليهود، أي شيء تجعله أمسلمًا، أو نصرانيًا، أو يهوديا في قول مالك؟ وكيف إن كان قد التقطه الذي التقطه في بعض هذه المواضع التي ذكرت لك مسلم أو مشرك ما حاله في قول مالك؟
(1)
المنتقى للباجي (6/ 3).
(2)
عقد الجواهر الثمينة لابن شاس (3/ 1000).
قال ـ أي ابن القاسم ـ: ما سمعت من مالك فيه شيئًا، وأنا أرى إن كان في قرى الإسلام ومدائنهم وحيث هم فأراه مسلمًا، وإن كان في مدائن أهل الشرك وأهل الذمة ومواضعهم فأراه مشركًا، ولا يعرض له، وإن كان وجده في قرية فيها مسلمون ونصارى نظر، فإن كان إنما مع النصارى الاثنان والثلاثة من المسلمين وما أشبه ذلك من المسلمين فهو للنصارى، ولا يعرض له إلا أن يلتقطه مسلم فيجعله على دينه»
(1)
.
الحال الرابعة:
أن يوجد في قرية فيها من المسلمين أربعة بيوت فأكثر، فهذا يحكم بإسلامه، سواء كان الملتقط مسلمًا أو ذميًا.
وقيل: إذا اجتمع في القرية مسلمون وكفار فيحكم بإسلامه مطلقا إذا تساوى المسلمون مع الكفار، وأولى إذا كان المسلمون أكثر فإذا كان الكفار أكثر، فإن كانا متقاربين فكذلك، وإلا كان الحكم للملتقط، فإن التقطه مسلم فهو مسلم، وإن التقطه كافر فكافر. اختاره بعض المالكية
(2)
.
هذا تفصيل اللقيط بالنسبة لأصحاب مالك:
وقال أشهب: هو مسلم أبدًا لأني أجعله مسلمًا على كل حال، كما أجعله حرًا على كل حال
(3)
.
القول الثالث: تحرير مذهب الشافعية والحنابلة.
(1)
المدونة (4/ 398).
(2)
انظر شرح الخرشي (7/ 132).
(3)
الاستذكار لابن عبد البر (7/ 159)، تفسير القرطبي (9/ 135).
ذهب الشافعية في تفصيل مذهبهم إلى الحكم للدار، وعلى هذا قسموا الدار إلى دار إسلام ودار كفر.
الحال الأولى: دار الإسلام، وقسموها إلى ثلاثة أضرب:
أحدها: دار يسكنها المسلمون، فاللقيط الموجود فيها مسلم وإن كان فيها أهل ذمة، تغليبًا للإسلام.
الثاني: دار فتحها المسلمون، وأقروها في يد الكفار بجزية، فقد ملكوها، أو صالحوهم ولم يملكوها، فاللقيط فيها مسلم إن كان فيها مسلم واحد فأكثر، وإلا، فكافر على الصحيح.
وقيل: مسلم، لاحتمال أنه ولد من يكتم إسلامه منهم.
الثالث: دار كان المسلمون يسكنونها، ثم جلوا عنها وغلب عليها الكفار، فإن لم يكن فيها من يعرف بالإسلام، فهو كافر على الصحيح. وقال أبو إسحاق: مسلم، لاحتمال أن فيها كاتم إسلامه.
وإن كان فيها معروف بالإسلام، فهو مسلم.
الحال الثانية: دار الكفر، وهي على ثلاثة أضرب:
ما كان من بلادهم التي ليس فيها مسلم، فاللقيط الموجود فيها محكوم بكفره.
الضرب الثاني: ما كان من بلاد الشرك التي فيها مسلمون تجار، كبلاد الروم، فهل يحكم بكفره تبعا للدار، أو بإسلامه تغليبا للإسلام؟ وجهان في مذهب الشافعية. أصحهما الحكم بإسلامه.
الضرب الثالث: ما كان من بلاد الإسلام التي غلب عليها المشركون حتى صارت دار شرك كبلاد الأندلس، فإذا التقط المنبوذ فيها نظر فإن كان فيها أحد من المسلمين ولو واحدًا جرى على الملقوط فيها حكم الإسلام.
وإن لم يكن فيها أحد من المسلمين أجري عليه حكم الشرك في الظاهر لبعد المسلمين عنها وامتناع حكمهم فيها.
وإذا كانت البقعة أصحاب ملل مختلفة، فالقياس أن يجعل من أصونهم دينا.
ولا أثر لعابري السبيل من المسلمين، ولا للمحبوسين في المطامير
(1)
.
هذا ملخص مذهب الشافعية، ومذهب الحنابلة قريب منه.
قال ابن قدامة: «ولا يخلو اللقيط من أن يوجد في دار الإسلام، أو في دار الكفر، فأما دار الإسلام فضربان؛
أحدهما: دار اختطها المسلمون، كبغداد والبصرة والكوفة، فلقيط هذه محكوم بإسلامه، وإن كان فيها أهل الذمة تغليبًا للإسلام ولظاهر الدار. ولأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه.
الثاني: دار فتحها المسلمون، كمدائن الشام، فهذه إن كان فيها مسلم واحد حكم بإسلام لقيطها؛ لأنه يحتمل أن يكون لذلك المسلم، تغليبا للإسلام. وإن لم يكن فيها مسلم، بل كل أهلها ذمة حكم بكفره؛ لأن تغليب حكم الإسلام إنما يكون مع الاحتمال.
(1)
الحاوي الكبير (8/ 43)، روضة الطالبين (5/ 433 - 434)، أسنى المطالب (2/ 499)، تحفة المحتاج (6/ 350)، نهاية المحتاج (5/ 454)، حشيتا قليوبي وعميرة (3/ 127)، حاشية الجمل (3/ 616).
وأما بلد الكفار فضربان أيضًا:
أحدهما: بلد كان للمسلمين، فغلب الكفار عليه، كالساحل، فهذا كالقسم الذي قبله، إن كان فيه مسلم واحد حكم بإسلام لقيطه، وإن لم يكن فيه مسلم فهو كافر.
وقال القاضي: يحكم بإسلامه أيضا؛ لأنه يحتمل أن يكون فيه مؤمن يكتم إيمانه، بخلاف الذي قبله، فإنه لا حاجة به إلى كتم إيمانه في دار الإسلام.
وإن كان في بلد كان للمسلمين، ثم غلب عليه المشركون، ثم ظهر عليه المسلمون، وأقروا فيه أهله بالجزية، فهذا كالقسم الثاني من دار الإسلام.
الثاني دار لم تكن للمسلمين أصلا. كبلاد الهند والروم، فإن لم يكن فيها مسلم، فلقيطها كافر؛ لأن الدار لهم وأهلها منهم، وإن كان فيها مسلمون كالتجار وغيرهم، احتمل أن يحكم بإسلامه، تغليبا للإسلام، واحتمل أن يحكم بكفره، تغليبا للدار والأكثر»
(1)
.
القول الخامس:
تعرض ابن حزم في دعوى اللقيط، فيصدق إذا ادعاه مسلم، ولا يصدق إذا ادعاه كافر.
وفهم من كلامه أن اللقيط محكوم له بالإسلام مطلقًا بناء على أنه على فطرته التي فطره الله عليها، ولا يصرفه عن ذلك إلا الشياطين أو الآباء إن كانوا على
(1)
المغني (6/ 35)، وانظر كشاف القناع (4/ 227)، مطالب أولي النهى (4/ 246)، الإنصاف (6/ 434)، الكافي لابن قدامة (2/ 363)، المبدع (5/ 294).
غير ملة الإسلام، وحيث إن اللقيط لا يعرف له أبوان، فإنه يبقى على فطرته التي فطره الله عليها.
يقول ابن حزم: «كل مولود يولد على الفطرة وعلى الملة» وقوله عليه السلام عن ربه تعالى في حديث عياض بن حمار المجاشعي: «خلقت عبادي حنفاء كلهم» .
ولقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172].
فإن ادعاه كافر لم يصدق؛ لأن في تصديقه إخراجه عما قد صح له من الإسلام، ولا يجوز ذلك إلا حيث أجازه النص ممن ولد على فراش كافر من كافرة فقط»
(1)
.
وقول ابن حزم يشبه قول أشهب من المالكية حيث حكم له بالإسلام مطلقًا، والله أعلم.
° الراجح:
بعد أن عرفنا تحرير المسألة في كل مذهب من المذاهب الأربعة، أجد أن هناك مسائل متفق عليها، ومسائل مختلف فيها:
فإذا وجد اللقيط في بلد الكفار التي لا يوجد فيها مسلم، والتقطه كافر أن اللقيط يحكم بكفره.
وما عداه فأجد أن الحكم بإسلامه هو أصوب الأقوال، قال في الإنصاف:
(1)
المحلى بالآثار (7/ 135).
(1)
الإنصاف (6/ 434).