الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث
في الإشهاد على اللقطة
الإشهاد على اللقطة لا يجب كسائر الأمانات.
[م-2004] إذا وجد اللقطة ولم يشهد عليها، فضاعت، فهل يضمن اللقطة؟
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول:
ذهب الحنفية إلى أن الإشهاد على أخذ اللقطة واجب،، فإن ترك الإشهاد مع تمكنه منه، فإن أقر بأنه أخذها لنفسه ضمن باتفاق الحنفية إن هلكت في يده؛ لأنه متعد، وإن قال: إنما أخذها لصاحبها، فإن صدقه المالك لم يضمن باتفاق الحنفية؛ لأن تصادقهما كالبينة، وإن كذبه المالك فعليه الضمان عند أبي حنيفة ومحمد خلافًا لأبي يوسف
(1)
.
والقول بوجوب الإشهاد هو قول ثان في مقابل الأصح في مذهب الشافعية، وفي مقابل المذهب عند الحنابلة، إلا أنهم لا يرتبون على تركه الضمان كالحنفية
(2)
.
جاء في مجمع الضمانات: «اللقطة أمانة في يد الملتقط
…
إذا أشهد
(1)
فتح القدير لابن الهمام (6/ 118)، تحفة الفقهاء (3/ 354 - 355)، بدائع الصنائع (6/ 201)، الهداية شرح البداية (2/ 417)، تبيين الحقائق (3/ 302)، الاختيار لتعليل المختار (3/ 32)، المهذب (1/ 430)، الإنصاف (6/ 418).
(2)
المهذب (1/ 430).
الملتقط حين الأخذ أنه يأخذها ليحفظها ويردها على صاحبها
…
وإن لم يشهد عليه وقال: أخذتها للرد على المالك يضمن عند أبي حنيفة ومحمد.
وقال أبو يوسف: لا يضمن، والقول قوله في أنه أخذ للرد.
وإن أقر أنه أخذها لنفسه يضمن بالإجماع ذكره في الهداية، ثم الخلاف على ما ذكره في الإيضاح عن المبسوط ويشير إليه قاضي خان فيما إذا ترك الإشهاد مع التمكن منه أما عند عدمه بأن لم يجد أحدًا يشهده عند الرفع، أو خاف أنه لو أشهد عند الرفع يأخذها منه ظالم لا يكون ضامنا بالاتفاق»
(1)
.
° دليل الحنفية على وجوب الإشهاد:
(ح-1224) ما رواه الإمام أحمد، قال: حدثنا هشيم، أخبرنا خالد، عن يزيد بن عبد الله بن الشخير، عن أخيه مطرف بن عبد الله بن الشخير،
عن عياض بن حمار، قال: قال رسول الله عليه السلام: من وجد لقطة، فليشهد ذوي عدل، وليحفظ عفاصها، ووكاءها، فإن جاء صاحبها، فلا يكتم، وهو أحق بها، وإن لم يجئ صاحبها، فإنه مال الله يؤتيه من يشاء
(2)
.
[صحيح، وسبق تخريجه]
ويجاب عن هذا الحديث:
بأن الحديث فيه الأمر بالإشهاد، وليس فيه وجوب الضمان بترك الإشهاد، وبينهما فرق.
(1)
مجمع الضمانات (ص: 209).
(2)
المسند (4/ 161).
وليس الأمر بالإشهاد من أجل خوف كتمانها، بل من أجل هذا ومن أجل مصالح أخرى منها الخوف على ضياعها بموت أو نسيان، ولهذا أمر الله بالإشهاد بالبيع، ولم يكن ذلك واجبًا، قال تعالى:{وَأَشهِدُوا إِذَا تَبَايَعتُم} [البقرة: 282].
قال ابن عبد البر: معنى هذا الحديث عندي والله أعلم أن ملتقط اللقطة إذا عرفها وسلك فيها سنتها ولم يكن مغيبًا ولا كاتمًا، وكان معلنًا معرفًا وحصل بفعله ذلك، أمينًا لا يضمن إلا بما يضمن به الأمانات، وإذا لم يعرفها، ولم يسلك بها سنتها، وغيب، وكتم، ولم يعلم الناس أن عنده لقطة، ثم قامت عليه البينة بأنه وجد لقطة ذكروها، وضمها إلى بيته، ثم ادعى تلفها ضمن؛ لأنه بذلك الفعل خارج عن حدود الأمانة»
(1)
.
ولأنه قد يشهد الملتقط احتياطًا لنفسه، ويضمر التقاطها لنفسه لا لتعريفها، فلا يكون الإشهاد مانعًا من الغصب، ولأن الإشهاد على أصل اللقطة لا على جميع صفاتها، فجميع صفاتها لا تعلم إلا من جهته، وهذا يدل على أن ترك الإشهاد لا يخرج اللقطة عن سبيل الأمانات.
الدليل الثاني:
أخذ مال الغير يوجب الضمان، ولا يخرجه عن ذلك إلا أحد أمرين، إما أن يشهد أنه أخذها لصاحبها، أو يصدقه المالك أنه أخذها لمصلحة ربها، وليس لنفسه، أما دعواه أنه أخذها لصاحبها إذا لم يصدقه المالك فهي دعوى تحتاج إلى بينة، فلا يسقط عنه الضمان بمجرد الدعوى.
(1)
التمهيد (3/ 122).
ونوقش هذا:
القول بأن أخذ مال الغير يوجب الضمان ليس على إطلاقه، نعم يوجب الضمان لو أخذه على وجه الاعتداء، أما إذا أخذه في حال ضياعه فلا يوجب الضمان؛ لأن أخذه قد يكون واجبًا عليه إذا خشي عليه الهلاك أو الاعتداء، إلا أن تقوم بينة على أنه أخذه لنفسه فيكون بمنزلة الغاصب، ودعوى المالك بأن الملتقط أخذ المال لنفسه لا يقبل إلا ببينة؛ لأنه يدعي ما يوجب الضمان على الملتقط، والأصل عدمه، والملتقط منكر، فإذا لم يقم البينة على صحة دعواه فالقول قول المنكر.
ولأن هذا الأمر لا يمكن معرفته إلا من قبل الملتقط؛ فإذا أخبر بأنه أخذها ليعرفها قبل منه ذلك.
ولأن الأصل حمل فعل المسلم (الملتقط) على الحسبة والصلاح وليس على المعصية والاعتداء والفساد.
جاء في تبيين الحقائق: «إن لم يشهد عند الالتقاط، وادعى أنه أخذها للرد، وادعى صاحبها أنه أخذها لنفسه، فالقول لصاحبها ويضمن الملتقط قيمتها عندهما.
وقال أبو يوسف: القول قول الملتقط فلا يضمن؛ لأن أخذها لصاحبها حسبة ولنفسه معصية، فكان حمل فعله على الصلاح أولى من حمله على الفساد.
ولأن الملتقط منكر، والمالك مدع للضمان، فالقول قول المنكر.
ولهما أنه أخذ مال الغير بغير إذنه، وهو سبب الضمان فيضمن»
(1)
.
(1)
تبيين الحقائق (3/ 302).
القول الثاني:
يستحب الإشهاد، ولا يجب كسائر الأمانات، وإذا ضاعت ولم يشهد فلا ضمان عليه، وهذا مذهب الجمهور، وأصح الوجهين في مذهب الشافعية، واختاره أبو يوسف من الحنفية
(1)
.
° دليل الجمهور على أن الإشهاد ليس واجبًا:
الدليل الأول:
(ح-1225) ما رواه البخاري من طريق ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن يزيد مولى المنبعث،
عن زيد بن خالد الجهني: أن رجلا سأل رسول الله عليه السلام عن اللقطة، فقال: عرفها سنة، ثم اعرف وكاءها وعفاصها، ثم استنفق بها، فإن جاء ربها فأدها إليه
(2)
، وفي الباب حديث أبي بن كعب رضي الله عنه.
وجه الاستدلال:
أن النبي عليه السلام وقد سئل عن الواجب في اللقطة، فأمره بتعريفها وحفظ عفاصها
(1)
فتح القدير لابن الهمام (6/ 119)، التمهيد (3/ 121)، الاستذكار (7/ 251)، الإشراف (2/ 86)، الذخيرة للقرافي (9/ 104 - 106)، مواهب الجليل (6/ 77)، المقدمات الممهدات (2/ 483)، بداية المجتهد (2/ 231)، الحاوي الكبير (8/ 12)، نهاية المطلب (8/ 490)، الوسيط (4/ 282)، البيان للعمراني (7/ 524)، أسنى المطالب (2/ 487).
وقال النووي في الروضة: «في وجوب الإشهاد على اللقطة وجهان، ويقال: قولان: أصحهما: لا يجب، لكن يستحب. وقيل: لا يجب قطعًا» .
وانظر مسائل الإمام أحمد وإسحاق رواية الكوسج (5/ 2265)، المغني (6/ 12)، شرح منتهى الإرادات (2/ 383)، الإنصاف (6/ 418)، المبدع (5/ 285)، كشاف القناع (4/ 220).
(2)
صحيح البخاري (6112)، وهو في مسلم (1722).
ووكائها كما في حديث زيد بن خالد الجهني وحديث أبي بن كعب، ولم يأمره بالإشهاد عليها، ولو كان الإشهاد واجبًا لبينه عليه السلام؛ إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فتعين حمل الأمر في حديث عياض على الاستحباب.
الدليل الثاني:
أن الالتقاط لا يخرج عن كونه إما أمانة إن قصد به الحفظ، أو كسبًا إن نوى بتعريفها تملكها، وكلاهما لا يجب الإشهاد عليهما.
الدليل الثالث:
قال ابن عبد البر: «إجماع العلماء بأن المغصوبات لو أشهد الغاصب على نفسه أنه غصبها لم يدخلها إشهاده ذلك في حكم الأمانات، فكذلك ترك الإشهاد على الأمانات لا يدخلها في حكم المضمونات»
(1)
.
° الراجح:
أن الإشهاد مستحب، وتركه لا يوجب الضمان؛ لأن تعريفها واجب عليه، وهو أبلغ من الإشهاد؛ لأنه إشهاد متكرر على مدار العام، والله أعلم.
* * *
(1)
الاستذكار (7/ 251).