الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث
إذا جاء صاحبها بعد التعريف
تعريف اللقطة لا ينفي حق مالكها إذا أتى يطلبها.
مالك اللقطة أحق بها من واجدها قبل التعريف وبعده.
[م-2007] إذا جاء مالك اللقطة بعد تعريفها حولًا كاملًا، فهل يجب على الملتقط أن يردها إليه؟
اختلف العلماء في ذلك، وسبب الخلاف: هل تعريف اللقطة ينقل الملك نقلًا مطلقًا من صاحبها إلى واجدها، بحيث تنقطع علاقة مالكها بهذا المال بعد تعريفها، أو أن الملك انتقل إلى الواجد بشرط عدم ظهور صاحبها، فكان الملتقط أحق بهذا المال من غيره لعثوره عليه، ولقيامه بتعريفه، فإذا ظهر مالكه لم يكن لأحد أن ينازعه في ملكية ماله كامرأة المفقود إذا تزوجت، ثم رجع زوجها الأول.
في هذه المسألة اختلف العلماء على قولين:
القول الأول:
يجب رد العين إن كانت موجودة، أو رد بدلها إن كان قد تصرف فيها، وهذا قول الجمهور، واختيار ابن حزم من الظاهرية
(1)
.
(1)
المبسوط (11/ 3، 5)، تحفة الفقهاء (3/ 355)، بدائع الصنائع (6/ 202) شرح الهداية شرح البداية (2/ 418)، الاختيار لتعليل المختار (3/ 32)، شرح الزرقاني على الموطأ (4/ 96)، الشرح الكبير للدردير (4/ 121)، منح الجليل (8/ 234)، التاج والإكليل (6/ 74)، حاشية الدسوقي (4/ 121)، الخرشي (7/ 125)، الحاوي الكبير (8/ 9، 14)، مغني المحتاج (2/ 415)، روضة الطالبين (5/ 414)، الإنصاف (6/ 421).
جاء في النتف في الفتاوى: «قال أبو حنيفة وأصحابه يعرفها، فإن لم يجد من يعرفها يتصدق بها، وإن كان فقيرًا فأكلها جاز، فإن جاء صاحبها خيره بين الضمان والأجر»
(1)
.
وقال الباجي في المنتقى: «جواز الاستنفاق على معنى الاستسلاف لها، وأنه متى أتى صاحبها كان له أخذها .... ومن استنفقها بعد الاجتهاد في التعريف على ما أمر به النبي عليه السلام فلا إثم عليه، ومتى أتى صاحبها أداها إليه»
(2)
.
وجاء في الحاوي: «فإن جاء صاحبها، وإلا فهي له بعد سنة على أنه متى جاء صاحبها في حياته أو بعد موته فهو غريم إن كان استهلكها»
(3)
.
جاء في الإنصاف: «لو أدركها ربها بعد الحول مبيعة أو موهوبة فليس له إلا البدل كما في التلف»
(4)
.
(5)
.
(1)
النتف في الفتاوى (2/ 586).
(2)
المنتقى للباجي (6/ 138).
(3)
الحاوي (8/ 14).
(4)
الإنصاف (6/ 421).
(5)
المحلى، مسألة (1383).
° دليل الجمهور على ضمان اللقطة إذا جاء صاحبها:
الدليل الأول:
(ح-1233) ما رواه البخاري من طريق مالك، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن يزيد مولى المنبعث،
عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى عليه السلام، فسأله عن اللقطة، فقال: اعرف عفاصها ووكاءها، ثم عرفها سنة، فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها
(1)
.
وجه الاستدلال:
قوله: (فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها)، وفي رواية: فإن جاء صاحبها وإلا استمتع بها).
فالكلام فيه حذف وتقدير: فإن جاء صاحبها فادفعها إليه، وإن لم يأت صاحبها فشأنك بها، أو فاستمتع بها على الرواية الأخرى، فكان الاستمتاع بها مشروطًا بأن لا يأتي صاحبها، فإن أتى صاحبها وجب دفعها إليه.
قال ابن مالك في توضيحه: «تضمَّن هذا الحديث حذف جواب (إنْ) الأولى وحذف شرط (إنْ) الثانية، وحذف الفاء من جوابها، فإن الأصل: فإنْ جاء، صاحبُها أخذها وإلا يجئ فاسْتمتعْ بها»
(2)
.
ويناقش:
بأن الحديث تضمن جملًا، منها:
(1)
سبق تخريجه (ح 1226).
(2)
التوضيح لابن مالك (ص: 22)، وانظر فتح الباري (5/ 84)، شرح الزرقاني على الموطأ (4/ 96).
أولًا: معرفة عفاصها ووكائها.
ثانيًا: القيام بتعريفها، فإن جاء صاحبها دفعها إليه.
ثالثًا: إذا عرفها فلم يأت صاحبها ملكها.
وسكت عن حالة ما لو أتى صاحبها بعد تعريفها.
ويجاب:
على التسليم بأنه سكت عن ملكيته لها بعد تعريفها فإن الحديث لم ينف ملكية صاحبها لها، وقد ثبت حق المالك لماله قبل التعريف وأثناء التعريف، فيستصحب ذلك حتى يأتي ما ينقل ملكيته لماله بعد التعريف، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن ملكية الملتقط مشروطة بشرطين: الأول: التعريف. والثاني: ألا يأتي صاحبها، فإذا جاء صاحبها لم يتحقق شرط انتقال ملكيتها إلى الملتقط، وإذا كان صاحبها أحق بها قبل استهلاكها فكذلك إذا جاء بعد استهلاكها؛ لأنه لا يمكن أن يكون الاستهلاك سببًا في إسقاط ملكية صاحبها لماله، والله أعلم.
الدليل الثاني:
(ح-1234) ما رواه مسلم حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب، حدثنا سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن يزيد مولى المنبعث،
أنه سمع زيد بن خالد الجهني صاحب رسول الله عليه السلام يقول: سئل رسول الله عليه السلام عن اللقطة الذهب أو الورق، فقال: اعرف وكاءها، وعفاصها، ثم عرفها سنة، فإن لم
تعرف فاستنفقها، ولتكن وديعة عندك، فإن جاء طالبها يومًا من الدهر فأدها إليه
…
الحديث
(1)
.
وجه الاستدلال:
قوله: (فلتكن وديعة عندك) وقوله: (فإن جاء طالبها يومًا من الدهر فأدها إليه) كل هذا يدل على أن اللقطة تمتلك بشرط ضمانها.
والبخاري وإن لم يخرج هذه اللفظة إلا أنه قد ترجم لها في صحيحه بقوله: باب إذا جاء صاحب اللقطة بعد سنة ردها عليه؛ لأنها وديعة.
قال ابن الجوزي: قوله: «(فإن جاء طالبها يوما من الدهر فأدها إليه) رد صريح لمذهب داود، فإن عنده إذا جاء صاحبها بعد الحول لم يغرم له»
(2)
.
ونوقش من وجهين:
الوجه الأول:
أن جملتي: (فلتكن وديعة عندك) وجملة (فإن جاء طالبها يومًا من الدهر فأدها إليه) انفرد فيها سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن يزيد مولى المنبعث، وقد رواه ربيعة الرأي عن يزيد كما في الصحيحين، ولم يذكر ما ذكره سليمان بن بلال عن يحيى، والقصة واحدة، كما أن سليمان بن بلال قد اختلف عليه في ذكرها، فقد رواه البخاري، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الله، قال: حدثني سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد به، ولفظه: (اعرف عفاصها ووكاءها، ثم عرفها سنة، يقول يزيد: إن لم تعرف استنفق بها صاحبها، وكانت
(1)
مسلم (5 - 1722).
(2)
كشف المشكل من حديث الصحيحين (2/ 264).
وديعة عنده، قال يحيى: فهذا الذي لا أدري أفي حديث رسول الله عليه السلام هو، أم شيء من عنده؟
فالتفرد والشك هل هي من الحديث أم من قول يزيد يجعل العبارة غير محفوظة من حديث زيد بن خالد الجهني.
كما خالف سليمان بن بلال كل من حماد بن سلمة، وسفيان بن عيينة، فقد روياه عن يحيى بن سعيد الأنصاري، ولم يذكرا ما ذكره سليمان بن بلال:
فرواه مسلم من طريق حماد بن سلمة، حدثني يحيى بن سعيد الأنصاري، عن يزيد مولى المنبعث،
عن زيد بن خالد الجهني، وفيه:(فإن جاء صاحبها فعرف عفاصها وعددها، ووكاءها فأعطه إياها، وإلا فهي لك)
(1)
.
كما رواه سفيان بن عيينة عن يحيى بن سعيد كما في صحيح البخاري
(2)
، بلفظ: اعرف وكاءها وعفاصها وعرفها سنة، فإن جاء من يعرفها وإلا فاخلطها بمالك، فلم يذكرا في رواية يحيى بن سعيد (فلتكن وديعة عندك) ولا قوله (فإن جاء يومًا من الدهر) إلا أن ابن عيينة رواه عن يحيى بن سعيد، عن يزيد مولى المنبعث مرسلًا، أن النبي عليه السلام، ولم يذكر زيد بن خالد
(3)
.
(1)
مسلم (1724).
(2)
صحيح البخاري (5292).
(3)
ومرسل ابن عيينة، رواه الإمام أحمد (4/ 116)، والحميدي (816).
وأخرجه البخاري (5292) وأبو عوانة في مستخرجه (6452) عن علي بن المديني.
والدارقطني في السنن (4/ 236) من طريق إسحاق بن أبي إسرائيل، أربعتهم:(أحمد، والحميدي، وابن المديني، وإسحاق) رووه عن سفيان بن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن يزيد مولى المنبعث أن النبي عليه السلام فذكره مرسلًا.
وأما قوله: (فإن جاء صاحبها يومًا من الدهر فأدها إليه) فلعله من الرواية بالمعنى، حيث لم يقل أحد ممن روى حديث زيد بن خالد لفظة (يومًا من الدهر) إلا يحيى بن سعيد، تفرد بذلك عنه سليمان بن بلال على اختلاف عليه فيه، والذي يرجح ذلك أن الحديث لا يحتمل تعدد القصة، فإذا كانت القصة واحدة، وانفرد راو عن بقية الثقات بلفظة كان الحكم للأحفظ والأكثر عدداً، ويحيى بن سعيد تارة يرسله، وتارة يوصله، كل هذا يجعل رواية سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد مما انفرد فيه يوجب التوقف فيه، والله أعلم.
(1)
.
الوجه الثاني:
أن هناك فرقًا بين الوديعة واللقطة، فالوديعة عقد يقوم على الحفظ فقط، وليس للمودع حق التصرف في عينها، وليست مضمونة إلا بالتعدي أو التفريط، وإذا تصرف فيها كانت دينًا في ذمته، والوديعة تتعلق بالأعيان وليست بالديون، بينما اللقطة ليست عقدًا، ويملك الملتقط العين بعد التعريف، ويتصرف فيها كما يتصرف في أمواله، وتصرفه فيها بإذن الشرع، وإذن الشرع في التصرف فيها لا يمنع من ضمانها متى ما ظهر مالكها؛ وإذا استهلكها صارت دينًا في ذمته،
(1)
المتواري على أبواب البخاري (ص: 273).
والوديعة لا تتعلق بالديون، لهذا لا يمكن أن يقال: إن اللقطة وديعة عند الملتقط، وهذا الوصف الفقهي يؤيد أن قوله:(فلتكن وديعة عندك) مدرجة من قول الراوي، وليست من قول المعصوم عليه السلام.
ورد هذا:
(1)
.
الدليل الثالث:
(ح-1235) ما رواه النسائي في الكبرى من طريق عمرو بن الحارث، وهشام بن سعد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه،
عن جده، أن رجلا، أتى رسول الله عليه السلام فقال: كيف فيما وجد في الطريق الميتاء أو في القرية المسكونة؟ قال: عرف سنة، فإن جاء باغية فادفعه إليه وإلا فشأنك به، قال: فإن جاء طالبها يومًا من الدهر فأدها إليه، وما كان في الطريق غير الميتاء، وفي القرية غير المسكونة ففيه، وفي الركاز الخمس
(2)
.
(1)
إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (2/ 160).
(2)
السنن الكبرى للنسائي (5796)، ومن طريق عمرو بن الحارث وهشام بن سعد أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار (12/ 159)، شرح معاني الآثار (4/ 135)، وابن الجارود في المنتقى (652)، وابن خزيمة في صحيحه (2178)، ورواه جماعة عن عمرو بن شعيب، وانظر تخريجه، موصولًا بحديث (1245).
[إسناده حسن في الجملة]
(1)
.
الدليل الرابع:
(ح-1236) ما رواه مسلم من طريق عبد الله بن وهب، حدثني الضحاك بن عثمان، عن أبي النضر،
عن بسر بن سعيد، عن زيد بن خالد الجهني، قال: سئل رسول الله عليه السلام عن اللقطة، فقال: عرفها سنة، فإن لم تعترف، فاعرف عفاصها ووكاءها، ثم كلها، فإن جاء صاحبها، فأدها إليه
(2)
.
وجه الاستدلال:
قال ابن حجر في الفتح: «ظاهر قوله (فإن جاء صاحبها
…
) إلخ بعد قوله: (كلها) يقتضي وجوب ردها بعد أكلها، فيحمل على رد البدل
ويحتمل: أن يكون في الكلام حذف يدل عليه بقية الروايات والتقدير: فاعرف عفاصها ووكاءها ثم كلها إن لم يجئ صاحبها، فإن جاء صاحبها فأدها إليه.
وأصرح من ذلك رواية أبي داود من هذا الوجه بلفظ: (فإن جاء باغيها فأدها إليه، وإلا فاعرف عفاصها ووكاءها ثم كلها فإن جاء باغيها فأدها إليه)
(3)
، فأمر بأدائها إليه قبل الإذن في أكلها وبعده وهي أقوى حجة للجمهور»
(4)
.
(1)
انظر تخريجه موصولًا بحديث (1245).
(2)
صحيح مسلم (7 - 1722).
(3)
قلت: الأمر بأدائها قبل الإذن في أكلها تفرد به ابن أبي فديك عن الضحاك بن عثمان، كما في مسند أحمد (5/ 193)، وسنن أبي داود (1706)، وهو رجل صدوق، وقد خالفه في ذلك عبد الله بن وهب عند مسلم (7 - 1722)، وأبو بكر الحنفي عند مسلم (8 - 1722) حيث رواياه بلفظ:(ثم كلها، فإن جاء صاحبها فأدها إليه).
(4)
فتح الباري (5/ 85).
ويناقش:
بأن هذا اللفظ هو أحد ألفاظ حديث زيد بن خالد الجهني، والأمر بأكلها من حديث زيد بن خالد الجهني قد تفرد به بسر بن سعيد، وقد رواه عن زيد بن خالد يزيد مولى المنبعث في الصحيحين، ولم يذكر الأكل، فلعل ذلك من الرواية بالمعنى لقوله عليه السلام:(فشأنك بها)، هذا لفظ مالك، عن ربيعة، عن يزيد مولى المبنعث، عن زيد بن خالد.
الدليل الخامس:
(ح-1237) ما رواه أبو داود من طريق عبد الله بن يزيد، عن أبيه يزيد مولى المنبعث،
عن زيد بن خالد الجهني، وفيه: تعرفها حولا، فإن جاء صاحبها دفعتها إليه، وإلا عرفت وكاءها وعفاصها، ثم أفضها في مالك، فإن جاء صاحبها فادفعها إليه
(1)
.
[إسناده صالح في المتابعات في الجملة، وهذا اللفظ هو أحد ألفاظ حديث زيد بن خالد الجهني، إلا أن قوله: (فإن جاء صاحبها) مرتين: مرة بعد التعريف، ومرة بعد التملك مخالف لرواية الثقات الحفاظ كرواية مالك، وإسماعيل بن جعفر، والثوري وغيرهم في روايتهم عن ربيعة الرأي، كما أنه مخالف لرواية يحيى بن سعيد الأنصاري، كلاهما (ربيعة ويحيى بن سعيد) روياه عن يزيد مولى المنبعث، عن زيد بن خالد وليس فيه (فإن جاء صاحبها) إلا مرة واحدة، وقد سبق تخريج كل ذلك فيما سبق فأغنى ذلك عن تفصيله، والله أعلم]
(2)
.
(1)
سنن أبي داود (1707).
(2)
ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل، وكذا البخاري في التاريخ الكبير، ولم يذكرا فيه شيئًا، وقال الدارقطني: يعتبر به، وذكره في الثقات ابن حبان.
الدليل السادس:
حكى بعض العلماء الإجماع على أن لصاحبها الحق في المطالبة باللقطة.
(1)
.
وقال ابن عبد البر: «وهذا معناه عند الجميع انطلاق يد الملتقط عليها بعد الحول بما شاء من الأكل لها واستنفاقها أو الصدقة بها ولكنه يضمنها إن جاء صاحبها بإجماع المسلمين»
(2)
.
وقال أيضًا: «أجمعوا أن اللقطة ما لم تكن تافها يسيرا أو شيئا لا بقاء له فإنها تعرف حولا كاملا وأجمعوا على أن صاحبها إذا جاء فهو أحق بها من ملتقطها إذا ثبت له أنه صاحبها وأجمعوا أن ملتقطها إن أكلها بعد الحول وأراد صاحبها أن يضمنه فإن ذلك له، وإن تصدق بها فصاحبها مخير بين التضمين وبين أن ينزل
(1)
شرح البخاري لابن بطال (6/ 552).
(2)
الاستذكار (7/ 250).
على أجرها فأي ذلك تخير كان ذلك له بإجماع»
(1)
.
والحق أن خلاف داود الظاهري وغيره من أهل العلم يخرق الإجماع؛ وإنما الإجماع ما أجمع عليه المسلمون، قال تعالى:{وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115]، وداود رحمه الله من جملة المسلمين، فإذا خالف في مسألة فقهية، لم يكن ذلك سبيلًا مجمعًا عليه، وجزم ابن بطال بأن داود قال ذلك اتباعًا للهوى فيه ضيق وتعصب لا يحمد صاحبه، وما أدراك أنه قال ذلك اتباعًا للهوى، ولا يطلع على ذلك من داود إلا الله سبحانه وتعالى، ولا يزال هذا الضيق والتعصب يتوارث بين أهل العلم وغيرهم إلا من رحم ربي، من ذلك العصر إلى عصرنا هذا، والحق لا يعرف بكثرة أتباعه، وإنما يعرف بدليله، فالله المستعان.
القول الثاني:
لا يجب ردها بعد تعريفها، اختاره الكرابيسي من الشافعية
(2)
.
قال النووي في الروضة: «قال الكرابيسي من أصحابنا: لا يطالب بالقيمة، ولا برد العين عند بقائها»
(3)
.
(1)
التمهيد (3/ 107).
(2)
فتح الباري (5/ 84)، عمدة القارئ (2/ 112)، البيان للعمراني (7/ 535)، نيل الأوطار (5/ 409).
(3)
روضة الطالبين (5/ 415)، فهذا نص على أن الكرابيسي لا يوجب رد العين بعد تمام التعريف، لكن جاء في الحاوي الكبير (8/ 16):«وقال الكرابيسي إذا تملك الواجد اللقطة فلا غرم عليه لصاحبها، ولكن له الرجوع بها بعد التملك وإن كانت باقية بعينها» .
وقال العمراني في البيان (7/ 535): «وقال داود: لا يرجع عليه ببدلها، ووافقه الكرابيسي من أصحابنا» .
فظاهر كلام الماوردي والعمراني أن الكرابيسي لا يوجب رد البدل، وأما العين إذا كانت قائمة فإنه يوجب ردها، وعليه فيصير قول الكرابيسي بحسب قول الماوردي والعمراني يرجع إلى القول الثالث، وهو قول داود الظاهري.
وفي تكملة المجموع: «وقال الكرابيسي: لا يلزمه ردها، ولا ضمان بدلها»
(1)
.
° وجه قول الكرابيسي:
أن الملتقط إذا قام بتعريفها سنة، ولم يأت صاحبها أثناء التعريف فقد اكتسب هذا المال، وصار من جملة أمواله، لقوله:(فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها) وقوله: (وإلا فهي لك).
ولأن اللقطة تملك كالركاز، فلما ملك الركاز بغير بدل كذلك يملك اللقطة بغير بدل.
القول الثالث:
يجب الرد مع بقاء العين ولا يجب عليه رد بدلها إذا استنفقت، وهذا قول داود الظاهري، وهو رواية عن أحمد
(2)
.
جاء في قواعد ابن رجب: «اللقطة إذا قدم المالك بعد الحول والتملك، وقد
(1)
تكملة المجموع (15/ 263).
(2)
انظر قول داود الظاهري في البيان للعمراني (7/ 533)، وقال ابن حجر في فتح الباري (5/ 84): «اختلف العلماء فيما إذا تصرف في اللقطة بعد تعريفها سنة ثم جاء صاحبها هل يضمنها له أم لا؟
فالجمهور على وجوب الرد إن كانت العين موجودة، أو البدل إن كانت استهلكت، وخالف في ذلك الكرابيسي صاحب الشافعي، ووافقه صاحباه البخاري وداود بن علي إمام الظاهرية، لكن وافق داود الجمهور إذا كانت العين قائمة».
تلفت، فالمشهور أنه يجب ضمانها للمالك، وذكر ابن أبي موسى رواية أخرى أنه لا يجب الضمان مع التلف، وإنما يجب الرد مع بقاء العين»
(1)
.
° وجه هذا القول:
إن كانت العين قائمة فهو أحق بها؛ لأنها عين ماله، وإن كان قد تصرف فيها لم يجب عليه بدلها لأن الشرع قد أذن في استنفاقها، والتصرف فيها، وما كان مأذونًا له فيه فإنه غير مضمون عليه، وليس في الأحاديث ما يدل على وجوب البدل.
° الراجح:
أن مالك اللقطة أحق باللقطة من واجدها متى ما ظهر، فإن كانت العين قائمة كان له استردادها، وإن استهلكت، أو تصدق الواجد بها فعليه ضمانها، والله أعلم.
* * *
(1)
القواعد (ص: 221).