الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإيضاح:
{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145] أي قل أيها الرسول لهؤلاء المفترين على الله الكذب فيما يضرهم، في تحريم ما لم يحرم عليهم، وقل لغيرهم من الناس -لا أجد فيما أوحاه إليَّ ربي طعامًا محرمًا على آكل يريد أن يأكله- إلا أن يكون ميتة، لم تذك ذكاة شرعية، وذلك شامل لما مات حتف أنفه، وللمنخنقة والموقوذة والنطيحة ونحوها، أو دمًا مسفوحًا، أي: سائلًا كالدم الذي يجري من المذبوح، فلا يدخل فيه الدم الجامد كالكبد والطحال) أو لحم خنزير، فإن كل ذلك خبيث تعافه الطباع السليمة، وهو ضار بالأبدان الصحيحة، أو فسقًا أهل لغير الله به، وهو ما يتقرب به إلى غيره تعبدًا، ويذكر اسمه عليه عند ذبحه.
{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي فمن دفعته ضرورة الجوع وفقد الحلال، إلى أكل شيء من هذه المحرمات، حال كونه غير مريد لذلك، ولا قاصد له، ولا متجاوز حد الضرورة -فإن ربك الذي لم يحرم ذلك إلا لضرره- غفور رحيم، فلا يؤاخذ بأكل ما يسد به مخمصته. ويدفع عنه ضرر الهلاك.
والخلاصة -قل لا أجد فيما أوحي إلي من أخبار الأنبياء وشرائعهم، ولا فيما شرع على لساني- أن الله حرم أي طعام، إلا هذه الأنواع الأربعة، وما حرمه على اليهود تحريمًا مؤقتًا عقوبة لهم، وهو ما ذكر أهمه في الآية التالية، ودليل التوقيت قوله في سورة آل عمران:{وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران: 50]، وقوله مخاطبًا من يتبع النبي صلى الله عليه وسلم {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَال الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] ودليل كونه عقوبة لا لذاته، قوله:{كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} [آل عمران: 93].
وما صح من الأحاديث في النهي عن طعام غير هذه الأنواع الأربعة، فهو إما مؤقت لعارض وإما للكراهة فقط، ومن الأول تحريم الحُمُر الأهلية، فقد روى ابن أبي شيبة والبخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:(نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر)، ومن الثاني ما رواه البخاري ومسلم عن أبي ثعلبة الخشني- أن رسول صلى الله عليه وسلم:(نهى عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير).
ثم بين سبحانه وتعالى ما حرمه على بني إسرائيل خاصة عقوبة لهم، لا على أنه من أصول شرعه على ألسنة رسلهم قبلهم أو بعدهم، فقال:{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} أي وعلى الذين هادوا دون غيرهم من أتباع الرسل، حرمنا كل ذي ظفر، أي ما ليس منفرج الأصابع كالإبل والنعام والإوز والبط، كما قاله ابن عباس وابن جبير وقتادة ومجاهد.
{وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} أي أنه حرم عليهم لحم كل ذي ظفر وشحمه، وكل شيء منه، وترك البقر والغنم على التحليل، لم يحرم منهما إلا الشحوم الخالصة، وهي الثروب (وأحدها ثرب، وهي الشحم الرقيق الذي يكون على الكرش).
والخلاصة -ومن البقر والغنم دون غيرهما، مما أحل لهم من حيوان البر والبحر، حرمنا عليهم شحومهما الزائدة، التي تنتزع بسهولة لعدم اختلاطها بلحم ولا عظم، ولا يحرم عليهم ما حملت الظهور أو الحوايا أو ما اختلط بعظم والسبب في تخصيص البقر والغنم بهذا الحكم، أن القرابين عندهم لا تكون إلا منهما، وكان يتخذ من شحمهما الوقود للرب، كما ذكر ذلك في الفصل الثالث من سفر اللاويين فقد جاء فيه التفصيل في قرابين السلامة من البقر والغنم (كل الشحم للرب فريضة أجيالكم في جميع مساكنهم، لا تأكلوا شيئًا من الشحم ولا الدم).
{ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ} أي إنما حرم الله ذلك عليهم عقوبة بغيهم فشدد عليهم
بذلك، وليس ذلك بالخبيث لذاته.
ولما كان هذا النبأ عن شريعة اليهود من الأنباء، التي لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ولا قومه يعلمون منها شيئًا، وكان مظنة تكذيب المشركين له، لا يؤمنون بالوحي، ومظنة تكذيب اليهود له بأن الله لم يحرم ذلك عقوبة بغيهم وظلمهم، أكده فقال:{وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} أي وإنّا لصادقون في هذه الأخبار عن التحريم وعلته، لأن أخبارنا صادرة عن العلم المحيط بكل شيء، ولأن الكذب محال علينا، لأنه نقص فلا يصدر عنا.
{فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} هذا الخطاب إما لليهود وهو المروي عن مجاهد والسدي، وإما لمشركي مكة.
فعلى الأول يكون المعنى -فإن كذبك اليهود، وثقل عليهم أن يكون بعض شرعهم عقابًا لهم على ما كان من بغيهم على الناس، وظلمهم لهم ولأنفسهم، واحتجوا على إنكار كونه عقوبة بكون الشرع رحمة من الله، فأجبهم بما يدحض هذه الشبهة، بأن رحمة الله واسعة حقًّا، ولكن ذلك لا يقتضي أن يرد بأسه ويمنع عقابه عن القوم المجرمين، فإصابة الناس بالمحق والشدائد عقابًا لهم، على جرائم ارتكبوها قد تكون رحمة بهم، وقد تكون عبرة وموعظة لغيرهم لينتهوا عن مثلها، وهذا العقاب من سنن الله المطردة في الأمم، وإن لم يطرد في الأفراد.
وعلى الثاني يكون المعنى -فإن كذبك المشركون فيما فصلناه من أحكام التحليل والتحريم، فقل لهم ربكم ذو رحمة واسعة، ولا يعاجلكم بالعقوبة على تكذيبكم، فلا تغتروا به، فإنه إمهال لكم لا إهماله لمجازاتكم، وفي هذا تهديد لهم ووعيد، إذا هم أصروا على كفرهم وافترائهم على الله، بتحريم ما حرموا علي أنفسهم، كما أن فيه إطماعًا لهم في رحمته الواسعة، إذا رجعوا عن إجرامهم، وآمنوا بما جاء به الرسول فيسعدون في الدنيا بحل الطيبات، وفي الآخرة بالنجاة من النار ودخول الجنات) (1).
(1) تفسير المراغي (8/).
وأكتفي بهذين الأنموذجين، من تفسير الأستاذ المراغي، إذ إن أحدها مكي، والآخر مدني، كما يعالجان موضوعين مهمَّيْن، وهما موضوع العقيدة وموضوع الأحكام، وقبل أن أسجل ملاحظاتي على التفسير، من الناحية الموضوعية، لا بد أن أذكر ملاحظة من الناحية الفنية والشكلية، فطريقة الشيخ في تفسير المفردات، لا غبار عليها، وقد سلكها كثير من المفسرين حتى من الأقدمين، كما فعل أبو حيان رحمه الله في بحره، لكن المعنى الجملي الذي انفرد الشيخ بذكره لا داعي له، وبخاصة إذا عرفنا أن الذي انفرد الشيخ بذكره ليس معنى الآية نفسها، وإنما هو كما يظهر في تفسيره كله، تقرير لكيفية ربط الآية بما قبلها من آيات، ولذا فإننا نجد ما يذكره الشيح تحت هذا العنوان (المعنى الجملي) يذكره المفسرون -ولا سيما الذي اقتبس منهم الشيخ عباراته كتفسير المنار- قبل تفسير الآية، ولكن لا على أنه معنى جملي لتفسير الآية، وإنما على أنه ربط للآية بما قبلها، فكان من الأفضل أن يكتفي الشيخ بتفسير المفردات والإيضاح بعد ذلك.
وقبل أن أذكر ملحوظات على التفسير، أبين أن الشيخ كغيره من المفسرين كانت له عنايته بالقضايا اللغوية -كما رأينا من الأنموذجين- وقضايا علوم القرآن وغيرها من القضايا أما فيما يتعلق بالقضايا اللغوية، فإننا نلحظ أن الشيخ المراغي مثلًا لا تكاد تجده يفرق بين بعض الكلمات القرآنية من حيث المعنى، فإذا نظرت إلى تفسير المراغي للكلمات التالية:
الامتراء، الريب، المرية، الارتياب، وجدت ما يلي:
- (تجده مثلًا في سورة البقرة يفسر الامتراء بالشك)(1).
- (وفي سورة براءة يقول: والريبة من الريب وهو اضطراب النفس وتردد الوهم والحيرة)(2).
(1) تفسير المراغي 2/ 9.
(2)
المصدر السابق 11/ 24.
- (وفي سورة هود يفسر: المرية بالشك)(1).
- (وفيها أيضًا: والريب: الظن والشك، يقال رابني الشيء يريبني إذا جعلك شاكًّا)(2).
- وفي سورة غافر يقول: (مرتاب أي شاكٌ في دينه)(3).
- وفي قوله تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [فصلت: 45]، يقول:(أي وإن قومك لفي شك من أمر القرآن موجب لقلقهم واضطرابهم)(4).
- وأخيرًا فإنه في سورة فصلت كذلك يفسر المرية بالشك (5).
2 -
يفرق الشيخ بين الحول والعام من جهة، والسنة من جهة أخرى فيقول: الحول والعام يقعان في صيفة وشتوة كاملتين، والسنة تبتدئ من أي يوم عددته من العام إلى مثله) (6).
3 -
عرض الشيخ لمعنى كل من الافتراء والفرية.
- ففي سورة آل عمران يقول: (الافتراء: الكذب)(7).
- وفي موضع آخر من السورة يفرق بين الافتراء والفرية بقوله: الفرية: الكذب، والافتراء: اختلاق الكذب) (8).
- وفي سورة النساء يبحث في أصل الافتراء فيقول: (يقال افترى الكذب، إذا
(1) المصدر السابق 12/ 17.
(2)
المصدر السابق 12/ 53.
(3)
تفسير المراغي 24/ 66.
(4)
المصدر السابق 24/ 142.
(5)
نفسه 25/ 9.
(6)
السابق 2/ 184.
(7)
المراغي 3/ 126.
(8)
المصدر السابق 4/ 4.
اعتمله واختلقه، وأصله من الفري بمعنى القطع) (1).
4 -
في كلمتي نصيب وكفل، يفسر النصيب بالحظ، والكفل بالنصيب، ثم يفرق بينهما بأن النصيب في الآية سمّي كفلًا لأنه نصيب مكفول للشافع إذ هو أثر عمله، أو نصيب محدود لأنه على قدره (2).
وأنت -أيها القارئ- تلحظ اضطراب الشيخ في تفسير هذه الكلمات وعدم دقّته في تحديد مفهوم كل كلمة.
أما فيما يتعلق بتناوب الحروف فإن الشيخ يذهب إلى جواز تناوب حروف الجر، حيث سار في تفسيره بناء على هذا المذهب، وهذه أمثلة من ذلك:
1 -
في قوله تعالى {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] يقول: (وإلى بمعنى مع: أي لا تأكلوا أموالهم مخلوطة ومضمومة إلى أموالكم)(3).
2 -
في قوله تعالى {لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الأعراف: 187] يقول: (ولوقتها أي في وقتها)(4)، فجعل اللام بمعنى في.
3 -
في قوله سبحانه {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11] يقول: (من أمر الله: أي بأمر الله وإعانته)(5) فجعل من بمعنى الباء.
(1) نفسه 5/ 57.
(2)
المراغي 9/ 172.
(3)
انظر المراغي 4/ 179، وذكر الرازي هذا الوجه الدال على تناوب الحروف، ووجهًا آخر يجعل إلى بمعناها الأصلي، وتقدير المعنى:(ولا تضموا أموالهم إلى أموالكم في الإنفاق حتى لا تفرقوا بين أموالكم وأموالهم في حل الانتفاع بها) بتقدير فعل (تضموا) انظر الرازي 5/ 176.
(4)
المراغي 9/ 127، وأبو حيان يبقي على اللام في تفسير الآية كما هي انظر البحر المحيط 4/ 434.
(5)
المراغي 13/ 74 وذكر الرازي ثلاثة تأويلات لمعنى (من أمر الله) الأول أنه على التقديم والتأخير، والتقدير / له معقبات من أمر الله يحفظونه الثاني: أن فيه إضمارًا، أي ذلك الحفظ من أمر الله معًا أمر الله به فحذف الاسم وأبقى خبره كما يكتب على الكيس ألفان والمراد الذي فيه ألفان، والثالث: أن كلمة من معناها الباء والتقدير: يحفظونه بأمر الله وإعانته، انظر تفسير الرازي 10/ 21.
وهناك الكثير من القضايا البلاغية التي عرض لها في تفسيره كالمجاز والتشبيه، والاستعارة من علم البيان وكالاستفهام، والإنشاء والخبر من علم المعاني.
ومن ذلك عناية الشيخ بالقضايا العلمية، والقارئ يدرك أن الشيخ قد وفّى بوعده في التطرق لما أثبته العلم في عصره، حتى إنه ليبالغ في بسط مسائله وإعطائها صبغة الحقائق، وهي قد لا ترقي إلى ذلك أحيانًا.
وتظهر الإطالة في هذا الجانب عندما ينقل نصوصًا كاملة حول الموضوع الذي يتحدث عنه، من كتاب (الإسلام والطب الحديث) أو مما يجاب عنه من كلام لأهل الاختصاص.
فها هو ينقل ما يزيد على نصف الصفحة في تفسير قوله تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} [الأنعام: 95] مفادها أن إخراج الحي من الميت هو نمو الحي بأكل أشياء ميتة وأما إخراج الميت من الحي فهو الإفرازات مثل اللبن (1).
وفي تفسير قوله تعالى {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)} [الكهف: 109] قال الشيخ: (وقد أثبت العلم الحديث ما يتبين منه أن في كل عالم من العوالم الأرضية والسماوية ما لا يحصى من النعم على عباده، وعليك أن تلقي سمعك إلى آخر الآراء التي اهتدى إليها العلماء في العصر الحاضر، قال الأستاذ جينس الإنجليزي المدرس لعلوم الرياضيات التطبيقية في جامعة بنسلفانيا بأمريكا في 7 من مارث 1928، وهي أحدث الآراء في منشأ الكائنات وعدم التناهي في الزمان والمكان ما خلاصته:
…
) وعدد الشيخ تسع عشرة نقطة تتعلق بمعلومات عن الأرض والأجرام السماوية الأخرى بالأرقام (2) التي يقف المرء عندها طويلًا قبل أن يخلص إلى أن الأجدر بنا أن نترفع بكتاب الله تعالى عن تفسير آياته بتخمينات وفرضيات وضعها العلماء قبل أكثر من ستين سنة! ! .
(1) انظر تفسير المراغي 7/ 197 - 198.
(2)
تفسير المراغي 16/ 26 - 29.
ترى لو وضعت هذه الفرضيات في ميزان العلم اليوم، فماذا سيقول عنها؟ وكم هي نسبة ما يثبت منها أمام مستجدات الأمور؟ ! .
وفي قوله سبحانه: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38)} [يس: 38] ذكر الشيخ نظرية علماء الفلك في أمر الكواكب واستقرارها، ثم خلص إلى أن القرآن أثبت ما دلّ على صحته الكشف الحديث من أن الكواكب متحركة، ثم قال:
(وقد طلبت إلى الأستاذ عبد الحميد سماحة وكيل المرصد الفلكلي المصري بحلوان أن يدلي إليّ بما أثبته علماء الفلك حديثًا في النظريات التي تضمنتها الآيات فكتب إليّ ما يلي
…
).
وذكر أربع آيات (دلائل على الإعجاز) تستفاد من هذه الآية الكريمة (1).
وقد استطرد الشيخ رحمه الله فيما سماه (نظريات) تضمنتها الآيات، ومعلوم أن النظرية غير الحقيقة، فالنظرية أمر قابل للدراسة والثبوت أو البطلان مع تقدم العلم ودقة التجارب.
وقد يستطرد الشيخ في ذكر معلومة لا تلزم لفهم النص، من ذلك: ما جاء في قوله سبحان {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ} [المرسلات: 27] يقول: (وهذه الجبال متصلة بالطبقة الصّوانية التي هي أبعد طبقات الأرض عن سطحها، وتلك الطبقة تضم في جوفها كرة النار المشتعلة التي في باطنها وظاهرها هذه القشرة التي نحن عليها)(2).
ومن ذلك استطراده في بيان معنى البروج في سورة البروج، إذ يقول:(واحدها برج، ويطلق على الحصن والقصر العالي، وعلى أحد بروج السماء الأثني عشر، وهي منازل الكواكب والشمس والقمر)(3).
(1) المرجع السابق 23/ 10 - 14.
(2)
انظر المراغي 29/ 184.
(3)
المصدر السابق 30/ 97.
ولو وقف عند هذا لكان كافيًا في وضوح المراد، ولكنه استطرد ليبين زمن مسير القمر في كل برج، ثم مسير الشمس، ثم أسماء البروج التي تسير فيها الشمس، ثم تفرع الفصول الأربعة من هذا المسير.
كل ذلك جاء في شرح المفردات، ثم عاد في الإيضاح ليتكلم عن الزمن اللازم لوصول ضوء الكواكب إلى الأرض، وسرعة الضوء في الثانية الواحدة، ثم خلص بعد ذلك إلى بُعد الكواكب عن الأرض تبعًا للزمن الذي يستغرق ضوؤها في الوصول إلينا) (1).
ويحاول الشيخ أن يقرب الكثير من القضايا الغيبية إلى الأذهان فعند قوله سبحانه {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11] يقول: (أي للإنسان ملائكة يتعاقبون عليه حرس بالليل وحرس بالنهار، يحفظونه من المضار ويراقبون أحواله
…
وليس أمر الحفظة بالبعيد عن العقل بعد أن أثبته الدين وبعد أن كشف العلم أن كثيرًا من الأعمال العامة يمكن إحصاؤها بآلات دقيقة لا تدع فيها شيئًا إلا تحصيه، فقد أصبحت المياه والكهرباء في المدن تعدّ بالآلات (العدادات) فالمياه التي يشربونها، والكهرباء التي يضيئون بها منازلهم تحصى وتعد كما يعد الدرهم والدينار، وكذلك هناك آلات تحصي المسافات التي تقطعها السيارات في سيرها، وأخرى تحصي تيارات الأنهار ومساقط المياه إلى غير ذلك من دقيق الآلات التي لا تترك صغيرة ولا كبيرة من الأعمال إلا تكتبها وتحصيها.
وكلما تقدمت العلوم وكشفت ما كان غائبًا عنا كان في ذلك تصديق أيما تصديق لنظريات الدين (2)، ووسيلة حافزة إلى الاعتراف بما جاء فيه مما يخفى على بعض الماديين الذين لا يقرون إلا بما يرونه رأي العين، ولا يذعنون إلا بما يقع تحت
(1) نفسه 30/ 98 - 100.
(2)
هذا تعبير غير دقيق، والشيخ يريد بقوله (تصديق لنظريات الدين) تصديق لرأي الدين، واستعمال (النظرية) يتنافى مع حقائق الدين، فالنظرية أمر خاضع للبحث والتجربة، قابل للخرق.
حسّهم، وبهذا يصدق قول القائل (الدين والعقل في الإسلام صنوان لا يفترقان وصديقان لا يختلفان)(1).
وفي قوله سبحانه: {وَإِذْ قَال إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَال أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَال بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] يدافع الشيخ عن طلب إبراهيم عليه السلام معرفة شيء من كنه الغيب الذي لا يعرفه، بأن هذه طبيعة البشر يودون دائمًا التعّرف على المجهول، ويأتي لذلك بأمثلة من المبتكرات العلميّة وخفائها على كثير من الناس، فيقول:(وإنا الآن لا (2) نؤمن بأمور كثيرة إيمانًا ولا نعرف كيفيتها ونود لو نعرفها، فهذا الأثير (التلغراف اللاسلكي) ينقل أخبار العالم في لحظة ولا نعرف كيفية ذلك، بل أكثر من ذلك نقل الصور بالتلغراف من الأقطار النائية والقارات البعيدة، ومثله أصوات المذياع (الراديو) التي تنتشر في جميع أقطار العالم بكل اللغات، وتسمع في أرجاء المعمورة، ولا يعرف كثير من الناس كيف تصل إليهم) (3).
ويعرض الشيخ في تفسيره لبعض الدروس الاجتماعية التي يمكن أن يستفيدها الإنسان من السيرة النبوية.
1 -
فعند تفسير قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} [البقرة: 285] بيّن الشيخ أثر الإيمان في مجتمع الصحابة، في إيماء إلى ضرورية ترسّم خطاهم بعد أن رقي بهم إيمانهم من حضيض التخلف، قال:
(وقد كان أثر هذا الإيمان أن زكت نفوسهم وطهرت قلوبهم وعلت هممهم، فأتوا بالعجب العاجب من فتح البلاد والشعوب وسياستها سياسة عدل وحكمه، مما شهد لهم به أعدى أعدائهم، وسجله لهم التاريخ في سجل
(1) المراغي 13/ 77.
(2)
والصحيح أن يقول: (وإنا لنؤمن بأمور كثيرة)، وهذا مراد الشيخ والله أعلم، لأن سياق الجملة يؤيده، فسيدنا إبراهيم يؤمن ببعث الموتى كما نؤمن بظواهر كثيرة ونشترك وإياه في طلب معرفة حقيقة ما نؤمن به.
(3)
المراغي 3/ 27.
الدول العظيمة الرقيّ والتقدم حين كان الناس في ظلام دامس، وحين كانت أرقى الأمم في تلك العصور تسوس رعاياها بالخسف والعسف، فأنقذها مما ترسف فيه من قيود الاستعباد، وجعلها تتنفس في جوّ من الحرية لم تر مثله، وكفى بالله شهيدًا لهم) (1).
2 -
ويدعو الشيخ إلى العودة إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم للقضاء على أمراض المجتمع، وأهمها الفرقة والخلاف، وذلك في تفسير قوله تعالى:{وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [آل عمران: 19] إذ يقول:
(والعبرة في هذا القصص أن نبتعد عن الخلاف في الدين والتفرق فيه إلى شيع ومذاهب كما فعل من قبلنا، ولكن واأسفا وقعنا فيما وقع فيه السالفون، وتفرقنا طرائق قددًا، وأصابنا من الخذلان والذل بسبب هذا التفرق ما لا نزال نئن منه، ونرجو أن يشملنا الله بعفوه ورحمته ويمدنا بروح من عنده، فيسعى أهل الإيمان الصادق في نبذ الاختلاف والشقاق، والعودة إلى الوحدة والاتفاق، حتى يعود المسلمون إلى سيرتهم الأولى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين ومن تبعهم بإحسان)(2).
وهو كذلك يركز على السُّنن الإلهية في النفس والمجتمع:
1 -
فعند قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} [آل عمران: 155] يقول:
(وفي هذا إيماء إلى سنة من سنن الله في أخلاق البشر وأعمالهم، وهي أن المصايب التي تعرض لهم في خاصة أنفسهم أو في شؤونهم العامة إنما هي آثار طبيعية لبعض أعمالهم، ولكن الله قد يعفو عن بعض الأعمالا التي لا أثر
(1) المراغي 3/ 27.
(2)
تفسير المراغي 3/ 120 - 121.
لها في النفس وليست ملكة ولا عادة لها، بل صدرت هفوة غير متكررة) (1).
2 -
وعند حديثه عن الابتلاء يبين الشيخ أن فائدة إخبارنا بوقوعه في قوله سبحانه {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 186] هي أن نعرف السنن الإلهية ونهيئ أنفسنا لمقاومتها (2)، فإن من تقع به المصيبة فجأة على غير انتظار يعظم عليه الأمر ويحيط به الغم حتى ليقتله في بعض الأحايين، لكنه إذا استعد لها اضطلع بها وقوي على حملها (3).
3 -
وفي تلخيصه لأهم ما اشتملت عليه سورة الأعراف يذكر في النقطة السابعة (سننه تعالى في الاجتماع والعمران البشري، ويتضمن ذلك إهلال الله الأمم بظلمها لنفسها ولغيرها، وأن للأمم آجالًا لا تتقدم ولا تتأخر عنها، بما اقتضته السنن الإلهية العامة ابتلاء الله الأمم بالبأساء والضراء تارة، وبالرخاء والنعماء أخرى
…
وأن لله في إرث الأرض واستخلاف الأمم والسيادة على الشعوب سننًا لا تتبدل
…
ولله سنن في سلبها من قوم وجعلها إرثًا لقوم آخرين
…
) (4).
4 -
ويفرق الشيخ بين سنة الله في الأمم وسنته في الأفراد.
ففي تفسير قوله تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [هود: 3]، يقول:
(وهذه سنة مطردة في ذنوب الأهم، وهي فيها أظهر من ذنوب الأفراد، فالمشاهد أن الأمم التي تصر على الظلم والفسوق والعصيان يهلكها الله تعالى في الدنيا بالضعف والشقاق وخراب العمران، حتى تزول نعمتها وتتمزق وحدتها (5).
(1) تفسير المراغي 4/ 106.
(2)
والأحسن أن يقول: ونهيء أنفسنا لمقاومة آثارها لأن سنن الله لا تقاوم.
(3)
المراغي 4/ 154.
(4)
نفسه 9/ 159 - 160.
(5)
المراغي 11/ 169 وقد ورد هذا المعنى مطولًا في تفسير قوله تعالى {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا
…
} [الأعراف: 5] انظر المراغي 8/ 102 - 103.