الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الذين أُرسل إليهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يستغربون هذه الإعادة بعد التحلل، ويرونها أمرًا عجبًا، مع أن العجيب حقًّا هو اعتقادهم هذا مع وجود الدلائل عليه، ونهوض البراهين المثبتة له" (1).
ج- وبيَّن الشيخ البنا رحمه الله في سورة التوبة مناسبة آية الصدقات لما قبلها فقال: "وحين عرضت الآيات الكريمة لهذا الخلق من أخلاق المنافقين، وهو الطعنُ في القادة، والتشكيك في نزاهتهم، وانتهاز فرصة تقسيم الأموال؛ لأن ذلك عند الناس هو نقطة الخيانة والطمع، وخصوصًا إذا لم ينالوا من هذه الأُعطيات مطامعهم، ناسب بعد ذلك أن تُقرَّر أحكام الصدقات وتبين مصارفها حتى يكون في هذا التقرير قطع ألسنتهم، وتسجيل براءة من يتهمونهم بالباطل، فجاءت هذه الآية الكريمة تقرر مصارف الصدقات"(2).
7 - عنايتُه بالتفسير الموضوعي للآيات والسُّور:
وقد كانت هذه العناية جلية واضحة في تفسير البنا رحمه الله، وإن لم يكن يذكر هذا المصطلح (التفسير الموضوعي)، وكان يعبر عنه أحيانًا بالمقاصد، كما فعل حين استعرض المقاصد الكلية لسورة البقرة (3)، وحين عرض لمقاصد سورة الرعد، قال:"وتستطيع أن تُجمل هذه المقاصد السامية في أنها إثبات التوحيد والمعاد، وبيان ما ينتج من الإيمان بهما من أخلاق فاضلة، وجزاء حسن كريم، والمقابلة بين ذلك وضده كما هي عادة القرآن"(4).
وأما التفسير الموضوعي للآيات، فيظهر عند الشيخ في حرصه على جمع الآيات في الموضوع الواحد، ومن أمثلة ذلك:
(1) مقاصد القرآن الكريم ص 317.
(2)
ص 234.
(3)
انظر مقاصد القرآن الكريم ص 87.
(4)
مقاصد القرآن الكريم ص 273.
أ - عند قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3] جمع الشيخ البنا طائفة كبيرة من آيات الإنفاق، وتناولهما تناولًا موضوعيًا شرح به (سياسة القرآن في الإنفاق)، قال (1):
وتدور سياسة القرآن الكريم في الإنفاق على هذه القواعد:
1 -
الترغيب في الإنفاق في سبيل الله: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 261].
2 -
الترهيب والتخويف من البخل وكنز المال: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 35].
3 -
التحذير من الإسراف والتنبيه إلى التوسط: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)} [الإسراء: 27]. {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29)} [الإسراء: 29]. {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)} [الفرقان: 67].
4 -
إيثار الأقرب فالأقرب والأحوج فالأحوج: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [البقرة: 215]. {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 25].
5 -
اللين في الرد عند الاعتذار: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28)} [الإسراء: 28].
(1) م ن ص 102 - 105.
6 -
التنزه عن المنِّ والأذى عند العطاء: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا} [البقرة: 264].
7 -
ابتغاء وجه الله تبارك وتعالى وطيب النفس بالنفقة: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)} [البقرة: 265]. {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)} [التوبة: 54].
8 -
افتراض الزكاة على القادرين لتنفق في وجوه من ضروريات الإصلاح الاجتماعي: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)} [التوبة: 60].
9 -
الإشادة بفضل الإيثار والتطهر من الشح: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)} [الحشر: 9]. {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 9].
10 -
تفضيل السر على العلانية إلا لحكمة: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)} [البقرة: 271].
ولا شك أن لهذه السياسة أثرها البالغ في صلاح المجتمع الإنساني وتحقيق معنى التكافل والعدالة واستقامة الأوضاع فيه، ولا شك أن من لاحظها وأنفق مما رزقه الله في حدود قواعدها مع إقامة الصلاة والإيمان بالغيب فهو من خيار المتقين المهتدين بهداية القرآن الكريم.
* أفضل نظام اقتصادي:
ولا شك أن القرآن بسياسته هذه في الإنفاق قد أقام الاقتصاد الاجتماعي على المزج بين أصلين أساسيين أولهما: الاعتراف بمواهب الفرد وحقه في ثمرات كسبه وعدم الحد من جهوده في هذه السبيل ما دام يكتسب من حلال طيب لا إثم فيه ولا عدوان، وهذا هو الأساس الذي قام عليه النظام الذي يسمونه في هذا العصر (بالرأسمالية) وهو وحده لا يؤدي إلى صلاح المجتمع أو استقرار الأمور بين الناس على وفاق وصفاء فكان لا بد من المزج بينه وبين الأصل الثاني وهو: تقرير حق المجتمع في كسب الفرد ووجوب التكافل بين أبناء الأمة الواحدة وهو الأساس الذي قام عليه النظام الذي يسمونه في هذا العصر (بالشيوعية) وهو وحده لا يؤدي كذلك إلى صلاح المجتمع أو استقرار الأمور فيه بين الناس على وفاق وصفاء فكان من المزج بينه وبين الأصل الأول.
فجاء نظام القرآن بهذا المزج بين أفضل ما في النظامين وقدمه للناس سائغًا في صورة (اشتراكية معقولة) عمادها تقديس الأخوة، وروحانية العاطفة، وحب الخير، والإيمان بالجزاء في الدنيا والآخرة، وليس ذلك فحسب -فإن من النفوس من لا تهزه هذه النواحي وحدها- بل لاحظ أيضًا وجوب تدخل الدولة وحماية هذا السمو بالتشريع بل بالقتال -إذا احتاج الأمر عند اللزوم- ومن هنا قال الخليفة الأول رضي الله عنه: والله لو منعوني عَناقا كانوا يؤدونها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلهم على منعها.
* تقريب:
كما لاحظ الإِسلام بأوضاعه الاقتصادية الدقيقة في الكسب والإنفاق التقريب بين الطبقات بحيث ضاقت الشُقَّةُ بين الثروة والفقر إلى أقصى حد.
فمن حيث الأغنياء: حدد أمامه أبواب الكسب، وفتح لهم أبواب الإنفاق، وفرض عليهم الزكاة وحرم الربا وحيل بينهم وبين مظاهر الترف ولم تعتبر ثروتهم في عرف المجتمع الإِسلامي مظهرًا من مظاهر التميز والاستعلاء، وأنذروا بأشد الوعيد في الدنيا والآخرة إذا لم يؤدوها حق الله والناس في المال.
ومن حيث الفقراء: رفع عنهم معنى النقص الاجتماعي بسبب الفقر وفرض عليهم العمل وفتح أمامهم أبوابه، وجُعِلُوا عند العجز في ضمان الأقرباء أولًا والأغنياء من الأمة ثانيًا، وبيت مال الدولة ثالثًا، وتقرر بالتشريع حقهم المعلوم في أموال الأثرياء، ثم أُلزمت الدولة بعد ذلك بملاحظة هذا التوازن والمبادرة إلى المحافظة عليه كلما عرضت له عوارض الاختلال، ووضعت في يدها كل السلطات التشريعية والتنفيذية اللائقة لإصلاح الحال، وليس بعد ذلك زيادة لمستزيد، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا (1).
ب - وعند قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)} [الرعد: 7] ذكر الشيخ البنا رحمه الله الآيات الأخرى التي تتفق في المعنى مع هذه الآية، وشرح الآيات كلها شرحًا موضوعيًا جمليًا، فقال:
تشير الآية الكريمة إلى صفة من صفات الكفار وحجة من حججهم الواهية التي يتعللون بها في تكذيب الرسل -صلوات الله عليهم وسلامه- ويحاولون بها التشكيك في صدقهم ويعترضون بها رسالاتهم، وفي الآيتين السابقتين عرض لبعض هذه الحجج فهم يستبعدون البعث بعد الموت وهم يستعجلون العذاب
(1) مجلة الشهاب - السنة الأولى - العدد 4 في غرة ربيع آخر 1367 هـ/ 12 فبراير 1948 م.
الدنيوي ويستبطئون نزوله بالمخالفين، ويريدون أن يتخذوا من هذا وذاك حجة لهم على أن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بصادق، وقد علمت ما في ذلك من المغالطة والضعف.
وهذه الآية تقرر أن هؤلاء أخذوا يقترحون على الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينزِّل عليهم آية يستدلون على صدقه، وقد تكرر هذا المعنى في كثير من آيات القرآن الكريم، بل ورد في هذه السورة نفسها في موضع آخر قول الله تبارك وتعالى:{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27)} [الرعد: 27].
وفي سورة الأنعام ورد في لك في موضعين، ففي الأول منهما اقترحوا آية معينة:{وَقَالوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} [الأنعام: 8]، وفي الثاني اقترحوا آية مبهمة:{وَقَالوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37)} [الأنعام: 37].
وفي سورة طه: {وَقَالوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133)} [طه: 133].
وفي سورة يونس: {وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)} [يونس: 20].
وفي سورة الإسراء ذكر لآيات مفصلة اقترحوها: {وَقَالوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)} [الإسراء: 93].
وقد تكرر طلبهم نزول الملك بدلًا من الرسول البشري في آيات كثيرة غير سورة الأنعام ففي سورة الحجر: {وَقَالوا يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا
مُنْظَرِينَ (8)} [الحجر: 8].
وفي سورة هود: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12)} [هود: 12].
وفي سورة الفرقان: {وَقَالوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَال الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} (وقالوا مسحورا)[الفرقان: 8].
وجاء في سورة العنكبوت أنهم اقترحوا آيات لا آية واحدة، فذلك قوله تعالى:{وَقَالوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)} [العنكبوت: 51].
وقد بيَّن القرآن الكريم أن تلك كانت سنة الأمم السابقة أن يقترحوا على أنبيائهم الآيات المعجزات، وأن يستعجلوهم بالعذاب، فلقد قالت ثمود من قبل لصالح عليه السلام:{مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154)} [الشعراء: 154].
وقال أصحاب الأيكة لشعيب عليه السلام: {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187)} [الشعراء: 187] وقال فرعون لموسى عليه السلام: {قَال إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108)} [الأعراف: 108].
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة جميعًا الرد على مقترحاتهم هذه بما يفحمهم ويلجمهم، وبينت أن السبب في عدم إجابتهم ليس العجز عنها، فإن الله على كل شيء قدير، وإنما السبب في ذلك اعتبارات جليلة وحكم سامية وردت منثورة في هذه الآيات، وهذه هي حكمة تكرارها وورودها في سور كثيرة ومن هذه
الاعتبارات والحكم التي تقتضي عدم إجابتهم إلى ما سألوا:
1 -
بيان أن ذلك ليس من مهمة الرسول عليهم الصلاة والسلام فهم دعاة هداية وأساتذة إرشاد يبينون للناس الحق ويدعونهم إليه، فمن اهتدى فقد فاز ومن أبى فقد خسر، وليس من مهمة الرسل ولا من وظائفهم التصرف في نواميس الكون ونظمه، فذلك لله وحده إن شاء ذلك فهو على كل شيء قدير، وإن لم يرده فلا قدرة لأحد عليه، وقد أُشير إلى هذا في الجواب عليهم في كثير من الآيات السابقة مثل قوله تعالى:{فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} [يونس: 20] ، {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد؛ 7]، {قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} [الرعد: 27] ، {قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [العنكبوت: 50] {قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأنعام: 37].
وإنما آثر وصف الإنذار للرسل في هذه الآيات الكريمة مع أنهم -صلوات الله عليهم- مبشرون ومنذرون كما جاء في سورة النساء: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ
…
} [النساء: 165] ، لأن هذا الوصف هو الأليق والأخلق بهذه النفوس العنيدة والرؤوس الصلبة التي تأبى الإيمان إلا أن تُقْسَر عليه قَسْرًا، فالمقام يقتضي هذا الوصف، ولهذا أُفرد بالذكر دون الوصف الثاني وهو التبشير لأنه مقتضى المقام، وهذا المعنى هو الغالب على النفوس البشرية أن تقاد بالقهر والتخويف أكثر مما تقاد بالحب والتبشير.
2 -
بيان أن حكمة الله تعالى قد اقتضت أن الأمة التي تقترح الآيات ثم تكذب بها لا بد أن تُعَذَّبَ عذابَ استئصال ويأخذها الله تعالى أخذ عزيز مقتدر. فثمود حين كذبت صالحًا أخذتها الصيحة والرجفة، وفرعون حين كذب موسى أخذه الله هو وجنوده فنبذهم جميعًا في اليم وهكذا .. ولما كانت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم نبوة خالدة أبد الدهر، وكانت أمته هي الوارثة إلى يوم القيامة، وقد علم الله من عناد هؤلاء الكفار وصلابة رؤوسهم أنهم لن يؤمنوا حتى ولو جاءتهم هذه
الآيات كما قال تبارك وتعالى في سورة الأنعام: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109)} [الأنعام: 109] وكما قال تبارك وتعالى في هذه السورة نفسها: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28] لما علم الله منهم ذلك لم يجبهم إلى ما طلبوا، إذ لو أجابهم فكذبوا كما فعلت الأمم السابقة لاستأصلهم وأبادهم وذلك مخالف لمقتضى بقائهم ووراثتهم، وإلى هذا أشارت الآية الكريمة:{وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)} [الإسراء: 59]، وقد صرحت به سورة الحجر في قوله تبارك وتعالى:{مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8)} [الحجر: 8]. وقد يقال إن هذه القاعدة قاعدة الاستئصال لا تطبق على الأمة المحمدية فقد أمَّنها الله برسوله وبالاستغفار، فقال تبارك وتعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)} [الأنفال: 33] وهو قول محتمل.
3 -
بيان أن أفضلَ الإيمان ما كان عن طواعيه واختيار لا عن إلجاء واضطرار، وما كان عن نظر سليم وفكر ثاقب حكيم وتدبر لآيات الله وتقديمس لقدرته وعظمته في مخلوقاته والمتجلية في إبقاء آيات كتابه الكريم. فالمعجزة الكبرى والآية الخالدة لنبينا صلى الله عليه وسلم هي القرآن الكريم وفيه الكفاية كل الكفاية من تدبير وتذكر، وقد ورد ذلك صريحًا في سورة العنكبوت في قوله تعالى جوابًا لهم على اقتراح الآيات:{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)} [العنكبوت: 51] وقد روى الشيخان والترمذي والنسائي من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "ما من نبي من الأنبياء إلا أعطى ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة".
وقد سبق في هذا التفسير في سورة العنكبوت عند قوله تعالى: {وَقَالوا لَوْلَا