الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فأين هذا ممن يسكتون عن المنكر، ويجبنون عن كلمة الحق، بل ربما حرفوا شرع الله ليوافق رغبة الحاكم.
نماذج من تفسيره:
ولعل من الخير أن نأتي بنماذج من التفسير، تتبين لنا من خلالها تلك الخصائص التي تحدثت عنها آنفًا.
فمثلًا يدلنا على وقوفه عند مبهمات القرآن وعدم تجاوزها، تفسيره قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183].
حيث يقول: (ونحن لا نعلم ما هو الذي فرضه الله على الأمم السابقة من قبل، أهو شهر رمضان كما قال بعض الناس؟ أم غيره؟ وليس لنا ما يهدينا إلى شيء معين من دليل يطمئن إليه القلب، والتشبيه لا يدل على المماثلة في كل شيء، فنحن نؤمن بأن صومًا فرض على الأمم السابقة، لا نعلم مقداره ولا كيفيته، ولا يزال الصوم معروفًا عند الأمم الأخرى على أوضاع مختلفة.
وكذلك تفسيره لقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} [لقمان: 12]
…
يقول: (اختلف الناس في لقمان هذا من هو! ومن أي الأمم هو؟ فقيل إنه من بني إسرائيل، وقيل إنه كان عبدًا حبشيًا، وقيل إنه أسود من سودان مصر، وقيل إنه يوناني، ومن الناس من جعله نجارًا، ومنهم من جعله راعي غنم، ومنهم من قال إنه نبي، ومنهم من قال إنه حكيم، وكل هذه الأقوال ليس لها سند يعول عليه، وبعد أن وصفه الله بالحكمة فلا يرفع من شأنه أنه كان من أشرف الأمم، ولا يضع من قدره أن كان زنجيًا مملوكًا).
فنحن نرى أن الأستاذ لم يخض فيما خاض فيه كثير من المفسرين، ولم تستهوه القصص المنسوجة حول لقمان، ولا الأقوال المحبوكة حول صيام من قبلنا، وما
هو نصيب كل أمة من الأمم منه، وهذا لم يكن جديدًا مبتكرًا من الشيخ؛ لأنه قد سبق إليه، إلا أن نهجه هذا المنهج، إنما ينم عن دقة فهم لهدايات القرآن.
ولقد كان الشيخ يحارب التعصب المذهبي، يدلنا على هذا منهجه الإصلاحي للأزهر، ولعل هذا ما دفعه إلى عدم التقيد بمذهب معين في تفسيره، يقول في درسه التفسيري {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] وقد روى أحمد ومسلم وأبو داود عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقصر الصلاة مسيرة ثلاثة أميال، وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح أنه كان يقصر في الميل الواحد، وإذا نظرنا إلى أن نص القرآن مطلق، وأن كل ما رووه في التخصيص أخبار آحاد، وأنهم لم يتفقوا في التخصيص، جاز لنا أن نقول: إن السفر مطلقًا مبيح للفطر، وهذا رأي داود وغيره من الأئمة.
وهذا يوضح لنا تأثر الشيخ المراغي فقهيًا بأستاذه الإمام.
ويزيد هذا الأمر وضوحًا، تأويل الشيخ لآيات يرى الجمهور فيها رأيًا معينًا، فمثلًا نجده يصرح بأن أبواب الجنة الثمانية وأبواب النار السبعة، لا يقصد فيها العدد بذاته، بل إنما يدل على الكثرة وكذلك عدد السمارات، وذكر أنها سبع لا يقصد منه الحصر.
وهذا أمر لا نوافقه عليه؛ لأن الله إذا عين عددًا، فلا ينبغي ولا يصح أن يقال: إنه إنما ذكر هذا العدد بالذات ليوافق ما يعرفه المستمعون، القرآن يقرر حقائق بقطع النظر عما يعرفه الناس أو لا يعرفونه.
كذلك نرى الشيخ يفسر الرجوم بالحجج، في قول الله تعالى:{وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} [الملك: 5]، مع أن هذا التفسير لا يتفق مع آيات أخرى، وقد مرت مناقشة هذه الآراء، عند الحديث عن الشيخ عبد القادر المغربي، أحد رجال هذه المدرسة.
ومهما يكن من أمر، فإنه يظهر من هذه التفسيرات أن أصحابها يحاولون أن يخضعوا آيات القرآن، ليجعلوها في نطاق دائرة العقل، ولو أدى بهم ذلك إلى ركوب مخاطر التأويل، وهذا أمر لا ينبغي أن نجعله تحت ذمة آرائنا ومسلمات عقولنا، فنأخذ ما نأخذ ونرد ما نرد، وأمير ركبنا في ذلك كله العقل، الذي فتنته الحضارة المادية تارة، والفلسفة تارة أخرى.
والشيخ كغيره من رجال هذه المدرسة، ينفون كل جمود عن هذا الدين، مبينين فلسفة الأحكام وحكمة التشريع في أثناء تفسيراتهم، وبيان حكمة التشريع من الأمور الدقيقة المهمَّة التي تزيل اللبس، وتنشر الطمأنينة في كثير من النفوس، يقول الشيخ في تفسيره لقوله تعالى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [الشورى: 13] (والحكم في هذه الشرائع الإلهية، أن الإنسان إذا ترك إلى مداركه الحسية ونظرياته العقلية، ضل وكره الحياة، وكان أشقى من أنواع الحيوان، وشقاؤه يكون من ناحية العقل نفسه، فقد دلت التجارب على أن العقل غير المؤيد بالشرع الإلهي، يذهب مذاهب شتى: منها الصواب ومنها الضلال، وهو فيما عدا المحسات والماديات ضلاله أكثر من صوابه، وهذه آراء العلماء في الفلسفة والأخلاق، يشبه بعضها هذيان المحموم، وبعضها لا يدرك له محصل، على كثرة ما يقولون من مقدمات وبراهين، وهذه مذاهب الاجتماع قديمًا وحديثًا لم تسعد الأمم بها، فلا بد من هداية تصدر عن المعصوم، يحملها من عند الله العلي الحكيم، وقد دلت التجارب أيضًا، على أن الأمم التي عملت بالهدى كله أو بعضه، سعدت بمقدار ذلك الهدى الذي عملت به، فلا بد من نظام يعتقد فيه العصمة من الخطأ، ويهدر معه حكم العقل، إذا حصل تعارض بينهما، فإن دائرة العقل محدودة، وهي قاصرة عن إدراك خفايا المستقبل، وإذا قيل إن التدين مقيد للحرية، ومانع من التمتع باللذات، فكيف تكون فيه السلوى والعزاء؟ فالجواب: إن الإسلام أباح الطيبات وحرم الخبائث، ولم يحظر من اللذات إلا ما يضر الإنسان، وليست السعادة في حرية
البهائم، بل في حرية يصبح بها فيما فيه خيره وسعادته) وهذا الكلام شبيه كل الشبه بما نقلناه من قبل، عن الأستاذ الإمام عند الحديث عن هداية القرآن.
أما موقف الأستاذ من التفسير العلمي للآيات الكونية، فمع أنه ليس من رأيه أن يفسر القرآن حسب نظريات العلم، إلا أننا نجده ينساق، ليكون في قافلة هؤلاء العلماء، الذين يفسرون الآيات حسب النظريات المستحدثة، يقول عند تفسيره لقول الله تعالى:{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10)} [لقمان: 10].
(السماوات مجموع ما نراه في الفضاء فوقنا، من سيارات ونجوم وسدائم، وهي مرتبة بعضها فوق بعض، تطوف دائرة في الفضاء، كل شيء فيها في مكانها المقدر له بالناموس الإلهي ونظام الجاذبية، ولا يمكن أن يكون لها عمد، والله هو ممسكها ومجريها إلى الأجل المقدر لها، فإذا قيل إن نظام الجاذبية، وهو الناموس الإلهي قائم مقام العمد، ويطلق عليه اسم العمد، جاز أن نقول إن لها عمدًا غير منظورة، وإذا لاحظنا أنه لا يوجد شيء مادي تعتمد عليه، وجب أن نقول إنه لا عمد لها، وأقدار الأجرام السماوية وأوزانها أقدار وأوزان لا عهد لأهل الأرض بها
…
والأرض نفسها إذا قيست بهذه الأجرام، ليست إلا هباءة حقيرة في الفضاء
…
قرر الكتاب الكريم أن الله {اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت: 11]، وهذا الذي قرره الكتاب الكريم، هو الذي دل عليه العلم، وقد قال العلماء: إنَّ حادثًا كونيًا جذب قطعة من الشمس وفصلها عنها، وإن هذه القطعة بعد أن مرت عليها أطوار تكسرت، وصارت قطعًا كل قطعة منها صارت سيارًا من السيارات، وهذه السيارات طافت حول الشمس وبقيت في قبضة جذبتها، والأرض واحدة من هذه السيارات، فهي بنت الشمس، والشمس هي المركز لكل هذه السيارات
…
فليست الأرض هي مركز العالم كما ظنه الأقدمون، بل الشمس هي مركز هذه المجموعة، والشمس وتوابعها قوى صغيرة في العالم السماوي.