الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذا التأويل فضلًا على أنه خالف فيه جميع المفسرين، إلا أن مخالفتهم قد تحتمل أحيانًا. ولكن الأدهى من ذلك أنه مخالف لعبارة الآية وسياقها، فالعبارة والسياق يشيران إلى حادثة مخصوصة، حادثة قتيل اختلف الناس فيمن قتله، فهُرعوا إلى موسى عليه السلام، كي يخرجهم مما هم فيه من حيرة، بهدى الله وإرشاده، فكان بينهم وبينه ما كان من سؤال عن البقرة وصفاتها. وأخيرًا قالوا:{الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} [البقرة: 71] وذبحوا البقرة، وأحيا الله بقدرته هذا القتيل، ومثل هذا الإحياء يحيى الله الموتى وكل تأويل للآية يصرفها عن ظاهر لفظها مردود تأباه اللغة إفرادًا وتركيبًا. وما استؤنس به مما جاء في التوراة لا ينهض دليلًا، حتى تصرف الآيات إلى غير ظاهرها. وما استدل به من الآيات على تأويل الإحياء غير مسلم به، ذلك لأن كل كلمة من الآيات يمكن أن يحدد سياقُها المعنى المقصود. والخلاصة أن مسلك الإمام في تأويل هذه الآية، مسلك وعر فيه خطر على كثير من معاني القرآن.
وعند تفسير قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ} [البقرة: 243]، يقول: (فمعنى موت أولئك القوم، هو أن العدو نكّل بهم، فأفنى قوتهم وأزال استقلال أمتهم، حتى صارت لا تعد أمة، بأن تفرق شملها، وذهبت جامعتها. فأكل من بقي من أفرادها خاضعين للغالبين
…
ومعنى حياتهم هو عودة الاستقلال إليهم (1).
وهذا الذي قاله، وإن كان له أصل فيما نقله ابن كثير عن عطاء حيث نقل عنه أن هذا مَثَل، إلا أنه يعكس لنا بوضوح الأرضية التي يقف عليها، والقاعدة التي ينطلق منها في تفسيره رحمه الله.
جـ- فكرة التطور في تفسير الشيخ:
لا يشك أحد في أن فكرة التطور، كانت وليدة بعض النظريات كنظرية داروين.
(1) المنار جـ 2 ص 351.
ولقد جعل هؤلاء التطور في كل شيء، فالإنسان لم يخلق هكذا، وإنما تطور في مراحل عديدة، حتى غدا إنسانًا عاقلًا منتصب القامة، وسلوكه الاجتماعي قد تطور كذلك، ومن ثم فعقائده الدينية مرت بمراحل كثيرة، حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن.
ومفسرنا رحمه الله يظهر أنه استهوته فكرة التطور هذه، سواء أكان تطورًا في العقيدة أم في خلق الإنسان نفسه، فعبر عنها في مواضع كثيرة، فمثلًا ربط اختلاف رسالات الرسل وتعاقبها بتطور الإنسانية، فالإنسانية حسبما يرى حسية في زمن موسى، فكانت رسالة سيدنا موسى حسية. ثم تطورت من الحس إلى العاطفة، فكانت رسالة سيدنا عيسى عاطفية ثم تطورت من الحس والعاطفة إلى العقل، فكانت رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم عقلية. يقول أستاذنا الدكتور عبد الحليم محمود:(ورأيي أن الإنسانية لم تتطور هذا التطور، وأن الإنسانية أينما سرنا، وعند أي فرد رأينا، وفي أي مجتمع شاهدنا، فإنما يتمثل فيها جوانب ثلاثة: الحس والعاطفة والعقل، ولكن فكرة التطور وأن الإنسانية متطورة، انتهت بأن أصبحت مسيطرة على الكثيرين، فانقادوا لها وأدخلوها في المحيط الديني، فأفسدت كثيرًا من القضايا (1).
وأقول: إن المتدبر للقرآن يتبين أن أصول دعوة الأنبياء واحدة، كما تنطق بذلك كثير من الآيات، ويتبين أن شبهات المعاندين، ابتداء من قوم نوح عليه السلام، إلى المعاندين في عهده صلى الله عليه وآله وسلم، تكاد تكون واحدة. مما يجعلنا نجزم بأنه لا وجود أبدًا لنظرية التطور في العقيدة، نعم قد يكون هناك اختلاف في الفروع يحتمله تعاقب الزمن، وإلا فكيف نفسر قوله تعالى:{وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً} [الأحقاف: 26].
كذلك عند تفسيره لقول الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ
(1) الإسلام والعقل ص 155.
وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء: 1]. يقول: (وقد أبهم الله تعالى ههنا أمر النفس التي خلق الناس منها وجاء به نكرة فندعها على إبهامها. فإذا ثبت ما يقوله الباحثون من الإفرنج من أن لكل صنف من البشر أبًا، كان ذلك غير وارد على كتابنا، كما يرد على كتابهم التوراة لما فيها من الشيء الصريح في ذلك، وهو مما حمل باحثيهم على الطعن في كونها من عند الله تعالى ووحيه)(1).
ثم يذكر صاحب المنار أن للإمام رأيين في هذه المسألة: أحدهما أن ظاهر هذه الآية، يأبى أن يكون المراد بالنفس الواحدة آدم أي سواء كان هو الأب لجميع البشر أم لا، لما ذكره الإمام من معارضة المباحثِ العلمية والتاريخية له، ومن تنكير ما بثه منها ومن زوجها.
وثانيهما: أنه ليس في القرآن نص أصولي قاطع على أن جميع البشر من ذرية آدم، والمراد بالبشر هنا هذا الحيوان الناطق البادي البشرة المنتصب القامة، الذي يطلق عليه لفظ الإنسان، وعلى هذا الرأي لا يرد على القرآن، وما يقوله بعض الباحثين، ومن اقتنع بقولهم، من أن للبشر عدة آباء، وترجع إليهم سلائل كل صنف منهم.
وأقول إن أبوة آدم يكاد يكون مجمعًا عليها من قبل الناس جميعًا، والمسلمين بخاصة والنصوص من الكتاب والسنة كثيرة، وكفيلة بدحض الشبهات التي ترد على هذه المسائل مثل قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13].
والمراد بالناس هنا ليسوا قريشًا فقط، فإن دعوته صلى الله عليه وآله وسلم عامة كما نعلم وفي القرآن الكريم {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28]. وفي الحديث الصحيح أنه يوم يقف الناس لرب العالمين يذهبون إلى
(1) تفسير المنار جـ 4، ص 326.