الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكما نقول في المقل: "إنما نكحل في موضع العينين"(1).
ومن خلال مصادره يتبين لك عظم فائدة تفسيره، وسأنقل لك كما وعدتك بعض النماذج من التفسير التي يتبين لك من خلالها عنايته بالقضايا اللغوية مفردات وتراكيب، وعنايته بالقضايا البلاغية والنحوية والعقدية وغيرها (2).
نماذج من تفسيره:
1 - صلاح النفوس وإصلاحها
{رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء: 25].
الشرح والمعنى:
صلاح الشيء: هو كونه على حالة اعتدال في ذاته وصفاته، بحيث تصدر عنه أو به أعماله المرادة منه على وجه الكمال.
وفساد الشيء هو كونه على حالة اختلال في ذاته وصفاته، بحيث تصدر عنه أو به تلك الأعمال على وجه النقصان.
مثال الصلاح والفساد:
اعتبر هذا في البدن، فإن له حالتين: حالة صحة، وحالة مرض:
والأولى هي حالة صحته باعتدال مزاجه، فتقوم أعضاؤه بوظائفها وينهض هو بأعماله.
والثانية هي حالة فساده باختلال مزاجه، فتتعطل أعضاؤه أو تضعف كلها أو بعضها عن القيام بوظائفه، ويقعد هو أو يثقل عن أعماله.
(1) مقدمة في تفسيره ص 51.
(2)
التعليقات على كلام ابن باديس، الموجودة في حواشي هذه الصفحات، هي تعليقات لناشري التفسير وهما الأستاذ محمد الصالح رمضان، والأستاذ توفيق محمد شاهين.
هذا الذي تجده في البدن هو نفسه تجده في النفس: فلها صحة، ولها مرض، حالة صلاح وحالة فساد.
الإصلاح والفساد:
(والإصلاح) هو إرجاع الشيء إلى حالة اعتداله، بإزاء ما طرأ عليه من فساد.
(والإفساد) هو إخراج الشيء عن حالة اعتداله بإحداث اختلال فيه.
إصلاح البدن والنفس:
فإصلاح البدن بمعالجته بالحمية (1) والدواء، وإصلاح النفس بمعالجتها بالتوبة الصادقة.
وإفساد البدن بتناول ما يحدث به الضرر، وإفساد النفس بمقارفة المعاصي والذنوب. وهكذا تعتبر النفوس بالأبدان في باب الصلاح والفساد، في كثير من الأحوال، غير أن الاعتناء بالنفوس أهم وألزم، لأن خطرها أكبر وأعظم.
العناية الشرعية بالنفس:
إن المكلف المخاطب من الإنسان هو نفسه، وما البدن إلا آلة لها ومظهر تصرفاتها، وإن صلاح الإنسان وفساده إنما يقاسان بصلاح نفسه وفسادها. وإنما رقيه وانحطاطه باعتبار رقي نفسه وانحطاطها، وما فلاحه إلا بزكائها، وما خيبته إلا بخبثها. قال تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 9 - 10].
وفي الصحيح: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب".
ما هو القلب؟
وليس المقصود من القلب مادته وصورته، وإنما المقصود النفس الإنسانية
(1) الاعتدال والمحافظة في المأكل والمشرب. وبالصوم أحيانًا.
المرتبطة به (1).
وللنفس ارتباط بالبدن كله، ولكن القلب عضو رئيسي في البدن، ومبعث دورته الدموية، وعلى قيامه بوظيفته تتوقف صلوحية البدن، لارتباط النفس به. فكان حقيقًا لأن يعبر به عن النفس على طريق المجاز.
وصلاح القلب - بمعنى النفس - بالعقائد الحقة، والأخلاق الفاضلة، وإنما يكونان بصحة العلم، وصحة الإرادة، فإذا صلحت النفس هذا الصلاح صلح البدن كله، بجريان الأعضاء كلها في الأعمال المستقيمة. وإذا فسدت النفس من ناحية العقل، أو ناحية الخلق، أو ناحية العلم، أو ناحية الإرادة
…
فسد البدن، وجرت أعمال الجوارح على غير وجه السداد.
مقصود الأديان:
فصلاح النفس هو صلاح الفرد، وصلاح الفرد هو صلاح المجموع والعناية الشرعية متوجهة كلها إلى إصلاح النفوس: إما مباشرة وإما بواسطة.
فما من شيء مما شرعه الله تعالى لعباده من الحق والخير والعدل والإحسان إلا وهو راجع عليها بالصلاح.
وما من شيء نهى الله تعالى عنه من الباطل والشر والظلم والسوء إلا وهو عائد عليها بالفساد.
فتكميل النفس الإنسانية، هو أعظم المقصود من إنزال الكتب، وإرسال الرسل، وشرع الشرائع.
وهذه الآيات الثمان عشرة قد جمعت من أصول الهداية ما تبلغ به النفوس - إذا تمسكت به - غاية الكمال.
(1) أو منطقة ما وراء الحس والشعور كما يعبر علماء النفس.
وجه الارتباط:
قد أمر تعالى في الآيات المتقدمة بعبادته والإخلاص له.
وأمر ببر الوالدين، والإحسان إليهما في الظاهر والباطن.
كما أمر بغير ذلك في الآيات اللاحقة. ووضع هذه الآية أثناء ذلك، وهي متعلقة بالنفس وصلاحها
…
لينبه الخلق على أصل الصلاح الذي منه يكون، ومنشؤه الذي منه يبتدى. فإذا صلحت النفس قامت بالتكاليف التي تضمنتها هذه الآيات الجامعة لأصول الهداية، وهذا هو وجه ارتباط هذه الآية بما قبلها وما بعدها، الذي يكون قبل التدبر خفيًا (1).
ونظير هذه الآية في موقعها ودلالتها على ما به يسهل القيام بأعباء التكاليف - قوله تعالى:
{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238].
فلقد جاءت أثناء آيات أحكام الزوجية آمرة بالمحافظة على الصلوات، تنبيهًا للعباد على أن المحافظة عليها على وجهها، تسهل القيام بأعباء تكاليف تلك الآيات، لأنها تزكي النفس بما فيها من ذكر وخشوع وحضور وانقطاع إلى الله تعالى، وتوجه إليه، ومناجاة له.
وهذا كله تعرج به النفس في درجات الكمال.
اللذة في الطاعة:
والنفوس الزكية الكاملة تجد في طاعة خالقها لذة وأنسًا تهون معهما أعباء التكليف.
(1) هذا رأي عظيم من الإمام في وجه الارتباط. وبعض المفسرين يقولون أيضًا في وجه الارتباط: بأن العباد بما جُبلوا عليه من سهو ونقصان، ربما يبدر منهم ما يخالف الشرع ويغضب الوالدين عن خطأ وغلط، لا عن قصد وعمد، إذ كل بني آدم خطاء، وخيرهم المستغفر، وهنا ينظر الله إلى قلوبهم فإن كانت صالحة وبدر منها هذا الخطأ، فإنه يغفر لهم ما بدر منهم، متى رجعوا إليه.