الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 - وفي تفسير قول الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [
المائدة: 35] يقول (1):
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا} أي اطلبوا {إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} أي القربة - كذا فسره ابن عباس ومجاهد وأبو وائل والحسن وزيد وعطاء والثوري وغير واحد. وقال قتادة: أي تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه.
وقرأ ابن زيد {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} [الإسراء: 57] قال ابن كثير: وهذا الذي قاله هؤلاء الأئمة لا خلاف بين المفسرين فيه، وفي (القاموس وشرحه)، الوسيلة والواسلة: المنزل عند الملك والدرجة والقربة والوصلة.
وقال الجوهري: الوسيلة، ما يتقرب به إلى الغير، والتوسيل والتوسل واحد. يقال: وسل إلى الله تعالى توسيلًا، عمل عملًا تقرب به إليه كتوسل. (وإلى) يجوز أن يتعلق بـ (ابتغوا)، وأن يتعلق بـ (الوسيلة)، قدم عليها للاهتمام به، (وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون) أي سبب المجاهدة في سبيله، وقد بين كثير من الآيات أن المجاهدة بالأموال والأنفس.
تنبيه: ما ذكرناه في تفسير (الوسيلة) هو المعوّل عليه، وقد أوضحه إيضاحًا لا مزيد عليه تقي الدين بن تيمية عليه الرحمة في (كتاب الوسيلة)، فرأينا نقل شذرة منه، إذ لا غنى للمحقق في علم التفسير عنه.
ثم نقل شرح ابن تيمية لمعاني ألفاظ التوسل والوسيلة، الواردة في الكتاب والسنة، وما كان يتكلم به الصحابة ويفعلونه، وتعريفه لما أحدثه المحدثون في هذا اللفظ ومعناه.
3 - ويفسر المقسمات بها في سورة التين بقوله:
(اعلم أن المفسرين لم يختلفوا في أن البلد الأمين مكلة المشرفة، الآمن أهلها أن
(1) محاسن التأويل جـ 6 ص 1968.
يحاربوا، كما قال تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67] وأما المقسمات بها، ففيها أقوال للسلف لاحتمال موادها لكل منها، فعن مجاهد والحسن وغيرهما، أن (التين) الذي يؤكل، و (الزيتون) الذي يعصر، قالوا:(التين مسجد دمشق، و (الزيتون) بيت المقدس، وعن ابن عباس:(التين) مسجد نوح الذي بني على الجوديّ، و (الزيتون) بيت المقدس، فظهر أنهما إما الشجران المعلومان أو الجبلان أو المسجدان، وصوب ابن جرير الأول فنهما - وعبارته: والصواب من القول ذلك عندنا، قول من قال (التين) هو التين الذي يؤكل، و (الزيتون) هو الزيتون الذي يعصر منه الزيت، لأن ذلك هو المعروف عند العرب، ولا يعرف جبل يسمى تينًا، ولا جبل يقال له زيتون، إلا أن يقول قائل: أقسم جل ثناؤه بالتين والزيتون، والمراد من الكلام، القسم بمنابت التين ومنابت الزيتون، فيكون مذهبًا، وإن لم يكن على صحة، ذلك أنه كذلك دلالة على ظاهر التنزيل، ولا من قول من لا يجوز خلافه، لأن دمشق بها منابت التين، وبيت المقدس منابت الزيتون) انتهى كلامه، وفيه نظر لأن من حفظ حجة على من لم يحفظ، كيف وجبل الزيتون هو من جبال فلسطين، معروف ذلك عند علماء أهل الكتاب والمؤلفين في تقويم البلاد.
قال صاحب (الذخيرة) في تعداد جبال فلسطين: ويتصل بجبال إسرائيل جبل الزيتون، قال: وقد دعي كذلك لكثرة الزيتون فيه، وهو قريب المسافة من أورشليم، وفيه صعد المسيح النبي عليه السلام لكي يرتفع إلى السماء انتهى (1).
ويسمى أيضًا طور زيتا إلى الآن. على أن فيما صوبه ابن جرير، تبقى المناسبة بينهما وبين طور سينين والبلد الأمين، وحكمة جمعهما معهما في نسق واحد، غير مفهومة كما قاله الإمام. فالأرجح أنهما موضعان أو موضع واحد معظم، ويكون المقسم به ثلاثة مواضع مقدسة.
(1) محاسن التأويل جـ 17 ص 6195.
فال ابن كثير: وقال بعض الأئمة: هذه محال ثلاثة، بعث الله من كل واحد منها نبيًّا مرسلًا من أولي العزم أصحاب الشراثع الكبار، فالأول محل التين والزيتون وهو بيت المقدس، الذي بعث الله فيه عيسى بن -صلوات الله وسلامه عليه- عليهما السلام، والثاني طور سينين وهو طور سيناء الذي كلم الله عليه موسى بن عمران. والثالث: مكة وهو البلد الأمين، الذي من دخله كان آمنًا، وهو الذي أرسل فيه محمد صلى الله عليه وسلم، وفي التوراة ذكر لهذه الأماكن الثلاثة: جاء الله من طور سيناء، يعني الذي كلم الله عليه موسى، وأشرق من ساعير، يعني جبل بيت المقدس الذي بعث الله منه عيسى، واستعلن من جبال فاران: يعني جبال مكة التي أرسل الله منها محمدًا صلى الله عليه وسلم، فذكرهم مخبرًا عنهم على الترتيب الوجودي بحسب ترتيبهم في الزمان، ولهذا أقسم بالأشرف ثم الأشرف ومن ثم بالأشرف منهما
…
انتهى كلام ابن كثير.
ومراده ببعض الأثمة شيخ الإسلام ابن تيمية عليه الرحمة والرضوان، فإنه ذكر ذلك في كتابه (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح)، ونحن ننقلها زيادة في إيضاح المقام واهتمامًا بتحقيقه) ثم نقل فصلًا من كلام ابن تيمية بعنوان (فصل شهادة الكتب المتقدمة بنبوته صلى الله عليه وسلم)، يقول في أواخره:
(واستظهر بعض المعاصرين، أن قوله تعالى (والتين) يعني به شجرة (بوذا) مؤسس الديانة البوذية، التي انحرفت كثيرًا عن أصلها الحقيقي، لأن تعاليم بوذا لم تكتب في زمنه، وإنما رويت كالأحاديث بالروايات الشفهية، ثم كتبت بعد ذلك حينما ارتقى أتباعها، والراجح عندنا بل المحقق، إذا صح تفسيرنا لهذه الآية، أنه كان نبيًّا صادقًا، ويسمى (سيكا موتى) أو (جوناما)، وكان في أمره يأوي إلى شجرة تين عظيمة، وتحتها نزل عليه الوحي، وأرسله الله رسولَا، فجاءه الشيطان ليفتنه هناك فلم ينجح معه، ولهذه الشجرة شهرة كبيرة عند البوذيين، وتسمى عندهم (التينة المقدسة) وبلغتهم (أجابالا).
ففي هذه الآية ذكر الله تعالى، أعظم أديان البشر الأربعة، الموحاة منه تعالى لهدايتهم، ونفعهم في دينهم ودنياهم. فالقسم فيها كالتمهيد لقوله تعالى بعده:
{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] إلى آخر السورة.
ولا يزال أهل الأديان الأربعة هم أعظم أمم الأرض وأكثرهم عددًا وأرقاهم.
والترتيب في ذكرها في الآية هو باعتبار درجة صحتها بالنسبة لأصولها الأولى، فبدأ تعالى بالقسم بالبوذية، لأنها أقل درجة في الصحة، وأشد الأديان تحريفًا عن أصلها، كما يبدأ الإنسان بالقسم بالشيء الصغير، ثم يرتقي للتأكيد إلى ما هو أعلى. ثم النصرانية وهي أقل من البوذية تحريفًا. ثم اليهودية وهي أصح من النصرانية، ثم الإسلامية وهي أصحها جميعًا وأبعدها عن التحريف والتبديل، بل إن أصولها الكتاب والسنة العملية المتواترة، لم يقع فيها تحريف مطلقًا، ومن محاسن هذه الآية الشريفة غير ذلك، ذكر ديني الفضل (البوذية والمسيحية) أولًا، ثم ديني العدل (اليهودية والإسلامية) ثانيًا، للإشارة إلى الحكمة بتربية الفضل والمسامحة مع الناس أولًا، ثم تربية الشدة والعدل، وكذلك بدأ الإسلام باللين والعفو ثم بالشدة والعقاب، ولا يخفى على الباحثين التشابه العظيم بين بوذا وعيسى ودينيهما. وكذلك التشابه بين موسى ومحمد ودينيهما. فلذا جمع الأولان معًا والآخران كذلك، وقدم البوذية على المسيحية لقدم الأولى، كما قدم الموسوية على المحمدية لهذا السبب بعينه، ومن محاسن الآية أيضًا الرمز والإشارة إلى ديني الرحمة بالفاكهة والثمرة، وإلى ديني العدل بالجبل والبلدة الجبلية (مكة) وهي البلد الأمين، ومن التناسب البديع بين ألفاظ الآية، أن التين والزيتون ينبتان كثيرًا في أودية الجبال، كما في جبل الزيتون بالشام وطور سينا، فهما مشهوران بها، فهذه الآية قسم بأول مهابط الوحي، وأكرم أماكن التجلي الإلهي على أنبيائه الأربعة، الذين بقيت شرائعهم للآن، وأرسلهم الله لهداية الناس الذين خلقهم في أحسن تقويم) (1).
(1) تفسير القاسمي (17/ 6195 - 6200).
قد يتوهم القارئ أن هذا القول لابن تيمية، وقد بحثنا كثيرًا في كتب ابن تيمية ولم نجده. ويظهر أن القاسمي قد نقله عن بعض المعاصرين. والحق إنه لقول أشد بعدًا من كثير من الإسرائيليات، وكنت أتمنى أن يعلق عليه صاحب التفسير، وهذه كلمة موجزة للعلامة الشيخ أبي الحسن الندوي =