الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الاجتهاد بين الأئمة رضوان الله عليهم، وهكذا أفادت أن العفو عن بعض الدم موجب بسقوط القصاص وللولي المطالبة بالدية، وعلى القاتل دفعها، وعلى ولي الدم، اتباع بالمعروف ومطالبة بلا عنف، وعلى القاتل وعائلته أداء إليه بإحسان، ولا جرم أن هذا تخفيف على الأمة ورحمة بها، وفتح باب للمسامحة والمساهلة، فلو قتل ولي الدم، القاتل بعد أن أخذ الدية فله عذاب أليم، في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالنار، إن القصاص حياة وإبقاء للأجسام والأرواح.
ألا ترى أن الاضطراب ما ولج في أمة إلا أنزلها من شاهق، وأحل بها العذاب الهون، عامًا لكل من دنت وفاته، وحضرت منيته، وجاءت ساعته، فقال: المقصد الثاك: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة: 180].
وبهذا ندرك أن الشيخ يذكر، ما لا بد من فهمه في التفسير، كما أنه لم يهمل آراء الفقهاء والأئمة، وهذا نجده في جميع آيات الأحكام، كآية تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير، وآية الصوم وآية الوصية، وغيرهما، كما أنه يبين ما بين الآيات من صلة وربط كما رأينا في هذا المثال، إلا أنه يتشعب كثيرًا عند ذكر لطائفه.
أما
المثال الثاني المكي، فهو من سورة هود
، عند تفسير قوله تعالى {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ} [هود: 100]
يقول: (قال تعالى {ذَلِكَ} النبأ مبتدأ خبره {مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ} خبر بعد خبر، {قَائِمٌ وَحَصِيدٌ} أي بعضها باق وبعضها عافى الأثر، كالزرع القائم على ساق والذي حصد، وهذه الجملة مستأنفة.
{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} بإهلاكنا إياهم، {وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} بارتكاب ما به أهلكوا، وذلك لما جبلت نفوسهم عليه من النقص، الذي هو نتائج أسباب خافية وظاهرة، في هذا العالم الذي فطر على الخير والشر، ولكن الشر جاء عرضًا، ولا يترك الخير الكثير، للشر القليل ككفل هؤلاء، فلا بد من نفاذ أمرنا، لأن تلك هي حقائق الوجود الثابتة، التي تعلق علمنا بها، فهكذا علمنا وهكذا خلقنا، وهكذا
رتبنا ونظمنا المخلوقات، {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ} فما نفعتهم ولا دفعت عنهم، {آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ} يعبدون {مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ} عذابه، ولما منصوب بما أغنت، {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} تخسير، يقال (تب) إذا خسر، وتببه غيره
…
أوقعه في الخسران أي ما دفعت عنهم عبادة غير الله شيئًا، بل أهلكتهم.
{وَكَذَلِكَ} أي ومثل ذلك الأخذ، ومحل الكاف الرفع {أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى} أي أهلها، {وَهِيَ ظَالِمَةٌ} حال من القرى، {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} مؤلم صعب على المأخوذ، هذا تحذير لكل قرية ظالمة من كفار مكة وغيرهم، فليبادر الظالمون بالتوبة، ولا يغرهم الإمهال.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ} فيما قصّه من قصص الأمم الهالكة، في هذه وفي غيرها ومن السور، {لَآيَةً} لعبرة، {لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ} أي اعتقد صحة وجوده، فأما من يرى أن العالم لا فاعل له، وإنما هي ذرات تتكون وتنحل، فلا يقول بحساب ولا عقاب، فليس لهذا عبرة عنده. {ذَلِكَ} أي يوم القيامة، {يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ} ، أي يجمع له الناس لا محالة، والناس ينفكون عنه، {وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} ، أي مشهود فيه أهل السماوات والأرضين، وقد اتسع فيه بإجراء الظرف مجرى المفعول به، وليس المقصود أن اليوم مشهود في نفسه، وإلا لبطل الغرض من تعظيم اليوم بتمييزه، فإن سائر الأيام مشهودة.
{وَمَا نُؤَخِّرُهُ} أي اليوم، {إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ} ، الأجل يطلق على مدة التأجيل كلها، وعلى منتهاها.
{يَوْمَ يَأْتِ} بحذف الياء وإثباتها (يأتي)، والحذف في مثل هذا كثير في لغة هذيل، ونظيره قوله تعالى:{ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} [الكهف: 64]، والفاعل ضمير يرجع إلى قوله:{يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ} ، {لَا تَكَلَّمُ} لا تتكلم، {نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ} أي لا يشفع أحد إلا بإذن الله، {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} {فَمِنْهُمْ} أي من أهل الموقف وهم الناس المذكورون، في قوله {مَجْمُوعٌ لَهُ
النَّاسُ} {شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} فمنهم معذب، ومنهم منعم.
{فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ} هو أول نهيق الحمار. {وَشَهِيقٌ} هو آخره، أو هما إخراج النفس ورده، والجملة حال، والعامل هو الاستقرار المقدر في النار {خَالِدِينَ فِيهَا} حال مقدرة، و {مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} أي مدة دوام السماوات والأرض، وذلك للتأبيد ونفي الانقطاع، كما تقول العرب: ما لاح كوكب -والمقصود التأبيد {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} هو استثناء من الخلود في النار، وكذلك أهل الجنة يتصلون بجانب القدس، وبرضوان الله، وهذا أعلى من الجنة، أو ما شاء بمعنى من شاء، وهم قوم يقال لهم الجهنميون، يخرجون من النار أيامًا، فهؤلاء لم يشقوا شقاوة من يدخل النار على التأبيد، ولا سعدوا سعادة من لم تمسه النار، هكذا روى ابن عباس والضحاك وقتادة، وهؤلاء هم فساق الموحدين، وقيل إن {إِلَّا} هنا بمعنى سوى، والمعنى سوى ما شاء ربك، من الزيادة التي لا آخر لها على مدة بقاء السماوات والأرض، فالاستثناء راجع إما:
1 -
لنوع العذاب كما يرجع النعيم فيما سيأتي. فالمقصود أنهم ينقلون من عذاب إلى عذاب، كما أن أهل الجنة ينقلون من نعيم إلى نعيم.
2 -
أو لنفس المعذبين، فمنهم من لا يخلد في أحدهما، كأهل المعاصي الموحدين.
3 -
أو للمدة التي تزيد على زمن السماوات والأرض التي نشاهدها، وتكون (إلَّا) بمعنى غير.
4 -
وهناك وجه رابع وهو مدة لبثهم في الدنيا والبرزخ، فليسوا في جهنم ما داموا فيها، والاستثناء إذن من أصل الحكم.
5 -
وقيل الشهيق والزفير هما المقيدان بتلك المشيئة لا الخلود، فالزفير والشهيق دائمان إلا في أوقات يعلمها الله.
ثم قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} من غير اعتراض، لأنه على الحكمة العامة في العالم، وليس للناس ما يؤهلهم للوقوف على تلك الحقائق كاملة.
{وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} ، وقد تقدم أنهم موحدون عاصون، لا يدخلون الجنة إلا بعد العذاب إذا كانت (ما) بمعنى من، أو أنهم ينالون، ما هو أعظم من الجنة، وهو رؤية الله تعالى ورضوانه {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} ، غير مقطوع، فهذا الثواب لا ينقطع.
{فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ} أي فلا تشك بعد ما أنزل عليك من هذه القصص، في سوء عاقبة عباداتهم، وأنهم آيلون إلى الهلاك، ومن تبعهم غير ناجين في الدنيا والآخرة، وهذا وعده بالانتقام منهم، ووعيد لهم، وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكل من سار على قدمه من المؤمنين، وأن الله ناصره وناصرهم وخاذل أعدائه وأعدائهم، كما جربناه في هذه الحياة مرارًا، وهم ما يعبدون إلا كما عبد آباؤهم من قبل، وقد قصصنا عليك ما نزل بآبائهم فسيلحقهم مثله، فإن المشابهة في الأسباب تستدعي المشابهة في المسببات، وقوله {إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ} أي كما كان يعبد آباؤهم، وهذا قوله تعالى:{مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ} إلى قوله {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ} من العذاب {غَيْرَ مَنْقُوصٍ} ، حال من النصيب لتقييد التوفية، دفعًا لما يحتمل أن التوفية تكون للبعض مجازًا.
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ} فآمن قوم وكفر قوم، كما اختلف هؤلاء في القرآن {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} أي كلمة الإنظار إلى يوم القيامة {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} بين قوم موسى وقومك بالعذاب المستأصل، {وَإِنَّهُمْ} وإن كفار قومك {لَفِي شَكٍّ مِنْهُ} ، من القرآن {مُرِيبٍ} موقع الريبة.
{وَإِنَّ كُلًّا} وإن كل المختلفين المؤمنين والكافرين، {لَمَّا} إلا والله {لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالهُمْ} (وقرئ)(لَمَا) بالتخفيف، فاللام إذن موطئة للقسم، والثانية للتأكيد، و (ما) زائدة للفصل بينهما، {إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} فلا يخفى عليه شيء.
ولما أبان الله في هذه السورة، كيف كانت عاقبة العاصين، وخاتمة الصالحين، أمر نبيه صلى الله عليه وسلم ومن اتبعه، قائلًا {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} أي استقم على دين ربك والعمل به، والدعاء إليه كما أمرك ربك، أي دم على ما أنت عليه من الاستقامة {وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} من الشرك والكفر، وهو عطف على ضمير الرفع في استقم {وَلَا تَطْغَوْا} ولا تخرجوا عما حد لكم، أو لا تغلوا في الدين، فتتجاوزوا ما أمرتكم به {إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فيجازيكم عليه، وهذا في معنى التعليل للأمر والنهي، قال ابن عباس ما نزلت آية على رسول الله صلى الله عليه وسلم، هي أشد عليه من هذه الآية، ولذلك قال:(شيبتني هود وأخواتها).
{وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} ، ولا تميلوا إليهم أدنى ميل، فإن الركون هو الميل اليسير، كالتزيي بزيهم، وتعظيم ذكرهم، والميل بالقلب إليهم، وطاعتهم ومداهنتهم، وتكثير سوادهم والرضا بأعمالهم، {فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} أي فتصيبكم النار بحرها، كما يحصل اليوم في الأقطار الإسلامية، من التشبه بالفرنجة، وتقليدهم ومداهنتهم، والتزي بزيهم واحترام تجارتهم وآرائهم وأخلاقهم، وفسوق الفاسقين منهم، فلذلك حكم الله على أكثر الأقطار الإسلامية، أن يصيبها نار الاستعباد في الدنيا، والذل والفقر والاحتلال والاختلال، والنذالة والضعف والجبن والخوف، وهذه مقدمة لعذاب جهنم {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} [الإسراء: 72].
وقد بينا في هذا التفسير، في مواضع كثيرة، أن الفرنجة ضحكوا على ذقون الشرقيين الغافلين، وألبسوهم ثوب المذلة والعار، ومزقوهم شر ممزق، وكل ذلك لأنهم ركنوا إليهم وصدقوهم، ولقد قدمت أنهم أشبه بالمسيح الدجال، فإنهم يظهرون جنة اللذات، ويخفون نار الاستعباد وقد ركن كثير من الأمراء إلى نار شهوات المال، الذي يعطونه لهم، أو الألقاب الحقيرة الكاذبة التي يسمونهم بها، أو الوسامات التي يعلقونها على صدورهم، فأوقعوهم في نار الاستعباد والمذلة