الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} [الرعد: 2] فلفظ (وسخر) دليل يفصل تعداد الشمس والقمر عن السبع السماوات، ولذلك كان المفسرون الذين لا يعرفون الهيئة لا يرون أن تعد الشمس سماء، ولا القمر، لعلمهم أن السماوات السبع مسكونة، وأما الشمس فنار محرقة، فذهبوا في تفسير السماوات على تلك الظنون، ولما اكتشف بعد بالتلسكوب سيار لم يكن معلومًا دعوه (أرانوس) ثم سيار آخر سموه (نبتون) صارت مجاميع السيارات سبعًا. فهذا الاكتشاف الذي ظهر بعد النبي صلى الله عليه وسلم، بألف ومائتي سنة دل على معجزة القرآن ونبوة المنزل عليه.
ثم قال: وأما كون السماوات هي السيارات السبع بدون توابعها، فلا يفهم من الآية، لأن الأقمار التي تثبتها، والنجوم الصغيرة التي مع المريخ، يلزم أن تكون تابعة للسماوات السبع؛ لأنها تعلونا، وهي في العالم الشمسي، وحينئذ فالسماوات السبع هي مجاميع السيارات السبع، بمعنى: أن مجموعة زحل بما فيها هو نفسه أي مع أقماره الثمانية تعد سماء، فكلها طبقة فوق طبقة، وكذلك مجموعة المشتري، ويدل على هذا التطبيق قوله تعالى:{وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} [الملك: 5] يشير إلى أن السماء الدنيا أي السماء التي تلي الأرض فلك المريخ، فهو وما حوله من النجوم العديدة التي تسمى مصابيح، وتعتبر كلها سماء وليس السيار نفسه
…
انتهى).
ملاحظات حول التفسير:
هذه نقول من نقول القاسمي رحمه الله، وقد أحسن صنعًا حينما سماها محاسن التأويل، ولقد أحببت أن أنقل هذه النماذج على كثرتها، لتكون هناك صورة واضحة عن التفسير، إذ لا يتأتى هذا من أنموذج واحد أو اثنين، لأن أي كاتب قد يضطر في بعض المواضع أن ينقل عن غيره، ولقد اشتملت هذه النماذج على آيات مكية ومدنية.
والذي نلاحظه أن شخصيات من نقل عنهم هي البارزة في هذا التفسير، أما
شخصيته فكل ما نجده لها من أثر، إنما هو حسن اختيار هذا النقل، ومن الإنصاف أن أقرر هنا إلى جانب أمانته، سعة إطلاعه أولًا، واهتمامه بإيراد المأثور ثانيًا، وتخلصه من وطأة التعصب ثالثًا.
على أن الرجل كان يتدخل أحيانًا ليبدي رأيه في بعض المسائل، كما رأينا ذلك عند تفسيره قوله تعالى:{إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالكُمْ} [الأنعام: 38] من سورة الأنعام، في تحديد المثلية، حيث ينقل عن المفسرين أقوالًا في معنى المثلية، فمن قائل إن المثلية هنا إنما هي في هيمنة الله ورعايته وتدبيره، ومن قائل إنها في معرفة الله وتسبيحه، وقول ثالث إنها في الحشر بعد الموت، ويقول بعد إيراد هذه الأقوال:(لا شك في صحة الوجهين بذاتهما -يعني الثاني والثالث- وصدق المثلية فيهما، ولكن الحمل عليهما يبعده عدم ملاقاته للآية الأخرى، فالأمَسّ تأييد للنظائر ما ذكرناه أولًا - والله أعلم)(1).
كما نرى ذلك عند تفسيره لقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2]، حيث يبدي رأيه في الخلاف بين أهل السنة والمعتزلة، في إحباط الكبائر للأعمال فيقول:(ولا يخفى أن الإنصاف هو الوقوف مع ما أوضحه النص وأبانه، فكل موضع نص فيه على الإحباط، وجب قبوله بدون تأويل، وامتنع القياس عليه؛ لأنه مقام توعد وخسران، ولا مجال للرأي في مثل ذلك هذا ما أعتقده وأراه، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل)(2).
وللرجل بعض اللفتات أحيانًا، فنراه مثلًا عند تفسيره قوله تعالى:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد: 25] يقول (3):
(1) محاسن التأويل جـ 6 ص 2298.
(2)
محاسن التأويل جـ 15 ص 5442.
(3)
محاسن التأويل جـ 16 ص 5693.
(فإن قيل الجمل المتعاطفة لا بد فيها من المناسبة، وأين هي في إنزال الحديد مع ما قبله؟ فالجواب أن بينهما مناسبة تامة، لأن المقصود ذكر ما يتم به انتظام أمور العالم في الدنيا، حتى ينالوا السعادة في الأخرى، ومن هداه الله من الخواص العقلاء، ينتظم حاله في الدارين بالكتب والشرائع المطهرة، ومن أطاعهم وقلدهم من العامة بإجراء أقوال الشرع العادلة بينهم، ومن تمرد وطغى وقسا، يضرب بالحديد الراد لكل مريد. وإلى الأولين أشار بقوله (وأنزلنا معه الكتاب والميزان)، فجمعهم واتباعهم في جملة واحدة، وإلى الثالث أشار بقوله (وأنزلنا الحديد)، فكأنه قال: أنزلنا ما يهتدي به الخواص، وما يهتدي به أتباعهم، وما يهتدي به من لم يتبعهم. فهي حينئذ معطوفه لا معترضة لتقوية الكلام كما توهم، إذ لا داعي له، وليس في الكلام ما يقتضيه بل فيه ما ينافيه).
على أن من المآخذ التي نأخذها عليه، سكوته عن نقد بعض ما ينقل من آراء، وإيراده أقوالًا متناقضة. ففي النموذج الذي أوردناه في تفسير الآية الأولى من سورة النساء في معنى قوله تعالى:{وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء: 1]، تفهم عبارته أنه يذهب إلى ما ذهب إليه أبو مسلم، ولكنه في آخر العبارة يفهم منه الرأي الآخر. فلا ندري ما الذي يرتئيه الشيخ، وفي نفس الآية يورد أحاديث ظاهرها التعارض، مما يجعل القارئ في حيرة دون توضيح فأولى له أن يبين المراد، أوْ لا يوردها أصلًا.
وعند تفسيره لقول الله تعالى: {قَال آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ} [يونس: 90] ينقل بحثًا عن إيمان فرعون، فيذكر ما قاله الشهاب، وما نسب للجلال الدواني، وأقوال غيرهما من العلماء، ثم يورد كلامًا لشيخه العطار من كتابه (الفتح المبين) في رد ما اعترض به على الشيخ محيي الدين) يرد ما قال فيه عن ابن عربي بأنه يقول بنجاة فرعون، لقبول توبته، ويقرر الشيخ العطار أن ابن عربي، إنما نظر في المسألة من حيث الدليل، فلا مانع عنده من صحة الدليل على إيمانه، وقبول توبته. ولست في صدد بحث هذه القضية، لكن الذي أقوله أن الشيخ
القاسمي رحمه الله، ترك هذه المسألة بعد نقل كلام شيخه دون الإشارة بكلمة أو إبداء رأي.
كذلك مما يؤخذ على الرجل استطراده في كثير من الأحيان، بحيث يخرج عن موضوع الآية وإيجازه في كثير من الأحيان، وهذا واضح في تفسيره. وقد يورد بعض الإسرائيليات في تفسيره، وهو ما كنا نتمنى أن لا يتورط فيه الشيخ، وهو كثيرًا ما ينقل عن التوراة والإنجيل وغيرهما، من ذلك ما نراه عند تفسيره عند قول الله تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [البقرة: 246] الآيات من سورة البقرة، وعند تفسير قوله تعالى:{بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 158] من سورة النساء وفي تفسير قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ} [الإسراء: 4] من سورة الإسراء وفي غير هذه المواضع لا يجد الرجل بأسًا من نقل مثل هذه الأخبار، ولعل هذا يبين لنا سر دفاعه عن الثعالبي رحمه الله في مقدمة تفسيره.
ومن أغرب ما نراه في هذا التفسير -وهو أمرٌ جدير بالبحث والمناقشة- أن شيخنا يردّ أحاديث صحيحة، في مواضع، بينما يحتج بأحاديث واهة في مواضع أخرى، مع أن الشيخ القاسمي من رجال المدرسة السلفية، وكل من يقرأ في تفسيره يدرك هذا بوضوح، فهو كثيرًا ما يذكر فصولًا يبين فيها حقيقة مذهب السلف، كما نرى ذلك عند حديثه عن آيات الصفات، وكذلك عند تفسير قوله تعالى:{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] يعقد فصلًا يبين فيه مذهب السلف في كلام الله تعالى: وهذه أمثلة على ما ذكرت:
1 -
يظهر انتصاره لمذهب الحنابلة، عند تفسير قوله تعالى:{عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] حيث يورد الرأي القائل بأن الله تعالى يجلس سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، معه على عرشه، وأن هذا هو المقام المحمود، وينقل الشيخ اعتراضات الرازي على هذا القول، ولكنه يردها واحدًا واحدًا ردًّا
لا يخلو من تكلف. هذا مع نقله عن بعض الحفاظ توهين الحديث في هذه المسألة، وليته اكتفى بما أخرجه البخاري في صحيحه (1)، في تفسير هذه الآية من أحاديث مرفوعة، وهو أن المقام المحمود، هو مقام الشفاعة العظمى يوم القيامة، وهنا يحق لنا أن ندهش لمثل هذا الموقف من الشيخ وأمثاله، فمع أخذه بهذه الرواية الواهية، نراه يرد روايات ثبت صحتها وأقوالًا ذهب إليها الجمهور.
2 -
ومما يستنكر ويدهش له كذلك مخالفته للجمهور، في قضية خطيرة وهي إتيان المرأة في دبرها، فبعد أن يورد الشيخ روايات وآثارًا تبيح ذلك وتجيزه، يتتقد ابن القيم ويقول عنه إنه أول في هذه المسألة، وأن الأحاديث التي استدل بها على التحريم ضعيفة، لا تقوى للاحتجاج بها، ويمكن أن يكون هناك حديث صحيح في هذا الباب (2).
3 -
يفهم من كلام الشيخ إنكاره لانشقاق القمر، ويخطئ الحافظ ابن كثير في قوله بتواتر حديث انشقاق القمر، ويأتي بكلام كثير حول منكر أحاديث الآحاد. وهكذا نرى الشيخ وأمثاله، يردون الحديث بحجة عدم التواتر، وإذا جاءت الآية صريحة عمدوا إلى تأويلها.
وهنا يحق لنا أن نتساءل: هل تأثر القاسمي بالإمام محمد عبده رحمهما الله؟ . إذا عرفنا إعجاب القاسمي بالإمام، ورحلته لمصر ليلتقي به، ورأينا كثيرًا من نقوله عنه -فقد نقل فصلًا كاملًا في مقدمته، كما نقل فصولًا تامة من رسالة التوحيد في ثنايا التفسير. إذا عرفنا هذا نستطيع أن نجزم بتأثر القاسمي به إلى حد بعيد، ولعل
(1) جـ 9 ص 161.
(2)
إن هذا خطأ جسيم جدًّا من القاسمي رحمه الله، فما ذهب إليه لا ترده الأحاديث الصحيحة وحدها، بل وعبارة الآية كذلك (فأتوا حرثكم أنى شئتم)، على أن الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي رحمه الله، وهو الذي صحح هذا التفسير علق على تلك المسألة مثبتًا صحة الأحاديث التي وردت فيها.